“سادة التجسس”.. وثائقي يتسلل إلى عقول صناع القرار في المخابرات الأمريكية

 

 

يستلهم الأخوان “جيديون” و”جول نوديه” فكرة فيلمهم الجديد “سادة التجسس.. سي آي أيه في مرمى النيران” (The Spymasters: CIA in the Crosshairs)، من الوثائقي الإسرائيلي “حراس البوابة” (The Gatekeepers) الذي جمع فيه مخرجه “درور موريه” ستة من المسؤولين السابقين لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك)، وتَركَهم يتحدثون عن تجاربهم، ويَعرضون رؤيتهم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

كانت حصيلة اللقاء بعد ما يقارب الساعة والنصف صادمة، فقد اعترف أغلبهم بخيبة أملهم في الوسائل الوحشية التي اتبعتها أجهزتهم في التعامل مع الفلسطينيين، وعجزها عن الحد من مقاومتهم، بل على العكس فإنها زادت إصرارهم وعزيمتهم على الاستمرار بها، مما ترك أسئلة معلقة حول جدوى الأساليب القمعية ضدهم.

بدرجة أوسع (12 مديرا للمخابرات) وعلى مساحة زمنية أكبر (أكثر من ساعتين)، حاول الأخوان “نوديه” عرض رؤية مسؤولين أمنيين أمريكيين أشرفوا على عمل أجهزة مخابرات بلادهم خلال حقب تاريخية مختلفة، وما زالوا على قيد الحياة.

رجال المخابرات.. أسماء مشهورة ترسم السياسة الأمريكية

ضيوف الفيلم الأمريكي هم “ليون بانيتا” و”جون برينان” و”مايكل هايدن” و”جورج تينيت” و”روبرت غيتس” و”ستانسفيلد تيرنر” و”ديفيد بترايوس” و”جيمس وولسي” و”جون دويتش” و”مايك موريل” و”جورج بوش الأب” و”وليام وبستر” و”بورتر غوس”.

فريق عمل الفيلم

كلها أسماء معروفة، بحكم خطورة الأدوار التي لعبوها في رسم السياسة الأمريكية، وحساسية المناصب التي تولوها، فأحدهم كان رئيسا، وآخرون وزراء دفاع، والبقية أشرفوا على عمل وكالة المخابرات السرية (سي آي أي)، إلى جانب شخصيات لعبت أدوارا في الظل لم تخرج عن إطار ما خطط له صانعا الوثائقي المثير للجدل.

كل هؤلاء قابلهم المنتج “ماندي باتنكين” وطرح عليهم أسئلة جربوا الإجابة عليها، وفي أحيان قليلة كان يتدخل فيها ويقاطعهم، ليُضيف أسئلة أخرى تتولد في سياق أحاديثهم، ويكمن دهاء المنتج “باتنكين” في التقاطه التفاصيل الصغيرة التي بنى عليها المخرجان قاعدة بيانات ومعلومات موازية مهمة وضعها تحت عناوين فرعية، تحفز مضامينها العميقة العقل للتفكير بمدلولاتها.

عقيدة المخابرات.. سياسات توافق مذاهب الرؤساء

لو تُرك للمتعاقبين على إدارة مؤسسات المخابرات الأمريكية أن يتحدثوا دون مقاطعات وأسئلة فرعية، لجاء الوثائقي على هواهم، وبالتالي كان سيفقد معناه الحقيقي، ولأنه في الأصل لم يهدف إلى إسماع العالم وجهات نظرهم وتقويمهم الذاتي لما قاموا به أو فرصة لتبرير الأخطاء التي ارتكبوها، فقد كان الوثائقي ينشد الوصول لمعرفة طريقة التفكير التي تحكم المؤسسة السياسية والمخابراتية الأمريكية، ومن هنا جاءت أهميته.

ورغم سعة نظرته، فقد أخذ بعض الجوانب الخاصة من عمل المخابرات الأمريكية حيزاً أكبر من غيرها في ثناياه، فكان الأبرز فيه مواضيع العنف والتعذيب واستخدام الطائرات من دون طيار لتصفية المطلوبين، واللافت أن الوثائقي قد ركز بدرجة أقل على الجواسيس وعملهم، على عكس ما أوحت به مقدمته التي استهل بها مساره.

ثم سرعان ما راح يسهب في معرفة طريقة تفكير مديري المؤسسات وعلاقتهم برؤسائهم من حكام الولايات المتحدة الأمريكية، ويستخلص منها حقيقة أن وجودهم وطريقة عملهم تعكس بدرجة عالية توجه الرئيس نفسه وسياساته.

الفيلم جمع مسؤولين أمنيين أمريكيين، أشرفوا على عمل أجهزة مخابرات بلادهم خلال حقب تاريخية مختلفة

أما عقيدتهم المهنية فتتوافق غالبا مع رؤية كل رئيس لدور الولايات المتحدة، وطريقة معالجته للأزمات التي تبرز خلال حكمه، لهذا ستبدو معارضةُ “جون برينان” مدير المخابرات المركزية الأمريكية في عهد “أوباما” لأساليب التعذيب المستخدمة في غوانتانامو وغيرها متطابقةً مع مساعي رئيسه للحد منها، في حين يتوافق معه تماماً في استخدام الطائرات من دون طيار لضرب الأهداف المدنية وملاحقة الإرهابيين.

وهم امتلاك الحقيقة.. عقلية تُوجِّه الرؤساء وتبرر المحظورات

تختلط العقيدة والمبادئ والجوانب الشخصية كلها، وتسم عمل كل مدير على حدة، لكنهم يجتمعون كلهم تقريبا على وهم امتلاكهم الحقيقة المطلقة، وصحة ما يقومون به من أعمال.

كانت الدقائق الخمس الأولى مكرسة لحديث وزير الدفاع السابق “ليون بانيتا” عن خسارة بعض عملائه في أفغانستان، وشعوره العميق بالحزن عليهم، وهو ما أدى لإعطائه أوامر للمشرفين على تحريك الطائرات من دون طيار، لإطلاق النار على مدنيين أفغان بينهم أطفال، وكانت ذريعته المحافظة على أرواح موظفيه والخشية من خسارتهم.

إنها ذريعة تتقارب مع أخرى تجيز العمل وبكل الوسائل لمنع حدوث 11 سبتمبر جديدة، وستمنح أجهزة المخابرات ومسؤوليها صلاحيات شبه مطلقة وصلت أحيانا إلى مستوى تجاهلت فيه إرادة القادة السياسيين، وأخضعتهم للقبول بمخططاتها.

وزير الدفاع السابق “ليون بانيتا”

ويعترف كثير منهم بالأدوار التي لعبوها في الضغط على المؤسسة السياسية، ويبرز موضوع احتلال العراق على السطح والأكاذيب التي سربوها حول امتلاكه أسلحة دمار شامل، وأقنعت الرئيس “بوش الابن” بشن حربه لمنع “كارثة بشرية” محتملة، توافقا مع مزاج وتوجه سياسي عام متشدد.

مكابرة المسؤولين.. غوص في عقول صناع القرار

يغطي الوثائقي ما يقارب عقدين من عمل الأجهزة المخابراتية بأسلوب يجمع الكلمة بالصورة/ الوثيقة، ليثبت خلالها موقف المشرفين عليها من مواضيع محددة، مثل القتل والاغتيالات والتعذيب الجسدي، وصولا إلى احتلال بلاد الآخرين.

يلاحظ المشاهد بسهولة اختلاف نبرة كل واحد منهم وشدتها حسب الفترة التي قاد بها المنظمة، فالقدماء منهم لا يترددون في الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبتها أجهزتهم وقتها، والرغبة في عدم تكرارها، بينما تشتد النبرة وتعلو عند الذين لم يتركوا عملهم بعد، أو تركوه قبل مدة قصيرة، وما زال الجدل حول طريقة وأساليب إدارتهم قائما.

لكن يبقى من المدهش في الوثائقي قدرته على فتحه نافذة واسعة مكنتنا من النظر عبرها إلى عقول هؤلاء ومعرفة طريقة تفكيرهم، بعيدا عن المنصب وتاريخه، وبهذا المعنى فإن فيلم “سادة التجسس.. سي آي أيه في مرمى النيران” يُشرع أبوابا طرقت من قبل، لكنها لم تفتح كما فتحت على يديه بهذا الاتساع وبكمّ التوثيق الذي فيه.

“جورج تينت” مدير السي اي ايه والرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الإبن

سنلاحظ صعوبة قبول هؤلاء المسؤولين تعابير مثل “تعذيب” أو “ترهيب” حين يراد وصف أساليبهم غير القانونية في استجواب المتهمين بالإرهاب”، ويستثقلون استخدام عبارة “قتل المدنيين الأبرياء” بجريرة المتورطين بأعمال العنف.

“قتل الأشرار قبل دخولهم إلى بلادنا”

لتحليل الجوانب النفسية عند هؤلاء المسؤولين يعود الوثائقي إلى اليمن وأفغانستان وباكستان والعراق، ويعرض مجموعة من العمليات السرية قامت بها أجهزة المخابرات المركزية، وراح ضحيتها عشرات المدنيين العزل، ويتفق معظم القادة على اعتبار 11 سبتمبر نقطة تحول في عملهم وطريقة تفكيرهم، ويحيل محللون -استعان بهم الوثائقي- إلى حقيقة شعور المشرفين عليها خلال نهاية التسعينيات وبداية القرن الجديد بالفشل في رصد تحركات منظمة “القاعدة” وعدم تمكنهم من صد هجومها.

باراك أوباما رفقة فريق الأمن القومي، ومتابعة حية لعملية اغتيال أسامة بن لادن الساعة 16:06 يوم 1 مايو، 2011

يكشف المحللون عن تداخل وتقاطع عمل المؤسسات المخابراتية وخاصة بين “سي آي أي” و”أف بي آي” من جهة، وبين المخابرات العسكرية من جهة ثانية، والحقيقة المطلقة في كل ذلك، أن المؤسسة المخابراتية لم يسبق لها طيلة تاريخها أن استغلت حدثا لتقوية نفوذها كما استغلت تفجيرات سبتمبر.

لقد تكرس مبدأ “قتل الأشرار قبل دخولهم إلى بلادنا وقتل شعبنا” تماماً بعدها، مما سمح للمخابرات باستخدام كل وسائل “الحماية” كما تسميها، وتحت نفس الذريعة ستُستخدم لاحقا الطائرات من دون طيار على نطاق واسع، وسيُقبَل بكل يُسر مبدأ تعذيب السجناء واعتباره وسيلة استباقية ناجعة لحماية البلاد، مما سيؤدي إلى فتح مراكز تعذيب واستجواب خارج الولايات المتحدة الأمريكية.

أساليب التعذيب.. وسائل شنيعة تنتج معلومات وهمية

يذهب الوثائقي في تعقب الحوارات، ويعثر في تجربة كل مشارك فيها ما يكذبها، يجد دوما في تناقضاتهم ثغرة تمكنه من الدخول إلى مواقع يصعب عليه الوصول إليها لوحده. وسيلعب المُخرجان على التناقض الصارخ بين مواقف الجنرال “باتريوس” وتجربته الطويلة في العراق، وبين المشرف على أماكن الاستجواب السرية “خوسيه رودريغز” لكشف الهوة بينهما واختلاف النظر إلى مبدأ التخابر عندهما.

الجنرال “ديفيد باتريوس” القائد السابق للقوات الأمريكية في العراق، تورط فيما بعد بفضيحة جنسية دفعته للاستقالة

كان الجنرال “باتريوس” يدعو إلى الإقناع والتعامل بصبر مع السجين ومنحه وقتا قد يقتنع خلاله بتسليم وكشف ما يعرفه من أسرار، في حين يرى “رودريغير” كلامه هراء، فلا وقت لدى المخابرات تضيعه في التحقيق والمعاملة الحسنة. هناك طريقة واحدة ناجحة في انتزاع المعلومات، عنوانها التعذيب بكل أشكاله، والأخذ بالأكثر جدوى بينها، مثل الإيهام بالغرق والحرمان من النوم.

يعطي الوثائقي لأساليب التعذيب المتبعة في الاستجواب وقتا خاصا، لما يحيطها من جدل واختلاف بين مديري الأجهزة والسياسيين، ويتوصل إلى حقائق مذهلة في كل جانب منها، فالتعذيب والترهيب الشنيعان لم يحققا إلا نسب نجاح قليلة وأكثر المعلومات المستحصلة من المستجوبين غير دقيقة، بعضها وهمي ناتج عن بشاعة التعذيب.

شعور التفوق.. وهم الدفاع عن القضايا الإنسانية العادلة

كان دخول الجواسيس والعملاء والمحللين في كل مرحلة من مراحل تصاعد الوثائقي يحافظ على وحدته الجامعة لأعمال التجسس والمشرفين عليها، وتعكس شهادات بعض الجواسيس شعورا بالتفوق وتقليل شأن الآخر/ الخصم، كل الحوارات معهم تفضي إلى حقيقة أنهم ينطلقون من وهم الدفاع عن القضايا العادلة والإنسانية، ولا يفكرون في أسباب رد فعل الطرف الثاني المتضرر من سلوكهم وتعاملهم السياسي، ولا يُحيلون العنف إلى منابعه وأسبابه مثل الاحتلال وغيره، بل يركزون على النتائج.

“مايك موريل” المدير السابق لجهاز المخابرات المركزية

مقتل جاسوس في العراق أو أفغانستان يدفعهم للانتقام وكأنهم يمارسون السلوك السوي المطلوب، لكن وبالتريج ومن خلالهم يقترب الأخوان “نوديه” من الحقائق المتعلقة بالتفكير والسلوك المخابراتي، بحيث أن تجارب كثير من الجواسيس والعملاء السريين شابتها الشكوك.

كما أن تقويم مراحل عمل مسؤولي الأجهزة المخابراتية الأمريكية، حمل ضمنا أسئلة حول جدوى ما قاموا به، ما دام الخطر ظل يهدد بلادهم ولم يختفِ، أسئلة تحيل التفكير بأساليب بديلة وسياسات غير تلك المتبعة التي تولد إرهابيين وأعداء.

“هذه حرب لن يخرج منها طرف واحد منتصرا”

يكشف أحد الجواسيس العاملين في السودان أن حجم الكراهية لسياسة الولايات المتحدة خارجها لا يمكن تصورها، قلة من بينهم ستسأل لماذا؟ كلام “جون برينان” المشحون بالقلق يقترب من فكرة الحرب الضبابية الدائرة على الإرهاب، إذ يقول: لا يمكن إنهاء الإرهاب بالعنف ولا بإقفال الأبواب والتعكز على قلة الوقت المتاح لنا لتحليل أسبابه، وذلك لنعطي الدبلوماسيين والمحليين المخابراتيين فرصة دراسة الظاهرة ومعرفة كل جوانبها، لأنني على يقين من أنه لن ينتهي العنف لا في زمني ولا في زمن أولاد أولادي.

لا ينتهي الوثائقي عند هذا الحد، فيذهب ليعمق الفكرة التشكيكية بجدوى الوسائل المخابراتية المتعبة اليوم، والتوصل إلى خلاصة من خلال أحاديث كل المشاركين فيه، وقد يلخصها كلام المدير السابق لجهاز المخابرات المركزية “مايك موريل” بالتالي: هذه حرب لن يخرج منها طرف واحد منتصرا، فإذا كانت نهاية “القاعدة” وشيكة وتُحسب نصراً للولايات المتحدة الأمريكية، فإن ظهور منظمات متشددة غيرها يعد خسارة لها.

وباستعراضه الواسع لعالم المخابرات الأمريكية ونشاطها ورؤية مسؤوليها على مدى زمني طويل يقودنا الوثائقي بدوره إلى سؤال ملحاح: ما العمل المطلوب من الجميع فعله غير مواجهة العنف بالعنف؟