“المديكو: قصة كوباتون”. الموسيقى في تصادم الثقافات

 
قيس قاسم
يحكي المخرج السويدي دانييل فريديل في بداية فيلمه الوثائقي”المديكو: قصة كوباتون”  كيف تغير موضوعه، فبدلاً من التركيز والترويج للمغني والمنتج الموسيقي، صديقه وابن بلده، ميشيل ميغليس انتقل ودون تخطيط الى الشاب الطبيب وعاشق الموسيقى الكوبي راينير كازامايور الذي سمى نفسه فنياً “المديكو” ويشير فيه ضمناً الى حبه لمهنة الطب، وبموازاة الحكاية وشخصيتها الرئيسية سيدخل الفيلم الى عوالم كوبا، الجزيرة الملهمة للخيال والجدل غير المنقطع حول خيارها السياسي المتعارض مع توجه “كوني” يجعل منها نموذجاً نادراً يصعب على الكثيرين فهمه وفهم أسباب صمودها في وجه تحديات أمريكية ما أنفكت تضغط عليها بإتجاه جرها الى حضيرتها، طيلة عقود، ولم تفلح. في فيلمه يفك فريديل، ودون تحضير مسبق ولا توجه ايدولوجي، بعض رموز “كودات” العلاقة الغامضة بين إغواء الرأسمالية والتشبث، مقابلها، بقيم العدالة والمساواة الاجتماعية التي حمل لواءها قادة ثورتهم الأممية أو هكذا إعتبروها منذ تحرير بلادهم من سيطرة حكومة باتيستا الموالية للغرب عام 1959 وبمعونة مناضلين أممين جاءوا من خارج حدود الجزيرة الساحرة بينهم تشي جيفارا. لم يخطر على باله كما سيقول لاحقاً إن فيلمه سيغور في تفاصيل التصادم الحادث بين حَمَلة أفكار السوق وقوانينه وبين حَمَلة القيم والأفكار الإشتراكية، من جهة وبين من يريد التوازن بين المعسكرين من خلال الجمع بين الإمكانات التي يوفرها اقتصاد السوق وبين الاحتفاظ بالمزايا الاجتماعية للاشتراكية. كل هذا جرى وتفاعل في حقل يبدو بعيداً عن هذا الحراك والجدل. جرى في حقل الموسيقى، البعيد، كما يُظن، عن السياسة والأفكار الفلسفية والتوجهات السياسية وانعكس في تفاصيل وثائقي جمع ودون رغبة من صاحبه في أن يجعل منه فيلماً بهذا الاتساع والشمول ولكنه هكذا صار في معمعة وجوده على أرض تلك البلاد التي ما زالت تفخر بما حققت في مسار تجربتها الرائدة والنادرة!

الطب والموسيقى


أحب مديكو، هكذا يناديه الناس أيضاً، الموسيقى مثلما أحب الطب. أخلاصه لمهنته لا يضاهى فهو يعمل في عيادة تابعة لوزارة الدفاع تؤمن الرعاية الصحية لفقراء الفلاحين في أعالي الجبال النائية. يعامل مرضاه بلطف كما لو كانوا أصدقاءاً له أو من أفراد عائلته لكنه يحب الموسيقى في ذات الوقت بل هي أقرب الى قلبه من أي شيء آخر عدا والدته طبعاً، بيرثا كازامايور، فلها سلطة الأم الحنونة، الشجاعة وهو لا يتحمل زعلها مثلما لا تحتمل هي فكرة ترك ابنها لوظيفته. لقد اعتبرت دراسته الطب وحصوله على عمل جيد فضلاً من أفضال الثورة التي شاركت فيها الى جانب كاسترو ورفاقه. لن تنسى ما فعلت لها الثورة من أجل تخليصها من الفقر الذي ورثته عن عائلتها، واختيار ابنها الموسيقى على حساب الطب تعتبره نوعاً من الاجحاف بحق من ساعدهم. ذكريات الفقر يسجلها الوثائقي عبر زيارة الى بيت الصفيح الذي عاشت فيه الأم وجاعت فيه كثيراً.
مثل هكذا تحول لن يمر بسهولة في حياة الولد مديكو، الذي يذكر أفضال كوبا عليه ولا يريد ان يخذلها، بالمقابل ثمة نوازع فنية داخلية لا يمكمه تجاهلها وهي من صلب المكون الثقافي الكوبي. انها: الموسيقى. يسجل الوثائقي تأثير الموسيقى في روح الشعب الكوبي. فهي غذائهم الروحي واليومي وهي من معوضهم عن مغريات الغرب الكثيرة. بها يتسلون وتتسامى أرواحهم بسعادة سماوية، وهذا ما اكتشفه المغني والمنتج السويدي ميشيل ميغليس الذي وجد كنزاً مفتوحاً فوق الجزيرة الكوبية وأراد امتلاكه بمنظور ثقافي غربي يحمله جواته ويظنه هو الوحيد والصحيح، لهذا وجد في حماسة المطرب الطبيب أول الأمر مدخلاً اضافياً قد يدر عليه الربح والشهرة التي لم يعرفها في بلاده بل حققها بطريقة تجارية في كوبا مستغلاً مرحلة سياسية بدأت بعد استقالة كاسترو أغمض ورثته أعينهم قليلاً فيها عن بعض ما يأتيهم من ثقافة الغرب الاستهلاكية متيقنيين من فشلها لقوة ايمان الشعب بموروثه الثقافي والثوري الغنيين.

تصادم فكري
أقنع المنتج  السويدي الشاب الكوبي وسجل له مجموعة أغاني من بينها أغنية حققت رواجاً كبيراً داخل وخارج كوبا عنوانها “تشوبا تشوبا”. اعتمد تصويرها على عرض أجساد الفتيات الكوبيات، مع وجود كبير لمؤثرات صوتية خارجية. شجعت مداخيلها المالية على مضي المنتج في تسجيل “كليبات” آخرى الى شركات انتاج اسبانية وكلها أقرب الى تسجيلات البورنوغراف منها الى فن الموسيقى، أثارت اعتراضات من المشاركات فيها أولاً ورفض الطبيب للعروض التي تلتها ثانياً، بعدها ظهرت حركة احتجاج اجتماعي محدود في الوسط على هذا النوع من الموسيقى “الرخيصة”. ردود أفعال هادئة ومتماسكة جاءت من مجتمع لا يتحفظ على حرية الجسد ولا تنقصه الثورية ناهيك عن الموسيقى التي تجري في دماء أفراده. اعتراضاتهم كانت مبنية على شعورهم بالإستغلال والاستهتار بموروثهم وبقيَّم مجتمعهم الفقير مادياً والمشبع في ذات الوقت بغنى روحي وانساني لم يفهمها المنتج السويدي الذي كان يتعامل وفق ثقافته لا وفق ثقافة المجتمع الذي يعيشه فيه، لهذا ظل عصياً عليه فهم رفض طبيب شاب يتقاضى راتباً شهرياً مقداره 30 دولاراً عروضاً تجلب له آلاف الدولارات! لم يفهم من أين لأم عجوز هذا الإصرار على الموقف ورفضها لأي مسعى يريد زعزعة موقفها من موسيقى لا تحبها. في فصل طويل من الجدل والأحداث المتسارعة والمواقف المتناقضة يقتنع خلالها المنتج الموسيقي السويدي بلا جدوى استمراره العمل في بلاد لا يريد فنانونها والموهوبون فيها المال والشهرة، لهذا قرر العودة الى بلاده لكن ليست لهذة الأسباب فقط فقد ظهر رقم في المعادلة الموسيقية المعقدة نبهته الى ما كان غافلاً عنه: انها ابنته ذات ال12 ربيعاً التي تركها في السويد عند مطلقته ودعاها لحضور أعياد الميلاد عنده. فوجيء الرجل بموقفها الرافض لسلوكه وتعامله مع زوجته الكوبية ومع الفتيات التي كان يصورهن. قالت له “إنه يعاملهن ك”مومسات” وتآسى لحالهن”. هذة المرة لم يأتي الإعترض على طريقة صنعه لموسيقاه من كوبيين بل من سويدية رفضت الحط من قيمة المرأة والإنسان، ومن خلالها فهم رد فعل “مديكو” وأبناء جزيرته. لقد حسم وجودها صراعاً أخذ أبعادا سياسية وأيديولوجية في فيلم وثائقي بدأ لاهياً وانتهى عميقاً وإنسانياً، وموسيقياً بإمتياز.