“المُذنِب”.. العنف المنزلي حين يجتاح البلدان المرفّهة

 

عدنان حسين أحمد

يُصنّف فيلم “المذنب” للمخرج الدانماركي غوستاف مولر بأنه من أفلام الجريمة والدراما والتشويق، وهو يضع المُشاهِد منذ اللقطات الاستهلالية في جو من الحذر والخوف والترقّب، فثمة ضابط تحرّ خُفِّضت رتبته إلى مستوى أدنى مما اضطره للعمل في مركز طوارئ يردّ فيه على مكالمات الاستغاثة في نوبات عمله الليلي، والتي تكشف لنا على الأقل أن الدانمارك “البلد المرفّه اقتصاديا” يعاني هو الآخر من العنف الأُسري والاجتماعي، وأن مراكز الطوارئ في المدن الدانماركية تهمل الكثير من الاستغاثات ونداءات النجدة التي تقتضي الاستجابة الفورية وإرسال سيارات إسعاف لنقل الجرحى والمصابين بسبب العنف المنزلي والاجتماعي الذي يتعرّض له المواطن الدانماركي بغض النظر عن عمره وجنسه ومنزلته الاجتماعية.

 

خاطف بريء ومخطوفة ماكرة

وعلى الرغم من أنّ غوستاف مولر لم ينجز سوى فيلمين أحدهما قصير ويحمل عنوان “في الظلام” (2015) مدته 28 دقيقة، والثاني هو “اتبع المال” (2016) ومدته ساعة واحدة فقط، فإن العديد من النقاد اعتبروا فيلم “المُذنب” تحفة سينمائية متفردة، وذلك لتجاوزه تحديات المكان الضيّق الذي سينفتح شيئًا فشيئًا على الأمكنة المأهولة وغير المأهولة التي يوجد فيها الضحايا والشخصيات الأخرى المعرّضة للعنف بأشكاله المتعددة. وسوف يتم هذا الانفتاح عبر تقنيات الصوت الهاتفي، وكأن لسان حال المخرج يقول إنّ الصوت والصورة متساويان من حيث الأهمية والمقاربة التقنية، رغم أنّ الفن السابع يُراهن على الصورة ويُعوِّل كثيرًا على الخطاب البَصَري.

كما تلعب المفاجأة دورًا مهمًا في سياق هذا الفيلم المثير الذي لم يسقط في خانق الرتابة، فمثلما هناك انعطافة أولى في الفيلم تتمثل بعملية الاختطاف، هناك انعطاقة ثانية ستفاجئنا جميعًا حينما نكتشف أنّ الخاطف بريء، وأنّ المخطوفة هي المجرمة التي يجب أن تتحمل عواقب فعْلتها النكراء التي سنأتي عليها في سياق الحديث عن النسق السردي لوقائع الجريمة الغامضة.

صورة تجمع المخرج الدنماركي “غوستاف مولر” مع الممثل “ياكوب سيادرغن” الذي قام بأداء شخصية “أسغر هولم”

 

“أسغر هولم”.. المُخلِّص المتذمر

وقبل الخوض في هذه التفاصيل المهمة لا بد من الوقوف عند شخصية “أسغر هولم” التي جسّدها الفنان الدانماركي المتمكن “ياكوب سِيّادغرين”، والذي رأيناه في العديد من الأفلام الناجحة التي أبهرت المُشاهدين مثل “سرقة رمبرانت” و”القتل” و”الغضب” وغيرها من الأفلام المميزة.

في فيلم “المُذنب” نرى “أسغر” متذمرًا نافدَ الصبر، يتعاطف مع بعض الضحايا ولا يستجيب للبعض الآخر، وقد جاء قرار تخفيض رتبته لأنه أطلق النار بالخطأ وقتل شابًا يُدعى يوسف بحجة الدفاع عن النفس، ولم يكن الأمر كذلك لأنه كذب على السلطات المختصة، فهو غدًا سوف يُحاكَم آخذين بعين الاعتبار شهادة زميله “رشيد” وهي الشهادة التي قد تغيّر قرار المحكمة لمصلحته الشخصية.

لا بد من اعتبار أسغر هولم بطلاً في هذا الفيلم، فهو الشخصية المهيمنة التي تُفعِّل الأحداث، وتقود الشخصيات الأخرى التي يتواصل معها هاتفيًا، ويوفِّر لها سبل الخلاص من المشاكل والظروف الصعبة التي تلمّ بكل شخصية على انفراد.

 

نصف الحقيقة.. ونصف مباغت

عمليًا لا يخرج البطل من مركز الطوارئ وهو “اللوكيشن” الوحيد الذي يراه المتلقي، لكنه سينفتح تدريجيًا على أمكنة أخرى نستطيع أن نتخيّلها عبر الأحداث التي تقع في العاصمة كوبنهاغن وضواحيها، وسوف نعرف نيكولاي ينسن الذي تعاطى نوعًا من المخدرات في مكان مظلم، ويشعر بالخوف والذعر ولا يستطيع أن يتنفّس، ومع ذلك فهو يريد سيارة إسعاف من دون أن يزوّدهم بالعنوان الذي يوجد فيه.

كما سنتعرّف على “سورين أمستروب ريس” الذي ادعى أن مومسًا قفزت من الرصيف إلى جوف سيارته وشهرت عليه سكّينًا كبيرًا، وأخذت محفظته وحاسوبه المحمول، وتركتهُ يتخبط في ذعره لا يجرؤ على الترجّل من سيارته لقراءة اسم الشارع الذي يوجد فيه.

ثم يأتي الاتصال الثالث ليشكّل المفاجأة الرئيسية في الفيلم، حيث تدّعي “إِيبِن” أن زوجها السابق “مايكل” قد خطفها في شاحنة كبيرة بيضاء، وتركت في المنزل ابنتها ماتيلدا ذات الأعوام الستة وطفلها الرضيع أوليفر، وربما سيتخلص منها ويلقي بجثتها في منطقة نائية. تتشظى مخيلة المتلقّي بين المنزل الذي يضم الطفلين ماتيلدا وأوليفر وبين الشاحنة البيضاء التي تضم إيبن ومايكل، وسنتعرّف بالتدريج على هذين الفضاءين الغامضين اللذين تدور فيهما أحداث القصة السينمائية الرئيسية، وتؤثث بعض فراغاتها الزمنية قصصا طارئة لكنها ذات علاقة بمناخ العنف والسرقة وتعاطي المخدرات، كما هو حال المرأة التي سقطت من دراجتها والتَوَت ساقها لأنها أسرفت في تناول الخمر فطلب منها “أسغر” أن تستأجر سيارة تاكسي وتذهب إلى منزلها.

تساهم الطفلة ماتيلدا بتوضيح جانب من الحياة الأسرية، فمنها نعرف لون السيارة وحجمها، ورقم موبايل والدها وطريقة تعامله مع أمها إيبن التي كان يصرخ بوجهها إلى الدرجة التي اعتقدت فيها الطفلة أن هناك خطرًا جديًا على حياة والدتها، ولعلها لن تعود بعد عملية الخطف التي تعرضت لها.

كل ما كانت تقوله الطفلة صحيح لكنه يمثل نصف الحقيقة فقط، فيما يغيب النصف الثاني الذي خبأه المخرج وكاتب السيناريو إلى الانعطافة الثانية قبل نهاية الفيلم كنوع من المباغتة التي يكشف فيها أن مَنْ ظنناه متهمًا وهو الأب مايكل قد ظهر بريئا من تهمة قتل أوليفر وتقطيع جثته، وأنّ مَنْ اعتقدناها ضحية قد تبيّنت أنها المتهمة الحقيقية التي اعترفت بأنها شقّت بطن أوليفر بالسكين لأنه يبكي ويتألم دائما بسبب وجود الثعابين في بطنه كما تعتقد، وأنها فعلت ذلك كي تنقذه من متوالية الألم الممضّ.

 

الصمت الأزرق الكبير

كان أسغر يوجّه إيبن إلى ضرورة الدفاع عن نفسها، ويحثها على أن تضرب مايكل بكل ما أوتيت من قوة بالطوب الذي وجدته في الشاحنة، فتنجح الخطة وتهرب إلى مكان مجهول قبل أن نكتشفها واقفة على الجسر وهي تهمّ بالانتحار، لقد كانت تشعر بالذنب لأنها قتلت ابنها بطريقة بشعة، لكن أسغر كان يهدئ من روعها ويمتص توترها لأنها لم تكن تقصد قتل أوليفر، أما أسغر فقد قتل يوسف عن قصد، وهذا هو الفرق بين عمليتي القتل.

كان أسغر يمتلك قدرة كبيرة على الإقناع، وقد لعبت الجمل المؤثرة التي تفوّه بها في نهاية الفيلم دورًا مهمًا في ثنيها عن محاولة الانتحار، لأن أناسًا كثيرين ما زالوا يحبّونها مثل زوجها السابق مايكل وابنتها ماتيلدا، وحتى أسغر نفسه أحبّها واستلطف كلامها عندما تحدثت له عن “الكوكب الأزرق”، وهو حوض مائي قرب “آمار” فيه الكثير من السلاحف التي تحبها ماتيلدا، وأسماك القرش التي لا تنظر إليها أبدًا.

أما “إيبن” فإنها تراقب فقط وتتأمل في هذا “الصمت الأزرق الكبير” لتكشف لنا جانبًا من وضعها الصحيّ المرتبك الذي يستدعي أخذها إلى عيادة طبيب نفسي يحلل شخصيتها، ويعالج تخيلاتها المرعبة التي أوحت لها بوجود الثعابين في بطن طفلها الرضيع الذي راح ضحية مرضها النفسي، وهو ما يستوجب وجودها في مصحة وليس في سجن انفرادي يفاقم أزمتها النفسية المتدهورة.

لم يترك المخرج قضية أسغر التي بدت جانبية إزاء محنة إيبن التي تتمحور حولها قصة الفيلم، فلقد أدرك المتلقي أن هذا الضابط الفظّ الذي ينطوي ذهنه على دوافع غامضة وشرّيرة، قد ارتكب جريمة قتل وطلب من رشيد أن يكذب ويشهد لصالحه، لكنه في اللحظات الأخيرة التي اكتشف فيها جريمة قتل إيبن لطفلها رغم أنها لم تتعمد ذلك أيقن بضرورة الوقوف عاريًا أمام المحكمة العادلة التي ستقرر وفق المعطيات المتوفرة لديها فيما إذا كان هذا الضابط متهمًا أم بريئًا؟

ضابط التحرّي الذي خُفِّضت رتبته إلى مستوى أدنى، ليعمل في مركز طوارئ يردّ فيه على مكالمات الاستغاثة في نوبات عمله الليلي

 

المُذنب.. حين يتسيّد الصوت على الصورة

عُرض فيلم “المُذنب” في مهرجان صندانس وغالبية المهرجانات التي تلته مثل الجونة ولندن وسالونيكي، وسوف يمثل الدانمارك في مسابقة الأوسكار الـ91 لجائزة أفضل فيلم أجنبي، وذلك لتوفره على اشتراطات العمل الفني الناجح على أكثر من صعيد؛ بدءًا بالقصة السينمائية المتقنة والسيناريو المحبوك الذي كتبه المخرج غوستاف مولر بالاشتراك مع السيناريست إيميل نيغادر ألبيرتسن، إضافة إلى التصوير المذهل للفنان ياسبر سباننغ الذي أكثرَ من اللقطات المقرّبة التي تكشف عن طبيعة الأوضاع النفسية المعقدة وكان يمرّ بها أسغر هولم وهو يتواصل مع ضحايا العنف في المجتمع الدانماركي.

أما المونتاج فقد منح الفيلم انسيابية عجيبة لم تترك للملل ثغرة صغيرة كي يتسلل منها، لقد كانت المونتيرة (محررة الفيديو) كارلا لوفه بارعة في تخليص الفيلم من عثرات التصوير الزائدة، فقد مرت الدقائق الـ85 بشكل خاطف وكأنها أقصر من الزمن الحقيقي بكثير، وقد ساعدها كثيرًا الفريق المسؤول عن الصوت والمؤثرات البصرية التي تساوقت مع أحداث الفيلم الذي كان يدور في أذهان المتلقين أكثر مما يدور أمام عيونهم، فهو من الأفلام النادرة التي يتسيّد فيها الصوت على الصورة، ولم يكن لهذا التحدي أن ينجح لولا الرؤية الإخراجية لصانع الفيلم ومبدعه غوستاف مولر الذي يعِد بالكثير من الأفلام المميزة في السنوات القادمة.