“المسلخ”.. عالم التهريب الخفي للدولار في إيران

ندى الأزهري

يصوّر المخرج الإيراني عباس أميني في  فيلمه الأخير “المسلخ” قضية معاصرة تشغل بال الإيرانيين، وتلقي بظلالها على حياتهم اليومية وهم تحت الحصار الاقتصادي المفروض عليهم.

إنه فيلم يتناول العالم الخفي لسوق سوداء تتاجر بالعملة الصعبة في إيران، فالدولار الأمريكي وأسعاره في السوق هو موضوع الساعة الذي يؤثر تأثيرا مباشرا على حياة الأفراد، ليصبح مصدر بؤس فئات، ومصدر غنى لفئات أخرى.

إنها المشكلة الأهم اليوم، لكنها لم تُطرح من قبل في السينما الإيرانية، ولعل هذا عائد إلى حساسية الموضوع وصعوبة معالجته سينمائيا، كون حركة دخول الدولار وخروجه هي بيد الحكومة كما يقول أميني، وبالتالي فالحصول على معلومات رسمية بشأنه يبدو مستحيلا، لكن كانت للمخرج طريقته الخاصة في البحث.

 

عباس أميني.. مخرج الجنوب المسكون ببلده

ولد عباس أميني عام 1982، وهو مخرج شاب واعد من عبادان جنوبي إيران، وكان قد قدّم فيلميه الأولين عن شخصيات من تلك المنطقة، وهو العارف لها جيدا. ففي فيلمه الأول “فالديراما” (2016) (وهو لقب لمراهق من الجنوب بسبب شعره الكثيف المجعد) يتناول محاولات الفتى الحصول على بطاقة هوية دون جدوى، ثم هربه إلى طهران بعد تعرضه للاعتداء باحثا عن المودة والأوراق.

أما فيلمه الثاني “هندي وهُرمز” (2018) فتميّز بقصة ذات موضوع جديد أيضا، وأداء طازج  لبطلين فتيين، وبشكل مبتكر على بساطته في أسلوب الإخراج.

المخرج الآتي من عبادان (محافظة خوزستان) مسكونٌ بمنطقته على الرغم من انتقاله إلى طهران للعمل، وقد رسم لوحة مصغرة لبعض تقاليدها، مختارا  جزيرة هرمز في الخليج العربي، حيث -كما تملي التقاليد المحلية- تزوجت هندي البالغة من العمر 13 عاما من هرمز البالغ 16 عاما.

وعلى الرغم من أن المتزوجين حديثا لا يعرفان بعضهما جيدا، فإنهما يستمتعان تماما ببداية حياتهما كزوجين، لكن فرحتهما ستضيع قريبا حين يترتب على الزوج الشاب إعالة القادم الجديد، ومع كل صعوبات ومشاق الحياة التي تواجههما وتضعهما وجها لوجه أمام أحداث لها عواقب غير متوقعة.

لقطة لأمير حسين ووالده حارس المسلخ لحظة اكتشافهما لثلاث جثث متجمدة في برّاد المسلخ الذي يعمل فيه الوالد

 

“المسلخ”.. ثلاث جثث متجمدة في طهران

في فيلمه الرابع “المسلخ” انتقل المخرج إلى جغرافيا أخرى، إلى هناك في العاصمة طهران، دون أن ينسى منطقته الجنوبية، ويقحم مناظرها الجميلة وبعض شخصياتها في سرده من جديد.

عباس أميني المهتم بتحليل المشاكل التي تشغل الناس قدّم أيضا حكاية عن الطبقات الدنيا الفقيرة أو المهمشة التي تسعى لتغيير مصائرها، وهنا من خلال التلاعب بالدولار وحركة صعوده وهبوطه.

في لقطات افتتاحية حافلة بالحركة والتشويق نتعرف من خلال حدث مروّع بالشخصيات الرئيسية الثلاث، ونكشف معضلة الفيلم.

أمير شاب (أمير حسين فتحي) جرى ترحيله مؤخرا من فرنسا إلى إيران، وهو عاطل عن العمل، لهذا فهو مضطر للإقامة في منزل العائلة. أما الأب فهو حارس مسلخ يكتشف يوما وهو يتفقد المكان ثلاث جثث متجمدة في البرّاد، أما المدير (ماني حقيقي) فيحثّه على التخلص من الجريمة وكأنه هو من ارتكبها بإهماله، خوفا من مسؤوليته، ويستنجد الأب بابنه ليعاونه على التخلص من الورطة وإخفاء الجثث.

البطل أمير يدخل عالم تهريب الدولارات بالتعاون مع مدير المسلخ

 

جوّ الفيلم المُلبّد.. رائحة الأفلام البوليسية

تساهم في إضفاء هذا الجوّ المُلبّد عناصر بصرية وصوتية ذات أبعاد جمالية، من إضاءة مناسبة واستخدام لون أزرق رمادي يوحى ببرودة المكان ووحشته، إلى موسيقى تصويرية مقلقة ولقطات مقربة لوجوه فزعة، مع حركة مرتبكة وسريعة للشخصيات الثلاث، وهذا ضمن مكان محدود.

لقطات أولى ذات أجواء متوترة وغامضة لائقة بفيلم بوليسي، لكن -وعلى نحو مغاير لهذا النوع من الأفلام- سرعان ما يكشف عن شخصية القاتل في الدقائق الأولى.

من هنا بدأت هنات السيناريو الذي لم يبدُ منطقيا في تبرير فعلة الحارس وإسراعه في التخلص من جريمة لم يرتكبها خوفا من حكم بالإعدام، وهو سبب يبدو واهيا غير منطقي، ففي أحسن الأحوال يمكن إخفاء غياب رجل، فكيف بثلاثة من المتعاملين الدائمين مع المسلخ؟ كما أن استدعاء الأمن كان سيكشف سريعا أن المستفيد الوحيد من الجريمة هو مدير المسلخ.

البطل الرئيسي أمير حسين يقف مع أسما أمام المسلخ، في حوارهما عن اختفاء والدهما الذي لم يعد

 

سرّ الجريمة.. تشويق في سيناريو مُرتبك

ليُحافظ الإخراج على عنصر التشويق في سيناريو مرتبك تشتت في عدة حبكات فرعية، تُرك سرّ الجريمة وهوية المغدورين والأسباب المحتملة لقتلهم إلى فيما بعد. هكذا تُزاح الحبكة الرئيسية الأولى، وهي قضية القتل لصالح مرحلة ثانية تركز على معضلة جديدة، تتمثل بمحاولات أمير دخول عالم تهريب الدولارات بالتعاون مع مدير المسلخ، بعد أن انتبه المدير لجرأته ونباهته.

لكن جرى الإبقاء على خيط يربط بين الحبكتين، وتجسّد بوصول ابن وابنة أحد المغدورين ومرابطتهما أمام المسلخ، وإصرارهما على معرفة مصير والدهما الذي لم يعد.

عبر انخراط أمير في العمل الجديد يُخمّن سر الجريمة شيئا فشيئا، ويتبين أيضا أن الأغنام المحضّرة في المسلخ  للمتاجرة وإرسالها إلى منطقة خوزستان؛ ليست سوى غطاء لتهريب الدولارات، لتباع تلك في سوق سوداء ضخمة تنظم في ليل طهران بعيدا عن أعين الأمن.

أسلوب مُتبع لتهريب الدولارات على الحدود الإيرانية العراقية، وذلك بإخفائه في ثياب النساء القادمين من الجنوب

 

تهريب العملات من خوزستان.. تمطيط غير مبرر

بين رواح ومجيء طال قبل تطوّر الأحداث والعودة من جديد إلى الحبكة الأولى والأسئلة الأولى؛ يثقل إيقاع الفيلم في محاور لا تُضيف له الكثير، فهي لا تُستغلّ كما يجب في التعريف مثلا بشكل أكبر بشخصياته التي بقيت بعيدة عن المُشاهد، فلم يستطع تماما التفاعل معها.

وجاء التطويل في مشاهد زيارة أمير لمنطقة خوزستان الجنوبية على الحدود مع العراق بحجة بيع الأغنام دون تبرير درامي، فالمخرج هنا يُعيد ما سبق أن قدمه في مشاهد سابقة عن أسلوب تهريب الدولارات مقابل الأغنام، وذلك عبر إخفائها في ثياب النساء والرجال القادمين من الجنوب.

كما أنه بإظهاره وجود شقيق أحد المقتولين هناك لم يضف جديدا، فقد كان بيّن ذلك أيضا من البداية مع وصول الابنة من خوزستان، وقد يكون إقحام هذه المشاهد لمناظر طبيعية خلابة هناك لإضفاء بُعد جمالي إضافي على الفيلم، والمرور سريعا على سكان تلك المنطقة الذين يتحدثون بالعربية فيما بينهم، وربما أيضا هي وسيلة المخرج للعودة مجددا إلى منطقة ينتمي إليها.

لقطة من كواليس تصوير الفيلم الإيراني “المسلخ” في العاصمة الإيرانية طهران

 

بناء القصة.. جودة بصرية وهشاشة في السيناريو

يجب القول إن الاهتمام باللغة البصرية وإجادة استخدام الضوء والألوان حتى في أمكنة خالية من أي جمال بصري كالمسلخ، وأداء البطل الرئيسي أمير حسين المتوازن البعيد عن أدنى مبالغة وحضوره القوي على الشاشة؛ كلها عناصر ساهمت في إغناء فيلم ضعيف على صعيد السيناريو والحوار والشخصيات. فتلك ظلت -كما ذكرنا- سطحية لا وجود لها إلا بمقدار علاقتها بعملية التهريب أو بالجريمة، أي كأنها في خدمة الحدث فقط، وليست هي التي تفعله.

الحدث ذاته بارد وأسلوب سرده لا يدفع لتفاعل المشاهد، وإن اهتم السيناريو بحبكات فرعية، فقد كان بإمكانه التوغل أكثر، وتوضيح العلاقات الغامضة بين المهربين والاتفاقات المعقودة بينهم، وكذلك الاهتمام بالتعرف أكثر على شخصية الابنة أسما، وبوادر تلك العلاقة بينها وبين أمير، مما كان سيمنح الفيلم حيوية وغنى.

هكذا تبقى أمور معلقة في الفيلم لا تفسير لها، وهذا مؤسف في فيلم جميل بصريا ويتمتع بموضوع مهم ومشوّق وجديد.

المخرج الإيراني “عباس أميني” الذي أخرج فيلم “فالديراما” عام 2016 إضافة لفيلم “المسلخ” عام 2020

 

عباس أميني.. عشرون عاما من السينما الروائية والوثائقية

انتقل المخرج عباس أميني من عبادان إلى طهران في 2001، وبدأ العمل كمساعد مخرج في عدة أفلام روائية، كما حقق أفلاما قصيرة ووثائقية عن مواضيع اجتماعية، مثل نتائج الحرب العراقية الإيرانية على الناس وخصوصا الأطفال.

وقد عرض فيلمه الأول ” فالديراما” (2016) في مهرجان برلين في قسم “أجيال”، أما فيلمه “المسلخ” فعرض في الدورة الـ69 لمهرجان منهايم هايدلبرغ الدولي في ألمانيا الذي عُقد مؤخرا بشكل افتراضي في الفترة ما بين 12 وحتى 22 نوفمبر/تشرين الثاني، بعد أن كانت التحضيرات قد تمت لإقامته واقعيا، لكن وباء كورونا قلب المعادلات.