وحش الإنترنت.. حقائق وأرقام عن مواقع التواصل الاجتماعي وأسرارها

أرعب كل من شاهده ووقف على تفاصيله، لا لخيال جامح فيه ولا بقصّته المحبوكة ونوعية المتدخلين، بل بالحقائق والأرقام التي قدّمها حول مواقع التواصل الاجتماعي وأسرارها، واستبيان الخطر الكبير والمدمر الذي بات يهدد أكثر من سبعة مليارات إنسان ممن يعيشون فوق سطح هذه الأرض بسببها.

كما بيّن أن التكنولوجيا الحديثة التي نراها نعمة هي نقمة بالأساس، وتحمل بذرة الدمار في مصفوفتها التي صرنا جزءا من تركيبتها، فما الذي نقله فيلم “المعضلة الاجتماعية” حتى يخلق كل هذا النقاش والبلبلة في العالم؟

اختلفت نظرة ملايين المشاهدين قبل وبعد الوقوف على أحداث وتفاصيل الفيلم الوثائقي “المعضلة الاجتماعية” (The Social Dilemma) الذي أنتجته منصة نتفليكس عام 2020، وأخرجه “جيف أورلوفسكي”، فقد أصبح المشاهدون أكثر رعبا وريبة من منصات التواصل الاجتماعي وغوغل وباقي المواقع الشهيرة التي حوّلت المتصفح إلى منتج، من خلال جمع وفرز البيانات الشخصية والنفسية للفرد، عن طريق خوارزمية ذكية مطورة وفق سياق معين، ومقسمة حسب متطلبات السوق الذي تُباع له.

وقد بات المتلقي يعرف بأن مليارات الدولارات التي تجنيها هذه المنصات والمواقع عبر العالم لم تعد تعتمد فيها على الإعلانات التجارية المعتادة، فقد أصبحت هذه تقنيات كلاسيكية ومحدودة جدا، بل أصبح الدخل الرئيسي الذي تعتمد عليه بشكل أساسي هو بيع بيانات المستخدمين، أي أن كل مؤسسة باتت تمتلك بنك معلومات حول كل مستخدم وعمره وتوجهه السياسي وأكلته المفضلة وحالته الاجتماعية وميوله وأحب الأشياء إليه، وهل يملك إمكانيات مادية أم لا، إضافة إلى جهات سفره، والأخطر من هذا كله بأنهم أصبحوا يعرفون ما يفكر فيه المتصفح، وحجم الوقت الذي يقضيه، وعلاقاته الغرامية، وإلى آخره من هذه المعطيات والبيانات الحسّاسة.

صناعة الإدمان.. عبودية الإنسان لهاتفه

يحدث هذا ضمن برامج متطورة تقوم بفرز هذه المعطيات وفق سياقات معينة، ومن خلالها يمكن توزيع أي منتج على أي فئة مناسبة له، والذي يثير الفزع أكثر هو أن هذه المنصات الاجتماعية والمواقع تقوم بتغذية المتصفح بالفيديوهات والأخبار التي تشد انتباهه، وتتركه لساعات أخرى أمام الحاسوب، وبالتالي تضمن تسويق المنتج الذي تريده.

وفي الوقت نفسه يصبح المتصفح سجينا عند هذه المعطيات السلبية، حيث ينسى عالمه، وينفق الكثير من الوقت عليها، وبالتالي يدخل في عوالم من الإدمان والتنصل من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي، وتصبح مع الوقت شريحة واسعة من الشباب والمراهقين -وبدرجة أقل كبار السن- يعيشون حياتهم وفق سياق ما تريده منهم هذه المنصات، أي أن بوسعها تسييرهم وفق المنتج الذي يودون تسويقه، وحتى إن لم يكن هناك منتج دائما، فالقاعدة الأساسية التي يعتمدون عليها هي إبقاء المتصفح مهما كان سنه أو جنسه أكبر وقت ممكن أمام الهاتف أو الحاسوب، حتى يصبح جاهزا دائما إلى استقبال أي منتج في أي وقت، وبالتالي ضمان منبع من المال لا ينفذ مطلقا.

“لا يدخل شيء ضخم إلى حياة البشر دون لعنة”

استشهد فيلم “المعضلة الاجتماعية” في بدايته من خلال شاشة سوداء كتبت عليها مقولة لأحد عظماء كُتّاب المسرح والتراجيديا الإغريقية “سوفوكليس” الذي قال “لا يدخل شيء ضخم إلى حياة البشر دون لعنة”. لينتقل الفيلم بعدها ليعرض صورا ومشاهد مُصوّرة وسريعة للدمار الذي حدث في العالم خلال السنوات القليلة الماضية، وهذا ببث مشاهد أرشيفية توثيقية للحروب والمظاهرات والكوارث والثورات والاحتجاجات والعنف والتصفية والقتل، وغيرها من المظاهر الأخرى التي يقف خلفها الإنسان.

من خلال بث تلك الصور يودّ الفيلم إيصال فكرة أولية يمكن أن يثير من خلالها المتلقي، ويفتح أمامه جملة من الأسئلة التي تنتظرها أجوبة معينة وجازمة، وتُفيد بأن كل تلك الأحداث التي وقعت ترجع بشكل أساسي إلى منصات التواصل الاجتماعي والمواقع.

ومن هنا يطرح سؤال مبدئي ومشروع من قبل المتلقي الذي سيقول ما علاقة كل هذا بما تقوم به هذه المنصات الاجتماعية؟

شهادات المطورين والخبراء.. وشهد شاهد من أهلها

تأتي مشاهد الوثائقي الصادمة عن طريق الشهادات المهمة والمقابلات التي جاءت مع خبراء ومطورين سابقين كانوا يعملون سابقا في شركات فيسبوك وإنستغرام وتويتر ويوتيوب وغوغل، هؤلاء كانوا من الذين ساهموا في بناء هذه القوة التكنولوجية الكبيرة، لكن ما أن عرفوا بأن الأمر يتجه إلى القضاء على الجنس البشري والحياة العادية؛ قرروا ترك أعمالهم ومناصبهم الحساسة والتفرغ للتحسيس بخطورة هذا الغول الذي سيتلهم ما بقي من حضارة الإنسان وطريقة عيشه وقيمه.

الخبير السابق في أخلاقيات التصميم لدى غوغل “تريستان هاريس” يقدم شهادته أمام لجنة الكونغرس بعد أن ترك العمل لدى غوغل لعدم مراعاتها أخلاقيات الإنسان

من بين هؤلاء رجل الأعمال والمبرمج السابق “غوستين روزنشتاين”، والمؤلف وعالم الحاسوب “غارول لانييه” الذي ألّف العديد من الكتب حول خطورة تلك المنصات، والمبرمج ورجل الأعمال “أزا راسكين”، وعالم النفس “شوشانا زابوف”، ورئيس مركز التكنولوجيا الإنسانية والخبير السابق في أخلاقيات التصميم لدى غوغل “تريستان هاريس”، وغيرهم من الأسماء الأخرى المهمة والفاعلة في هذا المجال.

جميعهم كان لهم دور ريادي ومهم، وقد انسحبوا منها بعد أن عرفوا بأن هناك أخطارا كبيرة تهدد الجنس البشري، وعرفوا بأن تلك الشركات لا تهتم مطلقا بالجانب الأخلاقي والإنساني، وصنعت بقصد أو غير قصد مصفوفة خطيرة ستعمل على إفراغ العالم من قيمته الإنسانية، وبالتالي خرجوا عن صمتهم وكرّسوا كل وقتهم لتوعية المجتمع بالخطر الكبير الذي بات يهدد تماسك أسرهم، وبالحروب التي ستندلع من خلالها، وبالتصفيات العرقية التي حدثت وستحدث، والدكتاتوريات التي ستقوى، وبحرية التعبير التي ستنقرض، وبالأخبار الكاذبة التي ستنتشر، وبالأفكار الهزيلة والخرافات والادعاءات غير المسنودة بأي أساس ستنتشر.

لقد كرسوا وقتهم وجهدهم حتى يعرف العالم حقيقة مواقع التواصل الاجتماعي التي تبيع روادها من أجل المال، ولا تهمها التأثيرات السلبية التي تحدث لهم بعدها.

حبل الانتحار ووقود الحرب.. ناقوس الخطر

دق المتدخلون في الفيلم ناقوس الخطر، ودعوا الجهات المعنية إلى تجريمها، لكن هناك من يرى هذا الأمر مستحيلا، فالمتدخلة ضربت مثالا بأن الإنسانية قادرة على فعل هذا، حيث سبق لها وأن جرّمت التجارة بالعبيد والأعضاء البشرية، وهو أمر كان من الصعب في وقته لكنه حدث، لأن ما تحدثه المنصات الاجتماعية أكثر خطورة مما أحدثته تجارة العبيد والأعضاء البشرية والأسلحة.

وتنعكس الخطورة الكبيرة في الأرقام التي تَقدّم بها مختصون في الفيلم، حيث رصدت ارتفاع مؤشرات الانتحار لدى المراهقين بنسبة 62%، والكبار بنسبة 70%، والصغار بنسبة 150%، وهذه الأرقام جرى تحصيلها بين 2010 و2013 مقارنة بما بعدها، وهي المدة التي دخلت فيها المنصات بقوة إلى السوق العالمي. كما لوحظ بأن هناك نسبة كبيرة بين المراهقين فقدوا الثقة في أنفسهم، وأصبحوا أكثر عرضة للكآبة والانتحار.

الإنسان المُتصفّح تحوّل إلى مُنتج ودمية تُحركه منصات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت التي يتابعها

خلص المتدخلون إلى أن خوارزمية تلك المنصات هي من أشاع الخراب في العالم، وزادت في نسب العداء بين الديمقراطيين والجمهوريين في أمريكا مثلا، وهي من هيّجت وحرضت على التمييز العنصري وقتل وإبادة الروهينغا في ميانمار، كما خلقت العديد من المواجهات المباشرة بين الشعب الواحد في العالم.

وقد توقع المتدخلون بحسب خبرتهم أن البيانات المجموعة داخل تلك المصفوفات ستساهم -وقد حدث سابقا- في الخيارات السياسية والانتخابات، وهو أمر سيخلق العديد من الحروب مستقبلا وسيدمر الاقتصاد، كما ستقع العديد من الحروب الأهلية في مناطق عدة من العالم.

خلق المشاهد الدرامية.. بلاغة اللغة السينمائية

اعتمد الفيلم من الناحية الفنية على خلق مشاهد درامية تمثيلية تخدم في سياقها العام ما يودّ العمل قوله وتقديمه للعالم، وذلك من خلال عائلة مكوّنة من خمسة أفراد، منهم طفلة مدمنة على الهاتف وتنشر صورها على مواقع التواصل الاجتماعي، ومع كثرة الملاحظات السلبية التي أُطلقت على شكلها أصبحت لا تثق بنفسها، وبدأت تعيش بكآبة عارمة.

أما الأخ الآخر فهو مراهق مدمن على الإنترنت يُعجب بفتاة في مدرسته من خلال تصفح حسابها، لتصبح المنصة تنشر فيديوهات تُعاكس نفسيته ومزاجه، وباتت تتابع المنشورات التي تعكس حالته النفسية. أما في الجهة الأخرى فهناك أشخاص مُفترَضون يُسيّرون هذا الشاب وفقا لسياق المصفوفة وخيارات بنك المعلومات الذي يجمعونه حوله، ليُسيّروه حسب ما تقتضيه أهدافهم الربحية، وكأن هذه المشاهد التمثيلية تدخل المتلقي لفهم عمل المنصات، وكيفية سيطرتها على الفرد وسلوكه، ليصبح في الأخير مجرد آلة تحركها تلك المنصات.

منصات التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر وإنستغرام وتيك توك التي تهدف إلى القضاء على الجنس البشري والحياة العادية

من هنا تبدأ الخطورة الكبيرة، حيث بدأت المصفوفة في توجهه السياسي، ومن خلال المحتوى الذي يصل إليه وجد نفسه في الشارع في مواجهة مباشرة مع خصوم سياسيين آخرين، وهو انعكاس واضح على أن هذه المنصات باتت تشكل خطرا على الديمقراطية، وفي الوقت نفسه توجه الناس وفق سياق معين.

وقد حدث هذا في الانتخابات الأمريكية السابقة في عهد الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” حين واجه “هيلاري كلنتون”، وقد تغيرت المعادلة السياسية من خلال تحريك البيانات التي تملكها تلك المنصات وتوجيه الناخبين، لتصبح هذه التكنولوجيا الحديثة التي تصدر من مخابر “سيليكون فالي” خطرا ليس على الأمريكيين فقط، بل على العالم أجمع وعلى الأجيال القادمة.

“لا يمكن تمييزها عن السحر”.. حديث الحكماء

لقد حاول الفيلم أن ينتصر للإنسان وحكمته، حيث استدعى العديد من صُنّاع الحكمة والكلمة الجميلة، وقد وزعوا أقوالهم المتناثرة على مفاصل الفيلم، حتى لا ينسى الإنسان تاريخه وينتصر لجنسه، فمن ذلك مقولة “أرثر سي كلارك”: إن أي تقنية متقدمة بما فيه الكفاية لا يمكن تمييزها عن السحر.

ومقولة “بوكمنيستر فولر”: سواء كان الأمر يتعلق بالمدينة الفاضلة أو النسيان، فسيكون هذا سباق تتابع وسريع حتى اللحظة الأخيرة.

ومقولة “سوفوكليس”: لا يدخل شيء ضخم إلى حياة البشر دون لعنة.