“المفاوضة”.. المافيا والدولة وكشف المحظور

أمير العمري

من أهم ما عرض من أفلام وثائقية في الدورة الـ 71 من مهرجان فينيسيا السينمائي فيلم “المفاوضة”  La Trattativa الإيطالي للمخرجة سابينا جوزانتي Sabina Guzanti.ولعل أفضل ترجمة ممكنة للعنوان من أصله الإيطالي هو “المفاوضة” وليس “التفاوض”، فكما أن الكلمة تعني التفاوض على شكل من أشكال التعاون الذي يخدم

المصالح المشتركة بين طرفين أو أكثر، فهي تحمل أيضا معنى “المقايضة”، أي التنازل عن شيء مقابل الحصول على شيء. وهذا هو المعنى المقصود تحديدا في هذا الفيلم الوثائقي الممتع الذي أثار أكبر اهتمام صحفي وإعلامي من بين أفلام المهرجان من جانب الصحافة الإيطالية، رغم أنه عُرض خارج نطاق المسابقات والجوائز.
قبل أن نتناول الفيلم نفسه يجب أن نشير إلى أن مخرجته سابينا جوزانتي، ممثلة ومقدمة برامج ساخرة ومخرجة ومنتجة وكاتبة سيناريو إيطالية (من مواليد )1963، وهي إبنة باولو جوزانتي، النائب السابق في البرلمان الإيطالي عن حزب “فورزا إيطاليا” (أي قوة إيطاليا) وهو حزب رئيس الوزراء السابق سلفيو بيرلسكوني أكبر محتكر للشبكات الإعلامية في إيطاليا والذي تولى رئاسة الحكومة مرتين. لكن الرجل اختلف مع بيرلسكوني واستقال، بعد أن وجه انتقادات شديدة لسياسات الحزب.
تصدّت سابينا من قبل لكشف مخالفات بيرلسكوني والسخرية من شخصيته قبل أربع سنوات من خلال فيلمها الوثائقي الشهير “دراكيلا: إيطاليا تهتز” (سبق أن قدمنا نقدا تفصيليا له على هذا الموقع في حينه يمكن الرجوع إليه)، وكانت تستخدم أسلوب الصحافة الاستقصائية التليفزيونية في تصوير كيف استغل بيرلسكوني، رجل الدعاية البارع، الزلزال المدمر الذي وقع في بلدة لاكيلا وأدّى إلى مقتل 300 شخص وتشريد 70 ألف آخرين، من أجل استعادة شعبيته المتراجعة، وكيف توجّه مباشرة إلى موقع الزلزال، وأخذ يتعهد بتوفير مسكن بديل لكل أسرة بحلول الخريف، ويشرح أمام كاميرات التليفزيون كيف ستكون كل شقة مفروشة بالكامل بما في ذلك التفاصيل الصغيرة، بل ومع “كعكة كبيرة وزجاجة شمبانيا في الثلاجة” أيضا، لكننا نرى كيف أرغم السكان على مغادرة المدينة، وأرسلت السلطات 30 ألفا منهم للإقامة في فنادق على الشاطئ البعيد بشكل مؤقت، حتى أولئك الذين لم تتضرر منازلهم، كما أرسلت باقي السكان للإقامة داخل خيام في منطقة معزولة، تحاصرها قوات الجيش التي تحظر عليهم الاتصال بالصحافة والإعلام.

تعود سابينا في فيلمها الجديد على صعيد أكبر من حيث الطاقات الإنتاجية التي توفرت والإتقان الحرفي أيضا بعد أن أصبحت أكثر مهارة في استخدام الأساليب الحديثة المتطورة في صياغة الفيلم الوثائقي، فهي تستخدم الوثائق المصورة، مواد الأرشيف التي تقتضي بحثا مكثفا وعميقا، الممثلين الذين يقومون باعادة تمثيل أدوار الشخصيات الحقيقية التي يدور حولها موضوع الفيلم (وهي شخصيات عديدة) نراهم وهم يتناقشون مع المخرجة قبل التصوير كيف سيقومون بأداء الدور، أو وهم يتوقفون أثناء الأداء أمام الكاميرا، ويعلقون على حدث ما أو جانب ما من جوانب تلك الأحداث الدامية التي شغلت الرأي العام في إيطاليا ولاتزال، منذ 30 يناير عام 1992 الذي يعتقد كثير من الإيطاليين أنه “اليوم الذي غير تاريخ إيطاليا”.
في ذلك اليوم إنتهت المحكمة إلى إصدار حكمها على أحد أكبر زعماء عصابة “كوزا نوسترا” التي تعرف بـ “المافيا”. وعلى الفور بدأت المافيا سلسلة من التفجيرات والاغتيالات شملت عددا من المدن الايطالية والشخصيات البارزة. وكانت تلك الأعمال موجهة لإحراج رجال السياسة من الديمقراطيين المسيحيين والاشتراكيين الذين جاءوا إلى البرلمان والسلطة، عن طريق دعم المافيا لهم، لكنهم خضعوا للضغوط التي تُطالب بالتشدد في التصدي لنشاطات المافيا والقبض على زعمائها ومحاكمتهم وإنزال العقاب بهم.
أغتيل أولا القاضي باولو بورسالينو في انفجار شديد ثم أعقبه اغتيال القاضي الذي حلّ محله في محاكمة زعماء المافيا، جيوفاني فالكون. من هنا بدأت “المفاوضة” بين ممثلين على مستوى عالٍ داخل الحكومة الإيطالية، وبين زعامات داخل تنظيم المافيا، على وقف التفجيرات والاغتيالات مقابل التغاضي عن إصدار قوانين كان من المقرر أن يترتب عليها الحدّ من نشاطات العصابة الدولية الرهيبة.

قبل يومين من عرض فيلم سابينا جوزانتي في مهرجان فينيسيا الأخير، كانت تلك “المفاوضة” مجرد تكهنات أو أقوال قد تكون مرسلة، لا دليل على صحتها، غير أن كبير زعماء المافيا المدعو سلفاتوري رينا Salvatore Riina الذي يعرف بـ “توتو” وهو يقضي عقوبة في السجن منذ 1993، صرّح من داخل السجن لإحدى الصحف الإيطالية الكبرى، بأنه شخصيا اجتمع سبع مرات مع رئيس الحكومة الإيطالية الأسبق جوليو أندريوتي. وكان رينا قد اتهم من قبل بمقابلة أندريوتي عام 1987 وتبادل قبلة معه أيضا، كما اتهم أندريوتي نفسه وخضع للتحقيق بتهمة التعامل مع المافيا وإقامة اتصالات مع رينا، لكن المحكمة برّأت ساحته. وقد توفي عام 2013.
تعيد سابينا جوزانتي في فيلمها بناء الأحداث بتسلسلها المنطقي في فيلمها المثير، فتبدأ بأحد أفراد المافيا، كان قد تحوّل داخل السجن من مجرم إلى اعتناق الكاثوليكية، وأبدى ندمه وتوبته وأصبح مستعدا للشهادة ضد زعماء العصابة. ونحن نرى الممثل الذي يقوم بدوره وهو يجلس أمام المحققين في حضور المخرجة وفريق الفيلم يراقب كأنهم أعضاء هيئة المحلّفين، ,أحيانا يتدخلون أو تتدّخل المخرجة وهي توجّه سؤالا أو أكثر إلى الشاهد. ويروي هو تفاصيل عمليات القتل والتصفية والاغتيالات التي شارك فيها، وأهمها بالطبع تفجير سيارة القاضي فالكون وثلاثة من ضباط الشرطة كانوا يحرسونه، ثم التفجير الذي حدث خارج منزل والدة القاضي بورسلينو في باليرمو وأدّى إلى مقتله.
تظهر سابينا جوزانتي في بداية الفيلم تواجه الكاميرا مع فريقها من الممثلين وتقول مخاطبة الجمهور: إننا مجموعة من العاملين في صناعة التسلية. وهي تحذر الجمهورمما سيأتي خلال الفيلم، وتقول إنه رغم أن الأحداث معروفة ومنشورة إلا أنها ستكشف للمرة الأولى عن مسارها حسب الترتيب الزمني، وتُقدّم صورة واضحة للمؤسسات والأفراد الذين ظلّوا طويلا في الظلّ، وتُبين أدوارهم المحتملة في تلك الأعمال، بتركيز خاص على الصفقة أو “المفاوضة”.

إنها تجعل من مشاهدة إعادة التمثيل متعة خاصة تقرب المشاهدين من المادة الوثائقية التي تُروى الآن في شكل قصصي درامي، ولكن مع استخدام الوثائق والمواد المصورة وقصاصات الصحف التي تم تجميعها معا بحيث تربط بين الوقائع المفككة وتجعل لها منطقا مفهوما الآن، كما تستخدم ممثلين يلعبون أدوار القضاة والمحققين والسياسيين والقساوسة وضباط الشرطة الفاسدين ومجرمي المافيا أو ضحاياهم (تظهر أيضا الزوجة الحقيقية للقاضي فالكون في تصريحات مصورة لها تليفزيونيا عقب اغتيال زوجها مباشرة).
ويصل الفيلم إلى ذروته عندما نرى من أكثر من زاوية، دلائل على أن حزب “فورزا إيطاليا” الذي أسسه جماعة من السياسيين ورجال الأعمال وضباط شرطة سابقون، كان هدفه الأساسي مواجهة ما أطلق عليه بيرلسكوني نفسه “القضاة الحمر” أي الشيوعيين، فقد كان يرى أن كل من يقضي بمواجهة الفساد القائم في الدولة شيوعيا يجب التصدي له، ورغم أنه لم تكن لبيرلسكوني أي صلات بالمافيا ولذلك اختير زعيما للحزب الجديد حتى لا يلفت الأنظار، يعتبر الفيلم أن هذا هو أكبر دليل على أن بيرلسكوني كان على صلة بالمافيا، وأنه كان الأصلح بالتالي لتولي قيادة الحزب الذي كان تأسيسه أصلا بغرض وقف محاكمة كبار زعماء المافيا وتخفيف الأحكام الصادرة عليهم، بل تصل سابينا جوزانتي في فيلمها إلى التدليل على أنه تم في الكثير من الأحيان إهمال التحقيق مع الكثير منهم، أو تغاضي القاضي عن تمحيص الأدلة. وكانت سياسة التفاوض بين الحكومة والعصابة هي التي تمكّنت من وقف التفجيرات في النهاية لكن الثمن الذي دُفع كان باهظا.

يربط الفيلم بين الوقائع المختلفة في سلاسة وبراعة كبيرين، من خلال المونتاج الذهني الذي ينتقل ويتابع ويعود إلى نقطة البدء ويجعل المشاهد نفسه طرفا في الفيلم عندما يترك له مساحة للتساؤل، والتأمل.
فيلم “المفاوضة” نموذج فذّ لدور الفيلم الوثائقي في المجتمع. وكان من الطبيعي أن يرفض المهرجان عرضه في المسابقة لما يُمثله من إحراج واضح للحكومة الإيطالية ولبعض المسؤولين الحاليين والسابقين. ولكن هذا لا يمنع من أن الفيلم واجه بعض ردود الفعل السلبية التي اتهمت مخرجته بالاستناد في بعض مزاعمها على “نظرية المؤامرة”، وبأنها أضرّت بجدية الموضوع عندما لجأت الى استخدام وسائل الدعاية السياسية المباشرة، خاصة عندما ظهرت في الفيلم أكثر من مرة في دور بيرلسكوني نفسه على سبيل السخرية. لكن لعل شهادة رينا الدامغة أبلغ دليل على أن الفيلم لم يخترع الأشياء وأنه لابد وأن تكون له مزيد من التداعيات على أرض الواقع السياسي الايطالي المليء بالزخم دوما. ولننتظر ونرى!