الملك الخارج على القانون.. استنطاق التاريخ أم تطويعه؟

عدنان حسين أحمد

 

يُعتبر فيلم “الملك الخارج على القانون” تُحفة فنية متفردة في تجربة المخرج الأسكتلندي “ديفيد ماكنزي” الذي بلغ رصيده الروائي عشرة أفلام طويلة، إضافة إلى أربعة أفلام تلفزيونية قصيرة. أما مردّ هذا التفرّد في فيلمه الجديد فيعود إلى انطوائه على خمسة تصنيفات في آنٍ معًا وهي الحركة والدراما والتاريخ والسيرة الذاتية والحرب.

فلا بدّ للمُتلقي أن يتوقع مفاجآت عديدة على مدار الفيلم الطويل الذي بلغت مدته 121 دقيقة تتجلى فيها التماعات الحُب، وتُهيمن عليها الكمائن والغارات والمعارك الحربية التي ترتعد لها فرائص المُشاهِدين وهي تعود بنا إلى مآثر المقاتلين الأسكتلنديين في أوائل القرن الرابع عشر وهم يوحِّدون صفوفهم لمواجهة الجيش البريطاني الجرّار الذي يبلغ تعداده ستة أضعاف الجيش الأسكتلندي الذي اشتمل بالكاد على 500 فارس يقاتلون مثل الوحوش الضارية المحاصرة في خانق ضيّق.

تتمحور القصة السينمائية لهذا الفيلم على فكرة جريئة مفادها؛ هل يمكن للأمة الأسكتلندية أن توحِّد نفسها وتنفصل عن إنجلترا التي كانت تمتلك أقوى جيش في العالم، أم أنها تظل تدور في فلك المملكة المتحدة القوية سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا؟

تعزيزًا لهذه الفكرة الجوهرية التي تقوم عليها ثيمة الفيلم هناك أسئلة فنية لا تقل أهمية عن سابقتها من قبيل؛ هل يمكن للتاريخ أن يكون خادمًا للسينما، أم أنّ العكس هو الصحيح، خصوصًا وأنّ المخرج لم يلتزم حرفيًا بالوقائع التاريخية، كما عدّل في رسم بعض الشخصيات الرئيسية التي تخدم رؤيته الإخراجية الرصينة؟

وإذا كان “ميل غيبسون” قد قدّم بطله في فيلم “القلب الشجاع” الذي جسّده بنفسه من منظور وطني معادٍ للإنجليز، فهل يمكن أن يكون روبرت ذا بروس المتمرد والخارج على القانون بطلا مناوئًا للإنجليز ومناهضًا لسياستهم التوسعية القائمة على استعمال القوة المفرطة لتركيع المتمردين والثائرين على الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس؟

سنحاول في هذه الدراسة النقدية الإجابة على هذه الأسئلة المهمة المبثوثة في ثنايا الفيلم الذي أُنجز في ظرف حرج ترتفع فيه نغمة الانفصال عن الحاضنة الإنجليزية التي لم تعد مريحة لغالبية الشعب الأسكتلندي.

 

أسكتلندا.. عرش بلا وريث واحتلال بريطاني

تنطلق أحداث الفيلم من قلعة سترلينغ المحاصرة في عام 1304، واستسلام النبلاء الأسكتلنديين وأبرزهم جون كوميون وروبرت ذا بروس اللذين يتنازعان على تاج العرش الأسكتلندي، لكن بقاء العرش بلا وريث دفعهم إلى تفويض ملك بريطانيا إدوارد الأول لاختيار وريث جديد، غير أنه استولى على الحكم واحتل البلد، وعامل المواطنين بقسوة مفرطة حفّزت الشعب الأسكتلندي على الثورة التي قادها الفارس وليام والاس وأفضت إلى نشوب حرب مدمرة بين الطرفين هُزم فيها الأخير في معركة فالكيريك، وتوارى عن الأنظار بحسب القصة السينمائية. أما قصته الحقيقية فتقول إنه عُذِّب تعذيبًا شديدًا قبل أن يُعدَم ويُقطع رأسه ويُوضع على جسر لندن، إلى آخر هذه الحكاية التاريخية المروّعة التي استقرت في الذاكرة الجمعية للمواطنين البريطانيين والأسكتلنديين معًا.

تعهّد النبلاء الأسكتلنديون بالولاء لإدوارد الأول ملك إنجلترا، وعدم رفع السلاح في وجهه، فأعاد لهم الأراضي التي صادرها منهم، وحمّلهم مسؤولية الدماء التي أُريقت وكان بالإمكان حقنها، وخلُص إلى القول إن إنجلترا ستستمر بحكمها لإقليم أسكتلندا، وستأخذ الضرائب بانتظام. أما إدارة الإقليم فقد أسندها إلى اللوردين جون كومين وروبرت ذا بروس شرط أن يعملا تحت إشراف نائب الملك آيمر دو فَيلَنس، وطلب منهما أن يتصافحا ويضعا خلافاتهما جانبًا ويعود الجميع أصدقاء كما كانوا من قبل.

لا بدّ من التنويه إلى أن الانعطافة الأولى في الفيلم هي المبارزة التي طلبها الأمير إدوارد الثاني من روبرت ذا بروس، وذكّره بأنه كان يخسر أمامه في المبارزة بالسيوف الخشبية حين كانا صغيرين، وها هو الآن قد نضج واشتدّ عوده ويريد أن يختبر خصمه القديم. لكن المبارزة لم تستمر طويلاً، فقد طلبه الملك على وجه السرعة ووبّخه على طيشه وعدم شعوره بالمسؤولية. ستكون هذه المبارزة هي أشبه بالاختبار الأولي لمبارزة نهائية وحاسمة تحدث قبل الدقائق الأخيرة من نهاية الفيلم، أما جيمس دوغلاس الذي جاء ملتمسًا استعادة أراضي والده التي أهداها الملك إلى ريتشارد كليفورد فلم يَلقَ آذانًا صاغية، فقد وبّخه الملك وأخبره بأن أراضي الخونة تُصادر ويتمّ التصرّف بها حسب مشيئته.

يقترح الملك أن يتزوج روبرت ذا بروس من إليزابيت ابنة القائد الباسل والخادم المخلص للعرش ريتشارد دي بيرغ، وذلك كي تتقوّى أواصر الدم بين الطرفين، فيوافق بروس على هذا المقترح ويتزوج من إليزابيث التي تمنّعت عليه في الأيام الأولى، لكنها أرخت له الطبع وأسلست له القياد وأحبّته حُبَا جمًّا قلّما تجود به الأزمان.

تعهّد النبلاء الأسكتلنديون بالولاء لإدوارد الأول ملك إنجلترا، وعدم رفع السلاح في وجهه، فأعاد لهم الأراضي التي صادرها منهم

 

طعنة في الكنيسة

بعد سنتين من دفع الضرائب بشكل منتظم بدأ الأسكتلنديون بالتململ من سياسة الإنجليز وطريقة تعاملهم المتغطرسة مع عامة الناس، ثم جاءت حادثة مقتل وليام والاس المروعة وتقطيعه إلى أربعة أجزاء لتزيد الطين بلّة، وتحفّز الشعب الأسكتلندي على التمرّد والثورة بمن فيهم إليزابيث المتحالفة مع الإنجليز والتي اصطفت إلى جانب زوجها وقررت دعمه مهما كلّف الأمر، رغم أنه كان يشكك في ولائها بسبب الدماء الإنجليزية التي تسري في عروقها.

أما مُنافِسه اللورد جون كوميون فقد رفض فكرة الثورة جملة وتفصيلا، وهدّد بإبلاغ الملك إدوارد إنْ هو أقدم على هذه الخطوة العبثية فيدور بينهما حوار عميق لا تنقصه الصراحة، فكوميون يرى أنهم انهمكوا في الحروب والثورات والانتفاضات لثماني سنوات متتالية لكنهم لم يحققوا هدف الاستقلال المنشود، وأن الشعب الأسكتلندي قد تعب من الحروب والمعاناة والتضحية بالأرواح التي تذهب سُدى في معارك غير متكافئة.

أما بروس فيحلم بتأسيس جيش قوامه 20 ألف رجل، وأن يضع خلافاته جانبًا، وأن يحقق العدالة لروح الثائر وليام والاس التي تناهشت جسده الذئاب البشرية الإنجليزية التي أخرجت أحشاءه وأحرقتها أمام الملأ.

يصل الخلاف ذروته حين يعتقد كوميون بأن وليام والاس لم يكن فردًا وإنما فكرة مدمرة وخطيرة، وأنها لا تستحق عناء الثورة أو التمرد بأي حالٍ من الأحوال، عندها يطعنه بروس طعنة قاتلة تودي بحياته، وحين يسمع الملك بالحادثة التي وقعت في الكنيسة بوصفها مكانًا مقدّسًا، يعلن رسميًا أن روبرت ذا بروس قد أصبح خارجًا على القانون، وأن مَنْ يؤويه سيتم إعدامه من دون محاكمة، وأنّ نجله إدوارد الثاني سيرفع راية التنّين ويعلن بأن قوانين الفروسية قد ولّت إلى الأبد، ولا مكان للرحمة بعد الآن.

أنغوس وزوجته التي تذمرت لأن زوجها غاب عنها لثلاثة شهور، حيث كانت تتحرّق شوقًا لرؤيته في كل يوم

 

تتويج ملطخ بالدماء

يدعو بروس مجلس النبلاء إلى الانعقاد رغم معارضة الغالبية التي ترفض نقض الوعد الذي قطعته على نفسها، لكنه يتجه إلى “إسْكون” ويُتوَّج ملكًا على الأسكتلنديين بمباركة الكنيسة مقابل التعهّد بدعمها.

وبما أن إسْكون قريبة من الثكنة العسكرية الإنجليزية بيرث فإنها ستكون عُرضة لهجوم مباغت ولقمة سائغة للقوات الإنجليزية التي تتربص بهم الدوائر، وبالكاد ينقذ زوجته إليزابيث وابنته مارغوري من السهام التي تتساقط فوق رؤوسهم، ويسلمهما إلى شقيقه نيل الذي يأخذهما في الحال إلى كيلدرومي، طالبًا مساعدة اللورد فريزر بنقلهما إلى فرنسا.

بينما يواجه بروس مصاعب جمّة بعد هذه المعركة الخاسرة، فإن اتجه جنوبًا فسيجابه رجال فَلَينس، وإن اتجه شمالاً فسيواجه رجال ماغدوغال، وحين يأخذ الخيار الثاني يضحي بأخيه ألكساندر وبعض رجاله أيضًا.

ومع ذلك لم يرضَ الأمير النزق إدوارد الثاني الذي يريد الرجل الخارج على القانون حيًا أو ميتًا، ويقرِّع فَليَنس على تقصيره لأنه يمتلك اليد الطولى، ويتوفر على عنصر المباغتة لكنه لم ينجح في مهمته. يصل الأمير إدوارد إلى الأراضي الأسكتلندية ويبحث عن بروس في قلعة كيلدرومي، فيجد “نيل” شقيق الملك الخارج على القانون ويعدمه، بينما يعيد زوجته إليزابيث وابنته مارغوري إلى إنجلترا.

وبينما كان بروس يلوذ بجزيرة آيلا النائية، يقرر بروس استعادة القلعة التي سقطت بعملية ناجحة تُلهمه فكرة الشروع بحرب العصابات، خاصة وأن شملهُ قد التأم بأخيه توماس.

لا شك في أن أخلاق الفرسان التي انتهت لدى الإنجليز قد توارت لدى الأسكتلنديين أيضًا، فها هو الملك بروس يعلن بعد مقتل أخيه وتقطيعه إلى أربعة أجزاء، بأنه سيضع أخلاق الفرسان جانبًا، وأن الأسكتلنديين سيحاربون كالذئاب، أما الأسيرتان لدى الإنجليز فستفترقان، حيث تؤخذ مارغوري لتتلقى تعليمًا دينيًا على أيدي الراهبات، بينما توضع إليزابيث في قفص خشبي معلق لأنها لم تتنازل عن لقب الملكة ولم تُبطل زواجها من الملك بروس.

الابن العاق خالف وصية والده الذي طلب فيها أن يُدفن في لندن

 

الابن العاق

نادرًا ما تخلو الأفلام الروائية من قصص الحُب، ولعلها تتعمّق أكثر في أوقات الحرب العصيبة التي يفترق فيها المحبّون مضطرين، تمامًا كما حصل مع بروس وإليزابيث وبعض شخصيات الفيلم مثل أنغوس وزوجته التي تذمرت لأن زوجها غاب عنها لثلاثة شهور كانت تتحرّق شوقًا لرؤيته في كل يوم.

لم يقدِّم المخرج ماكنزي البطل الموازي إدوارد الثاني كشخصية رئيسية في الفيلم، وإنما كان صدى للملك روبرت ذا بروس، فهو ضعيف في طفولته، وعُرضة للهزائم التي مُنى بها أمامه، وبما أن والده الملك إدوارد الأول لم يكن يثق بذكائه ومهاراته القتالية، بل كان يعنفه بدنيًا ويعاقبه كلما أخطأ، فقد تولّد لديه حقد دفين على والده، وكان يحاول غير مرة إثبات شجاعته أمام والده المتجبر الذي لم يكن يتصوره ممتطيًا جواده، ويمشي متناغمًا مع قرع طبول الحرب حاملاً راية التنّين من أجل حماية عرش المملكة.

وبينما كان الملك الإنجليزي راقدًا على فراش الموت أوصى ابنه ألا يدفنه في الأراضي الأسكتلندية إذا ما دنا أجله في أرض المعركة، وأن ينقل جثمانه إلى لندن، لكن الابن العاق خالف الوصية ودفنه في المكان الذي كان يحتضر فيه، رغم أن حارسه الشخصي سأل الوريث قائلاً “ألا يجب أن ننفذ رغبته؟” فكان الرد المفاجئ “يجب أن تنفذ رغبتي أنا”.

الكمائن والغارات والمعارك كانت هي الأكثر إثارة وتشويقًا في هذا الفيلم التاريخي المنوّع في مادته الدرامية

 

مبارزة أسكتلندية أخلاقية

يُدرك الملك الخارج على القانون أن مواجهة أقوى جيش في العالم عملية صعبة، وليس بوسع 500 محارب مهما توفروا على مهارات قتالية فذّة أن ينتصروا على 3000 آلاف مقاتل إنجليزي جلّهم من الفرسان، فلا بد من استعمال الحيلة والمكر المقرونتين بالشجاعة، وهذا ما يحصل في القصة السينمائية حيث يختار بروس هضبة لاودِن مكانًا للنزال لأكثر من سبب؛ الأول أن الفرسان الإنجليز لا يعرفون جغرافية الأرض الأسكتلندية ولا يُدركون طبيعتها، كما أنّ الهضبة توفر عنصر الصدمة حين يفاجأ الإنجليز بالأرض الطينية الموحلة، وبالخوازيق الخشبية المدببة التي تفعل فعلها بالفرسان والجياد المهاجمة، الأمر الذي يكبدهم خسائر فادحة. ورغم أنّ المعركة تستمر لخمس دقائق مليئة بالبشاعة والدماء والألم، فإن المبارزة بين روبرت ذا بروس والأمير إدوارد الثاني الذي أصبح ملكًا بعد وفاة أبيه تستمر ثلاث دقائق أخرى، تتجلى ففيها الأخلاق الأسكتلندية الرفيعة، حيث يمرِّغ بروس خصمه في الأوحال وكان بإمكانه أن يجهز عليه ويقتله شرّ قتلة، لكنه تركه يعود حيًا إلى دياره وهو يجرّ أذيال الخيبة والخسران.

ربما كانت الكمائن والغارات والمعارك هي الأكثر إثارة وتشويقًا في هذا الفيلم التاريخي المنوّع في مادته الدرامية، إلا أن مَشاهِد الحب والتأمل ومعانقة الطبيعة كانت مُغرية هي الأخرى، واستطاعت أن تستقطب اهتمام المشاهدين الذين لم يتسلل إليهم الملل طوال ساعتين من العرض المليء بالمفاجآت.

وإذا كانت المبارزة الحاسمة هي الانعطافة الثانية في الفيلم، فإن النهاية العاطفية هي الأقوى لجهة البناء السردي والبصري للحبكة القصصية، والتي حسمت الأمر لمصلحة الحُب الكبير الذي كان يربط بين الملكة الأسيرة التي أخلي سبيلها في عملية تبادل للأسرى بين الطرفين، وبين الملك الخارج على القانون الذي أعاد الأمور إلى نصابها الصحيح واستعاد مملكة أسكتلندا.

ولعل القصة الأغرب في هذا الفيلم هي الإشارة إلى المفارقة الأبرز في الفيلم؛ إذ لم تكتفِ أسكتلندا باستعادة أرضها وتحقيق استقلالها الناجز، فبعد 300 سنة من هذا الحدث الكبير يرث جيمس السادس سليل روبرت ذا بروس التاج الإنجليزي ليتوّج ملكًا على أسكتلندا وإنجلترا معًا.

الأفلام التاريخية تحتاج إلى كُتّاب سيناريو أذكياء ومحايدين يكتبون ما لهم وما عليهم

 

الأفلام التاريخية والتلاعب بالحقائق

تحتاج الأفلام التاريخية إلى كُتّاب سيناريو أذكياء ومحايدين يكتبون ما لهم وما عليهم، وذلك كما فعل المخرج والسينارست “ديفيد ماكنزي” الذي استعان بأربعة كُتّاب بارعين وهم “باثشيبا دورِن” و”جيمس ماكينيس” و”ديفيد هاروَر” و”مارك بومبارك” كي يغربلوا بشكل جماعي الأحداث والوقائع التي رافقت معركة لاودِن، وما سبقها من غارات واشتباكات وهجمات متفرقة أكدت بشكل حاسم أن إنجليز القرن الرابع عشر كانوا لا يأبهون لحقوق الإنسان وكرامته، بل إنهم ذهبوا أبعد من ذلك حين تناسوا قوانين الفروسية وأخلاقها، فقتلوا الأسرى ومثلوا بهم شرّ تمثيل. وربما كان الأسكتلنديون أكثر التزامًا من أعدائهم بأخلاق الفروسية، ويكفي أن نشير إلى موقف الملك الأحمق إدوارد الثاني الذي كان يطلب النجدة بعد خسارته في المبارزة الأخيرة، وقد عفا عنه بروس ولم يضع حدًا لحياته مُجسدًا مقولة “العفو عند المقدرة”.

شغلت مَشاهد الغارات والحروب قرابة العشرين دقيقة، لكنها كانت كافية لأن تدمغ الفيلم بطابع الحركة، فضلاً عن نَفَسه الحربي الذي يرصد بعض الحوادث التاريخية. ويتقصى الفيلم السيرة الذاتية لروبرت ذا بروس، ويركز على محطات أساسية من حياته السياسية والعاطفية والاجتماعية، لكن في الوقت ذاته لا يهمل سير الآخرين وخاصة الملك إدوارد الأول ونجله المهزوم.

لم يلتزم المخرج ديفيد ماكنزي بالسجلات التاريخية للأحداث، لأن التاريخ الرسمي يكتبه الطغاة والمستبدون والمنتصرون الذين يتفادون عن قصد وقائع الخاسرين والمهمشين والضعفاء، وتأكيدًا لما نذهب إليه فإن المخرج ماكنزي أظهرَ أن تمرد روبرت ذا بروس قد حدث مباشرة بعد إعدام الثائر وليام والاس، لكن في حقيقة الأمر وقع التمرد والعصيان بعد سنة كاملة من إعدامه.

كما أن زواج بروس في القصة السينمائية من إليزابيث قد حدث بعد استسلامه لإدوارد الأول، بينما يشير واقع الحال إلى أن زواج بروس “الثاني” قد وقع قبل 1302 بسنوات، وفي السياق ذاته غاب اللون الأصفر أو كاد أن يغيب من قمصان المقاتلين الأسكتلنديين في المعركة، بينما كان هذا اللون هو لونهم المفضّل.

وعلى الضفة المقابلة لم يكن الأمير إدوارد الثاني عنيفًا وفظًا إلى هذا الحدّ، فبعض الوقائع التاريخية تشير إلى أنه كان كريمًا مع خدَمِه، ولم يُظهر هذا القدر من القسوة والرغبة الوحشية في إراقة الدماء.

تلاعبَ المخرج ومعه كُتّاب السيناريو الأربعة ببعض الحقائق التي تخص بعض الخضراوات، فالخرشوف الذي ظهر على مائدة الطعام لم يُستقدم إلى الجزر البريطانية إلاّ في القرن السادس عشر، فكيف يتناوله الإنجليز قبل قرنين من ذلك الزمان؟

 

براعة في الأداء.. وتصوير لا يُغادر الذاكرة

وفيما يتعلق بالتصوير الذي برع فيه باري آكرويد فثمة لقطات ومَشاهد لا تتحقق من دون مصوِّر موهوب قدّم لنا لوحات فنية عظيمة، من بينها لقاء الملك بروس بالملكة إليزابيث على الساحل الرملي، وذلك في صورة مدهشة لا يمكن أن تغادر ذاكرة المتلقين بسهولة، خصوصًا أن هذا المشهد الحميم يُذكرنا بمهشد حميمي أكثر جرأة يُغازل فيه المنتجون الأذكياء مخيلة روادهم الذين ينتظرون مَنْ ينقذهم من توترهم الطويل أثناء المَشاهد الحربية العنيفة.

وعلى الرغم من سلاسة الفيلم الذي نجح فيه المونتير “جيك روبرتس” أيمّا نجاح، فإن ماكنزي عقد العزم على حذف 20 دقيقة من الفيلم الذي رآه مترهلاً في بعض الأماكن.

ختامًا لا بدّ من الإشارة إلى دور البطلَين الرئيسيين، حيث جسّد كريس باين دور روبرت ذا بروس وتألق فيه، كما برعت الممثلة الشابة فلورنس بيّو التي أدّت دور الملكة إليزابيث دي بيرغ وأجادت فيه عاطفيًا وفكريًا واجتماعيًا، وهذه البراعة الأدائية تنسحب على غالبية الشخصيات النبيلة والمحاربة التي تتقن فنون القتال في ساحات الوغى، وتجيد فن “الإتيكيت” (فن التعامل مع الآخرين) في المناسبات الرسمية والاجتماعية.

يُجمع النقاد البريطانيون على وجه التحديد بأن أفلام ديفيد ماكنزي لا تخضع للتصنيف، وهي أقرب إلى الخلطة السحرية التي لا يسرّبها إلى أقرانه من صنّاع الفن السابع، حيث حاز ماكنزي على جوائز عديدة من بينها جائزتا “البافتا الأسكتلندية” لأفضل فيلم، وأفضل مخرج عن فيلم “آدم الشاب” عام 2003، وجائزة “نقابة دار سينما الفن الألماني” عام 2005 عن فيلم “مصحّ” الذي أنجزه عام 2005، كما نال جائزة “الدب الفضي” في مهرجان برلين السينمائي عام 2007 عن فيلم “عدوّ هالام”، إضافة إلى جوائز محلية وعالمية أخرى.