المنصف باي، أو”نهاية رجل شجاع”

أحمد القاسمي
فيلم ” المنصف باي، نهاية عرش” دراسة وثائقيّة (Essai documentaire) تسعى إلى التقاط وجوه من الحقائق المغيبة من إخراج جمال الدلالي  وإنتاج الجزيرة الوثائقيّة، تعود بنا إلى صفحات من تاريخ تونس منسيّة، على أهميتها، بقصد وتصميم وتعمل من خلال مزيج من الأنماط كالتحقيق والبورتري والدراسة التاريخيّة، على تسليط حزمة ضوء على شخصيّة محمد المنصف بن ناصر   الباي الذي اعتلى العرش الحسيني في تونس يوم 19 جوان من سنة 1942 خلفا لابن عمه أحمد باي وأزيح عنه من قبل الحماية الفرنسيّة في ماي 1943 فتحدّد لنفسها رهانين على قدر كبير من الصعوبة، أولهما أن تشكل أثرا يستجيب لانتظارات متقبّل الفن السينمائي بما يقتضي من مشهديّة تجعل الإدراك البصري سبيلها الأول للتواصل والحال أنه يستند إلى مادة شفوية بالأساس وثانيهما أن تحيط بتفاصيل حياة رجل ترك بصمته على تاريخ تونس الحديث والحال أن التاريخ الرسمي يكاد يعرض عن ذكره.

المخرج جمال الدلالي

في البحث المضني عن المشهدية:
مثلت المداخلة الشفويّة اختيارا أثيرا لصاحب الفيلم يجسّد من خلالها صورة المنصف باي ويعيد تشكيل مراحل حياته. وتوزّعت بين شهادة من التقى هذه الشخصيّة أو قاسمها مرحلة من حياتها كالوزير السابق أحمد بن صالح أو كالطبيب سعيد المستيري وسرد من تناهت إليه أخباره عبر رواية أفراد العائلة وتولى الأمر حفيداه سعيد باي وخالد بن عمر باي أما القطب الثالث فكان المقاربة التاريخيّة ووجهة النظر المبرّرة وتولاها جامعيون اشتغلوا على تاريخ الحركة الوطنيّة من أمثال الباحثة جوليات بسيس أو عميرة عليّة الصغيّر أستاذ التاريخ المعاصر. وحتى يكتسب الأثر تناغمه وانسجامه الداخلي عهد المخرج لصوت سارد يردنا من خارج الإطار فيملأ الفراغات ويشرح بعض الشهادات أو يذكّر بسياقها كما تولى من خلال عمليّة المونتاج التي أشرف عليها بنفسه بتنضيد هذه الشهادات والتأليف بينها في تفاعل عضويّ يعرض حياة مناضل دفع عرشه وحريته سبيلا لوطن كثيرا ما ضنّ عليه بتدوين مآثره حتى لا يمنحه قامة قد تطاول قامة قادة استأثروا بكل ثناء ونسب إليهم جميع الفضل في التحرر الوطني والجهاد الأكبر.
ولما كان الفنّ السينمائي تواصلا بصريّا أساسا عمل المخرج على توفير خلفيّة مشهديّة حتى تعضد هذه الشهادات وتشد أزرها، فاعتمد الصورة المتحرّكة كتلك المشاهد من الحرب العالميّة الثانيّة التي كانت تجري في تونس أو في فرنسا وتؤثر التأثير العميق في تحديد قدر المنصف باي ترافق هذه المشاهد الشهادات التي تذكر اتهامه بالتعاطف مع الجيش الألماني وتعرض أسباب عزله. أمّا مشاهد الحياة اليوميّة في حاضرة تونس أوان حكمه فقد مثلت خلفيّة لعرض علاقته بالأهالي ودفاعه عن ضرورة المساواة بين التونسيين والفرنسيين في ظل حكم الحماية. ولندرة الوثيقة الفيلميّة عمل المخرج على إثراء منجزه بمشاهد تمثيليّة تولى خلالها الممثل السوري تجسيد شخصيّة المنصف باي فعرض فترات من إقامته بمنفاه في فرنسا وجسّد حادثة موته المفاجئ وما يمكن أن تثير من احتمالات تسميمه للتّخلص من عبئه فانفتح الأثر على النمط الوثائقي التخييلي  الذي لا يقدم الحقيقة وإنما يعرض لنماذج متخيّلة ذات قدرة تمثليّة لما يمكن أن يكون حقيقة، وإن جاءت هذه المشاهد قصيرة مجتزأة.
ومثلت الصورة الثابتة مقصد بديلا للمخرج كلّما أفتقد للوثيقة الفيلميّة، فعرض من خلالها بورتراي للمنصف باي في مراحل مختلفة من حياته أو لغيره من رجالات الأسرة الحسينيّة أو أخذت المتفرّج، افتراضيّا، إلى الفضاءات التي كان يرتادها المنصف باي حتى يتمثّل أكثر أحداث تغييب معلن لرمز من رموز التحرر الوطني في تونس.
لقد حاول المخرج توفير قدر هائل من الموارد واجتهد في جمع وثائق نادرة حتى يكفل لمنجزه شرعيّة الانتماء إلى الفنّ السينمائي وحتى يستجيب لأفق انتظار متفرّج يترصّد المعنى ضمن المفردات البصريّة أساسا، ولكن نقدّر أنّ هذه الخلفيّة المشهديّة ظلت مصدرا ثانويا للتوليد الدلالة وتقديم المعلومة التاريخيّة مقارنة بما ميّز الخطاب اللغويّ من سطوة. شأن الأفلام التي تعوّل على الشهادات في المقام الأوّل.
في تعقّب الشخصيّة المغيّبة والبحث في تاريخها المنسي:
عملت الشهادات على تعقّب تفاصيل من حياة منصف باي لا تجود بها الوثائق التاريخيّة المدونة كاعتماده تنشئته الديّنة وزيارته إبان حكمه للأهالي في حاضرة تونس وإنصاته لهم وإلغائه لتقبيل اليد من التشريفات الرسميّة. كما فتحت الشهادات على علاقته بالحساسيات السياسية عصرئذ من مساندة للحزب الحرّ الدستوري ودفاع عن الشخصيّة التونسيّة وأثارت جدلا بين موقفه من النازيّة فذهبت الباحثة جوليات بسيس إلى تحالفه مع ألمانيا النازيّة إبان حربها مع الحلفاء على الأراضي التونسية فيما أشار الباحث كلود ناتاف إلى جهوده في حماية اليهود من الجالية التونسيّة ورفضه لإرغامهم على حمل النجمة السداسيّة الصفراء. ولكن أكثر الشهادات إثارة تتمثل في تقديرنا في ما جاء على لسان أحمد بن صالح من أنّ المنصف باي كان يعتزم إعلان الجمهويّة والقطع مع حكم البايات من العائلة الحسينيّة. فكان الفيلم يلتقط الروايات الشفويّة وما تتضمن من سرد لحالات عاشها المنصف باي أو لتحولات طرأت على حياته فيوثقها بين طفولة وصبى في كنف رعاية عمّه الديّن البشير باي إلى الكهولة أوصلته إلى العرش وخلّدت له مواقف وطنيّة ميّزته عن سائر مواقف حكام العائلة الحسينيّة إلى الموت في المنفى فيجمع بينها في ترابط عضوي ويتدرّج خطيّا ليرتقي بها إلى مصاف الوثيقة التاريخيّة وعبر الاستغراق في السرد يعرض تاريخ شخصيته الفعلي وسيرورتها في الزمن فيشكلّ بذلك هويتها السرديّة .

الممثل طوني موسى                                                    ..في دور الباي                   

لقد تدرّجت هذه الشهادات من المعطى التاريخي الموضوعيّ المحايد الذي يعرض تاريخ رجل دولة إلى العتب الشديد على الشعب التونسي من قبل حفيده سعيد باي لما لقيه هذا الرجل من نكران أسقطه أو يكاد من الذاكرة الوطنيّة في نبرة وجدانيّة يعتصرها الألم الممضّ. فقد كان المنصف باي ضحيّة سياسة ظالمة أقصته من الذاكرة الوطنيّة. ولمّا كان التاريخ الرسمي يكتب من قبل المنتصرين، لم تحتمل نرجسيّة بورقيبة، المنتصر في معركة قيادة الدولة والمستأثر بلقب المجاهد الأكبر، منافسا يقاسمها الزعامة. ولعلّ الفضل الأكبر لهذا الفيلم أن يتمثّل في الدفع بهذا الظلم المسلط على المنصف باي إلى ساحة الجدل في سياق ثقافي وحضاري تحاول فيه الشخصيّة التونسيّة المصالحة مع تاريخها.

_______

 1- فيلم ” المنصف باي، نهاية عرش” أعد له السيناريو لطفي بن علي أخرجه جمال الدلالي، من إنتاج الجزيرة الوثائقيّة 2011، تم تصوير حوارته في كل من تونس وفرنسا والأرجنتين أمّا مشاهد التمثيلية فتم تصويرها في سوريا.
  2- محمد المنصف باي (4 مارس 1881 – 01 سبتمبر 1948 بمنفاه في فرنسا) حكم تونس من 1942 إلى 1943 ضمن سلسلة من البايات الحسينيين تبدأ بالحسين بن علي حاكم تونس من  1705 ه إلى 1735 ه وتنتهي بخلفه الأمين باي بن محمد الحبيب حاكمها حتى 1957 تاريخ إعلان الجمهورية. عرف بمساندته للمطالب الوطنيّة وتعينه لوزراء وطنيين في حكومة ترأسها محمد شنيق وهو ما لم يرض الحكومة الفرنسيّة فعزلته ونفته إلى الجزائر ثم نقلته إلى فرنسا ليموت في منفاه سنة 1948.
   3- الفيلم الوثائقي التخييلي (docu-fiction) أو (docu-drame) نمط من الأفلام الوثائقيّة سينمائيّة كانت أو تلفزيّة يعمل على تقديم الحقائق أو المعطيات التاريخيّة من خلال إعادة تجسيدها مشهديّا باعتماد سيناريوهات وبواسطة ممثلين، وعليه  ومثل هذا النمط تقاطعا بين الجنس التخييلي والجنس الوثائقي.
4-  ينبه بول ريكور إلى صعوبة عرض حياة مرء وصعوبة الخوض في الزمانيّة دون توسّط بالسرد. فـــ”السرد حارس ما دام الزمان لا يمكن التّفكير فيه من دون زمان مرويّ”( بول ريكور، الزمان والسرد، الج 2، ترجمة فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد، ط1، بيروت 2006،ص 362). وهو ما يصطلح عليه بمبدإ الهويّة السردية “إذ يتشكّل الفرد والجماعة معا في هويتهما من خلال الاستغراق في السرد والحكايات التي تصير بالنسبة لهما [كذا] تاريخهما الفعليّ” (بول ريكور، الزمان والسرد، الج 3، ترجمة سعيد الغانمي، دار الكتاب الجديد، ط1، بيروت 2006، ص 372). وتقتضي هذه الهوية تنزيل الذات ضمن متتاليات من الحالات والتحولات (السرد) كما تقتضي تطبيق النّماذج السردية المستمدّة من الحبكات بين عناصر متحوّلة تقوم على “التغيّر والتّبدل في إطار تماسك زمانيّ حياتيّ واحد”( م. ن. ص 371).