“الموصل”.. صورة مُغايرة للحروب العربية في هوليود

د. أحمد القاسمي

ما حظ العرب من شاشات هوليود غير بعض المشاهد الركيكة المسقطة التي تصورهم مشردين بين الرمال المتحركة، أو غارقين في آبار النفط، أو تائهين في صحراء الحداثة، أو أشرارا داعمين للإرهاب؟

كان ذلك السؤال يدور في ذهني وأنا أقبل على مشاهدة فيلم “الموصل” (Mosul) الذي أخرجه الأمريكي “ماثيو مايكل كارنهان” (2020). فالفيلم يعرض قصة انشقاق عناصر من الشرطة العراقية عن القيادة المركزية، بعد أن حيل بينها وبين تنفيذ مهمة خاصّة ضد تنظيم داعش.

والحق أنّ لهذا العمل خصوصيته التي تجعله فيلما مختلفا، فقد أُنجز بتمويل وإخراج هوليوديين، وعوّل فيه صنّاعه على ممثلين عرب يتكلمون اللهجة العراقية، ممّا يثير الجدل بشأن هويته. ومن هذه الزاوية بالذات نحاول أن نطرق بابه، فنتوسع في رؤيته الجمالية، ونعرض صورة العربي على شاشته، ونناقش تصوراته للحرب التي جعلها موضوعه الأساسي.

 

مقاربات هوليود.. النقاد يثرثرون والقافلة تسير

لسينما هوليود أسلوبها الخاص في مقاربة قصصها، فسبيلها الإبهار وخلق الدهشة لحمل المتفرّج على رؤية الأشياء كما تريد له هي، أن يتقبّل الحكاية من منطلق وجدانه، فيأسى أو يسعد بدل أن يتدبّر أبعادها فيفهم ويناقش ويجادل، لذلك ينعتها مناوئوها بمعاداة الفكر الحرّ، أما هي فلم تكن تكترث بثرثرة النقاد، فحسبها أن تصيد المشاهد المذهلة أو القصص الفريدة أو المواقف المبتكرة أو المؤثرات التقنية الهائلة.

وفي الموصل المحررة من داعش بعد 2017 تعرض الدهشة على قارعة الطريق، فقد كان يكفي المخرج “ماثيو مايكل كارنهان” أن يكلّف أحدهم بالتقاط صور الدمار الفظيع في المدينة عبر طائرة مُسيّرة (درون) ليتحقق ذلك المراد، فأعالي المباني قد دُكّت على أسافلها، وتحولت إلى ركام يتكدّس على نحو مشوّش للبصر مربك للإدراك.

أنقاض مدينة الموصل العراقية بعد معركة تحريرها عام 2016 و2017

 

انتزاع المتفرج من حياده.. سحر الكاميرا

كانت حركة الكاميرا في المشاهد الأولى من الفيلم تحلّق فوق الأحياء المختلفة، فتلح في انتزاع المتفرّج من حياده لتزرع في ذهنه ما تشاء من أهوال معركة تحرير الموصل 2016-2017، وما صاحبها من الغارات والمطاردات والمواجهات، بل قُل معركة تدميرها وتحويلها إلى أنقاض.

وفي الوقت ذاته كانت تُلحّ في جعله يطرح سؤالا “لماذا كل هذا الدمار، وماذا ينبغي أن نفعل لإيقافه؟”، ثم تدفعه في رفق وعبر مؤثرات بصرية متقنة للغاية إلى الجواب الذي تريد.

وفضلا عن هذه الوظيفة التأثيرية تعمل هذه الصور الصادمة على تكثيف النزعة الواقعية في الفيلم، والإيهام بأن الأحداث المعروضة على الشاشة جرت بالفعل في العراق، وليس في مكان آخر. وذلك لمقاومة شعور المتفرّج بالاغتراب، فمعلوم أن بقية المشاهد قد صُوّرت بالكامل في مدينة مراكش المغربية لدوافع أمنية ولوجيستية.

 

“الحرب اليائسة لتدمير تنظيم الدولة”.. سينما الاقتباس

يمكن أن نعرّف السينما في هوليود بكونها سينما الاقتباس بامتياز، فأكبر نجاحاتها انحدر عن الملاحم والخرافات والروايات وكتب التاريخ، بداية من فيلم “مولد أمة” (The Birth of a Nation) عام 1915 للمخرج “ديفيد غريفيث”.

لهذا التوجه أسبابه المالية، فلا يمكننا أن نتجاهل الخصوصية المميزة للسينما الأمريكية، فهي -على خلاف السينما في أنحاء أخرى من العالم- استثمار بالأساس، وبحث عن الربح لا يعوّل على دعم الصناديق الخاصة أو الحكومية، ولا بدّ للمستثمر من ضمانات بعيدا عن المغامرات المجهولة العواقب التي تحبذها سينما المؤلف، وتجدها حقلا مناسب لممارسة فعل التجريب الإبداعي، وهذا ما تكفله الحكاية الواضحة التي اختبر وقعها على المتقبل في أنماط فنية أخرى.

ويمثل فيلم “الموصل” وجها من الاقتباسات النادرة، فطريقه إلى السينما بدأ من تحقيق صحفي نشرته صحيفة نيويورك الأمريكية عام 2017، وعرضت أعمالا خارقة لمجموعة من فرقة التدخل السريع (سوات) في مواجهة داعش في مدينة الموصل منذ احتلالها في يونيو/حزيران 2014، حتى تحريرها في نهاية يونيو/حزيران 2017، بعنوان “الحرب اليائسة لتدمير تنظيم الدولة”، وقد وجده المخرج مغريا كفاية لخوض تجربة ناجحة فنيا وماليا.

 

مغامرة تحت لواء قوات التدخل السريع.. أهداف مجهولة

يبدأ الفيلم بمعركة شرسة، فيلاحق رجال الشرطة العراقية تجارا للمخدرات، فيستدرجون إلى كمين داعشي يذهب بأغلبهم ولا يبقى على قيد الحياة غير جميل القرطبي وكاوة صلاح الفيلي، بعد أن وجدا غوثا من قوات التدخل السريع المعروفة اختصارا باسم “سوات”. ويكون اللقاء بين الجهازين فرصة لينضم الشرطي الكردي الشاب كاوة إلى هذه القوات، بعد أن فقد عمه للتو.

نفهم من الحوار أن “سوات” فرقة مارقة نذرت نفسها لمهمة خاصّ، لكن الفيلم يضنّ علينا بالتفاصيل، فيحوّل العرض إلى عملية تشويق تلاعب للمتفرج. ومن ما يذكي الإثارة أنّ الشرطي الشاب نفسه لم يكن على معرفة بالمهمة التي انتدبته “سوات” لتنفيذها.

وبصرف النظر عن مدى واقعية هذا الحدث، فقد جمل الفيلم المتفرّج على التعاطف مع كاوة والتماهى معه وهو يلحّ لمعرفة طبيعة المهمة، وقد أضحت لغزا مضاعفا: فيتساءل “هل ستنجح هذه الفرقة المتمرّدة في تحقيق مرادها أم لا؟”، ثم يردف “ما طبيعة هذه المهمة أولا”؟

 

أسرار مهمة الفرقة الغامضة.. صناعة الإثارة

يذهب الفيلم في صناعة الإثارة إلى أبعد حدّ ممكن، مخاطرا في سبيل ذلك بانسجام الأحداث ومعقوليتها، فكيف يقبل كاوة ذو الشخصية القيادية بتنفيذ مهمة على قدر من الخطورة دون أن يعرف شركاءه أو يدرك طبيعة أهدافهم؟ وكيف تتخلى هذه الفرقة النظامية عن مهمتها الرئيسية وتتحول إلى جهاز متمرّد ليس له مال أو عتاد إلا ما ينتزعه من خصومه؟

ولا يقع حلّ لغز المهمة الغامضة إلا في المشاهد الأخيرة للفيلم، فجميع أفراد هذه الفرقة لهم أقارب قد أعدموا من قبل داعش أو هم أسرى لديها، أي أن لهم حافزا قويا لمواجهتها، وعلى هذا الأساس انتخب كاوة بعد أن سقط عمه في المعركة، وعلى أساسه أيضا جعلوا مهمتهم تحرير زوجة وليد مساعد الرائد جاسم، وقد أخذت سبية لدى أحد أمراء هذا التنظيم.

الرائد جاسم يترك مهنة التدريس ليكون قائدا لقوات “سوات”، حيث عُرف برغبته بالتضحية من أجل عراق أفضل

 

نماذج البطولة والتضحية.. شخصيات السينما النمطية

تنزل رؤية المخرج الجمالية الخاصة الأحداث ضمن تصور السينما النمطية، فالشخصيات الرئيسية تمثل نموذجا للبطولة والإقدام والشرف والخير، يجمع بينها الذكاء وحِس القيادة والرغبة في التضحية من أجل عراق أفضل.

الرائد جاسم يترك مهنة التدريس بالجامعة ليلتحق بالقوات الخاصة، ووليد الطالب المجتهد يساعد أستاذه في هذه المهمة المقدسة، وكاوة الوافد الجديد للمجموعة يحسم بحسه القيادي النقاش بين الرائد جاسم والقائد الإيراني أصفهاني حول مآل الشرطي العميل، فيسارع بقتله ويضع وليد أمام مسؤوليته، فيكلفه بقيادة المجموعة خلفا للرائد جاسم بعد أن يذهب لغم بحياته وهو يحاول تنظيف المكان من مخلفات داعش.

الشرطي الكردي المقدام “كاوة” الذي ينضم إلى مجموعة قوات “سوات”

 

مفاجآت معركة التحرير النهائية.. عقدة الفيلم

تمثل الحبكة الثلاثية البناء وجها آخر من هذه الجماليات النمطية، فالفيلم يتوزع إلى ثلاثة أقسام متباينة، حيث تجسد البداية انضمام كاوة إلى قوات “سوات”، وتقدم لنا المعلومات الضرورية -على شحها- لفهم اتجاه الأحداث، وهي انطلاق المجموعة في مهمة مقدسة دفاعا عن شرف الوطن.

ويبدأ الوسط بقبول كاوة الانضمام إلى المجموعة والقتال في صفها، فيمثل قسم الصراع والمواجهات العاتية التي تخوضها المجموعة، وما تواجهه من النكسات والخيانات والخسائر، وما تبذله من أجل التغلب على ما يعترضها من العقبات، وتجري معالجة الوسط بما يتطلبه فيلم الحرب والمغامرة في السينما الهوليودية، فيُشبع العين النهمة لكل مشاهد الهول والدمار والمخاطرة التي تكون حياة الأبطال رهانا لها.

ويتم ذلك كله وفق تنفيذ متقن للمعارك، وإخراج مدروس ينوّع من زوايا التصوير، ويجعل حركة الكاميرا مُضطربة تجسّد اضطراب الشخصية وهي تخوض أشرس المعارك، وتعمل على إرباك المتفرّج ليعيش نفس أجواء الحرب التي تعيشها الشخصية.

وفي مرحلة النهاية ينحل الصراع وتنكشف كل الأسرار، فتتمكن المجموعة من اختراق حصون العدو والوصول إلى زوجة وليد لتحريرها وتحرير نساء أخريات معها، ولا يبخل الفيلم على المتفرّج بالوضعيات المربكة، فزوجة وليد التي استأثر بها الأمير الداعشي تكون حبلى، لتتحول مواجهة وليد مع الخصوم إلى مواجهة للذات ولموروثها، وحمل لها على التفكير بالطريقة الصحيحة، فلا ذنب لزوجته حياة في ما حدث، إنها ضحية لفكر متطرف ولنظام سياسي فاسد متهاون كلّف الموصل كل ذاك الخراب العمراني، وكلّف أهلها خرابا روحيا لا يقل عنه فظاعة.

جهاز الشرطة في العراق ما هو إلا نموذج لمؤسسات الدولة التي نخرها الفساد والانتهازية والطائفية

 

شرف المقاومة وعدم الاستسلام.. ما وراء الحبكة

يعمل الفيلم في معالجة أحداثه على أن يسرّب المؤثر الوجداني، لكنه لم يخل من وجهة نظر خاصة حول مأساة العراق، فلم تستولِ داعش على الموصل إلا لخلل في أجهزة العراق الأمنية، ويوجّه سهمه صوب الشرطة الفيدرالية، فيجعلها على طرف نقيض مع قوات فرقة التدخل السريع، فمقابل ما يسِم قوات “سوات” من الانضباط والالتزام والإيمان بالهدف والتضامن بين مختلف أفرادها؛ تكون الشرطة جسدا رخوا مخترقا من قبل الميليشيات والدواعش، ولا يتردّد رجالها في خيانة المؤتمن مقابل دنانير قليلة.

ولعلّ خليل القرطبي رفيق كاوة في بداية الفيلم خير مثال على ذلك، فقد أفشى سر الفرقة الخاصّة إلى داعش، وكاد يكلّف المجموعة بحالها حتفها، وليس جهاز الشرطة إلا نموذجا لمؤسسات الدولة التي نخرها الفساد بتجلياته المختلفة، من طائفية وانتهازية وتحلّل لرابط الانتماء للوطن.

لقد بذلت الفرقة ثمنا غاليا لتحرير زوجة وليد وابنتها، وليس ذلك سوى رسالة يعمل المخرج على توجيهها، فمهما كانت التضحيات البشرية والمادية ضخمة، لا بد من تحرير الرهائن من معتقلات العدو، فالمسألة لا تُقاس بمعيار الربح والخسارة، وإنما بمعيار القيم.

والقيمة التي يعمل الفيلم هنا على ترسيخها هي أنّ شرف الإنسان في المقاومة وعدم الاستسلام، فغاية العملية الخاصة التي تقوم بها قوات “سوات” تتجاوز تحرير امرأة بعينها إلى تحرير الأذهان من فكرة التسليم بالواقع والقبول بسبي النساء.

 

كتابة التاريخ.. جدل التخييل والتسجيل

أثار اقتباس الفيلم عن تحقيق صحفي يحاسب في ضوء الدقة ومدى مطابقته للحقائق على الأرض؛ جدلا بين التخييل والتسجيل في الفيلم، فكثيرة هي المواقف التي عابت على المخرج عدم مطابقة بعض الأحداث لوقائع الحرب على داعش، كأن يُشار إلى أنّ قوات “سوات” نينوى لم تكن قوات منفلتة عن كل قيادة مركزية، وأن معركة الموصل التي انتهت بتحريرها لم تكن معركة عشوائية يغلب عليها الارتجال، أو كأن يشار إلى أن هذه القوات لم تشارك في معركة تحرير المدينة، وأنّ الفضل يعود بالأساس إلى جهاز مكافحة الإرهاب التابع للجيش العراقي، فكان الجدل عقيما يتغاضى عن كون الأعمال التخييلية لا تكتب التاريخ ولا تسجل الوقائع كما هي، بقدر ما تعبّر عن تصورات المخرج وفق رؤى جمالية منسجمة داخليا.

إن غاية الفيلم هي تصوير عمل بطولي لمجموعة عراقية ساءها ما تغرق فيه البلاد من الفوضى، فحاولت خلال عملية لا تتجاوز نصف اليوم أن تحرر بعض الأسرى، وهذا ما يفتح على صورة جديدة نلمسها لأول مرة على شاشات هوليود، فقد كان الرجال المقاتلين أفذاذا تحرّكهم قيمهم الوطنية، وجعلت خلفياتهم الأخلاقية الكونيّة عنفهم يوجه لإنقاذ الإنسانية وخدمتها.

لحظة عاطفية وإنسانية حين التقى وليد بزوجته السبية لدى أحد أمراء تنظيم داعش

 

“لقد سهرت على تربيتك امرأة”

يكاد الفيلم يخلو من حضور المرأة نظرا لطبيعته القتالية، إلا أنه لم يخلُ من إبراز إجلال الإنسان العربي لها، حيث يقول الرائد جاسم للشرطي كاوة حين يلاحظ حسن أدبه: “لقد سهرت على تربيتك امرأة”.

كما أن وليد لا يلوم زوجته لحملها ولا يحملها مسؤولية اغتصابها كما يحدث في مثل هذه الحالات في المجتمعات الذكورية، وإنما يحتضنها ويعتذر منها قائلا “الذنب ذنبي لأني لم أرجع وقتها”. هل يكون الجواب عن السؤال “لماذا كل هذا الدمار؟” هو أن “مجموعة من الأشرار اختطفوا نساء المدينة وروّعوا الأهالي وأفسدوا في الأرض، أما الآن فكل شيء على ما يرام”؟

تدهشنا نهاية الفيلم العاطفية ووليد يحتضن زوجته وابنته فننبسط، غير أننا لا ننتبه إلى أنّ لا شيء سيكون على ما يرام ما لم ننتزع قوادح الإرهاب من جذورها، وهي كثيرة ومعقدة، فقد منعنا توهّج اللحظة ودفق المشاعر من التفكير الحر.