السلاح النووي الكوري.. ثمرة 70 عاما من المراوغة في ملاعب السياسة العالمية

من استخفاف الرئيس الكوري الشمالي “كيم جونغ أون” بتهديدات الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” ضد بلاده، والمضي في مشروعه للانضمام إلى “النادي النووي” ينطلق سؤال الوثائقي الفرنسي “فخ كيم”: ما السر وراء تحدي دولة صغيرة أكبر دولة في العالم؟

للإجابة على هذا التساؤل أو على الأقل للإحاطة بتفاصيله، اقترح مخرجاه “أنتوني دوفور” و”مينيو سونغ” العودة إلى التاريخ، لمعرفة مصدر قوة كوريا الشمالية وتحديها العالم، ومن أين تستمد إصرارها على امتلاك الأسلحة النووية، وسيَبنيان على التاريخ مادتهما البصرية، لكنهما لا يكتفيان بذلك، فيذهبان إلى التحليل والاستقصاء، ليتحول منجزهما السينمائي إلى مرجع مهم يعطي للمُشاهد صورة شبه كاملة عن تاريخ صناعة القنبلة الذرية الكورية، والعوامل السياسية والتاريخية التي ساعدت على الوصول إليها، رغم شدة التعقيد في شبه الجزيرة الكورية وتشابك العناصر المؤثرة فيها.

“هاجمونا إن أردتم، أو لتعترفوا بنا كدولة نووية”

حشد الفيلم خبراء وشخصيات سياسية وعسكرية ودبلوماسية لها صلة مباشرة بالموضوع المطروح للبحث البصري، وترك لهم المخرجون فرصة التحليل على ضوء ما اقترحوه عليهم من أسئلة بعضها طابعه آني، فالوثائقي أراد مناقشة أحدث تطورات الصراع المتصاعد والمثير لقلق العالم، والتعويل على إمكانية التوصل إلى أجوبة شافية قد تُعين المتلقي لفهم ما يجري بين الطرفين؛ الأمريكي والكوري الشمالي، من أجل إضفاء أهمية أكبر له.

ومن الحقائق الصادمة التي صرح بها أحد خبراء المخابرات الأمريكية للوثائقي، أن تاريخ الولايات المتحدة العسكري يقول إنها لم تجرؤ أبدا على مهاجمة دولة تملك سلاحا نوويا. تلك الحقيقة عرفها قادة كوريا الشمالية منذ سبعين عاما، وظلوا يشتغلون عليها. لم يتنازلوا قط عنها فهي بالنسبة إليهم استراتيجية ثابتة.

ينطلق سؤال الوثائقي الفرنسي “فخ كيم” من السر وراء تحدي دولة صغيرة أكبر دولة في العالم

ويقول “إيفانز ريفرز” من وزارة الخارجية الأمريكية: “الولايات المتحدة الأمريكية لا تحترم إلا الدول التي عندها السلاح النووي”. ومضمون هذا الاستنتاج الخطير أعاد صياغته القائد الكوري الشاب في رسائل واضحة فهمها خصومه، إنه يقول لهم “هاجمونا إن أردتم، أو لتعترفوا بنا كدولة نووية”.

قنبلة هيروشيما.. كابوس يؤرق قادة كوريا الشمالية

منذ قرار الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب الكورية بحظر تسلح الطرفين، لم تترك كوريا الشمالية وسيلة للحصول على السلاح النووي إلا وجربتها. ويراجع الوثائقي عقودا من تاريخها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ويتوصل إلى حقيقة أن القنبلة الذرية الأمريكية ضد اليابان كانت دافعا لها لامتلاك ذلك السلاح المخيف.

في جزئية تاريخية نتعرف من خلالها وبالتسجيلات الفيلمية الأرشيفية الغنية؛ يروي لنا الفيلم أن آلافا من الفلاحين الكوريين المجبرين على العمل بالسخرة في اليابان شهدوا بأعينهم آثار ما فعلته القنبلة الذرية على سكان هيروشيما، وحين عادوا وحكوا لأهلهم عنها أدرك قادتهم أهمية الحصول على ذلك السلاح وبأي ثمن.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية توصل الكوريون إلى نتيجة مفادها ضرورة امتلاك سلاح نووي

وقتها وضع الرئيس “كيم إيل سونغ” نصب عينيه الحصول على القنبلة، فطلب من الروس مساعدته فرفضوا، والصينيون كذلك لم يستجيبوا، فما كان منه سوى الصبر، وفي لحظة تنافس فكري متصاعد بين الصين والروس وافق الروس ومنحوهم مفاعلات بسيطة لأغراض سلمية.

تلك كانت نقطة البداية، وعليها بني الزعيم الكوري إستراتيجية تعتمد الثبات في الحصول على النووي، وإلى جانبها العمل بسياسات متغيرة.

ويُجمع الخبراء والمختصون على بعد نظر الكوريين الشماليين فيما يتعلق بالبرنامج النووي، وأنهم نجحوا في إخفائه حتى عام 2006، حين أعلن قادة البلاد عن قيامهم ببعض التجارب النووية، متجاوزين بكثير ما كشفوه خلال التسعينيات، فلديهم اليوم صواريخ بالستية يصل مداها إلى عشرة آلاف كيلومتر، وهي أخطر بكثير وبما لا يمكن مقارنته. وفي ذلك العام استيقظ العالم الغربي على حقيقة توصل الكوريين إلى نتائج من الصعب تجاهلها أو وقفها.

رجال البيت الأبيض.. سياسات متباينة تلعب عليها كوريا

من الاستنتاجات المهمة التي يتوصل إليها الوثائقي أن البرنامج النووي في حقيقته، هو شكل من أشكال الدفاع وإثبات الوجود على الساحة السياسية العالمية، وأن جزءا من نجاحهم يعود لتباين مواقف الإدارات الأمريكية منه.

ويراجع الوثائقي بصبر مواقف القادة الأمريكيين، وكيف لعبت كوريا على كل واحد منهم وفق فهمها لتوجهاته، ففي فترة “بوش الابن” وبعد احتلاله العراق مالوا إلى التفاوض، لكنهم لم يقدموا تنازلا حقيقيا. أما في عهد “أوباما” فاستغلوا توجهاته للعمل على إنجاز أكبر جزء من البرنامج، لكونهم كانوا على يقين من استحالة مهاجمتهم، وقد قطعوا شوطا كبيرا في توسيع حجم المفاعلات وعمليات التخصيب والتجهيز والإعداد النهائي في فترة حكمه.

ويتوقف الوثائقي حول عمل لجان التفتيش الدولية، ويشرح كيف عجزت عن معرفة ما هو موجود في بيونغ يانغ من مفاعلات، فكل ما يعرفونه أن ثمة أسرارا -بين الكلام والاستقبالات الشكلية- لا يمكنهم الوصول إليها في بلد محكم الدفاعات يصعب اختراقه.

كما يكشف الوثائقي الفرنسي أسرار التصعيد الأمريكي ضد كوريا الشمالية، وأنه بعد فشل لجان التفتيش في تحديد دقيق لحجم موجودات كوريا من النووي قررت إدارة “كلينتون” توجيه ضربة استباقية لها، وهنا تدخل الرئيس “كارتر” بزيارته غير الرسمية إلى كوريا، وأوقفت الخطة بعد اتضاح حجم أخطارها وإعلان كوريا الجنوبية رفضها الكامل للفكرة.

ومن المفارقات التي يحيط بها الخبراء المساهمون أن كوريا الجنوبية كانت تجد نفسها على الدوام ضحية صراع خارجها، ولذا فهي تميل إلى الحلول السلمية، وهذا ما التقطه الشماليون وعليه اشتغلوا كثيرا، فبمقدار ما كانوا يحشدون جيوشا على حدود جارهم الجنوبي؛ كانوا يثيرون مخاوفه ويدفعونه للتفكير في إيجاد وسائل لتخفيف التوتر بينهما خارج المظلة الأمريكية.

سلالة آل “كيم”.. جينات عنيدة تتناقل الهوس بالسلاح الذري

مما يلفت الانتباه أيضا، عرض الوثائقي الدقيق لسلالات آل “كيم”، وإجماعها -رغم اختلاف الظروف التاريخية- على التمسك بحق البلاد بامتلاك القنبلة الذرية، وقد كان هذا مثل الحليب الذي يُغذي به قادة البلاد أولادهم، ويعلمونهم أهمية الحرص على عدم كشف أوراقهم لأحد، مهما كان.

وتدفع تلك الحقائق الوثائقي لمعاينة الإجراءات الأخرى، مثل الحصار الاقتصادي المفروض على كوريا الشمالية.

ومن المفارقات اللافتة كذلك أن الدخل القومي لكوريا الشمالية ازداد خلال هذا العام (2018) كثيرا مقارنة بسابقاته، وأن حركة التجارة الخارجية لم تتوقف بفضل خروق الصين وكسرها الحصار، عبر مدها بكل ما تحتاجه حتى البترول.

خلص الوثائقي الفرنسي إلى أن البرنامج النووي في حقيقته شكل من أشكال الدفاع وإثبات الوجود على الساحة السياسية العالمية

فخاخ الخصم الذكي.. دولة صغيرة تجبر العالم على واقعها

من الدلالات على مرونة القادة الشماليين وضعهم خطة بديلة انفتحوا بها مباشرة على الجنوب بعد شعورهم بتلكؤ الصين وخوفها من خسارة سمعتها الاقتصادية.

فشل الحصار والخوف من التصعيد واقع فرض على الولايات المتحدة التعامل معه اليوم، وما تهديدات الرئيس “ترامب” سوى تصعيد شكلي، ففكرة مهاجمة المفاعلات غير واردة، وإذا ما جرى تداولها على أنها حقيقة، فإنها ستسبب كارثة بشرية دون شك.

لقاء تاريخي بين كوريا وأمريكا اقترحه الرئيس الأمريكي ترامب

يراجع بعجالة فيلم “فخ كيم” السياسات الغربية وأسلوب تعاملها مع الخصم العنيد، ويتبيّن من خلالها كيف سقط العملاق أكثر من مرة بين مخالبه، وأن الدولة الصغيرة المحدودة الإمكانيات ظلت على طول الخط تنصب الفخاخ، وتنجح في إعاقة خصومها عن إيقاف برنامجها النووي الذي صار في النهاية حقيقة على العالم التعامل معها.

حلم الوحدة تحت ظل الشمال.. إستراتيجية السلاح النووي

يسأل الفيلم خبيرا يعمل في وزارة الدفاع الأمريكي حول احتمال نشوب حرب جديدة قريبة بسبب النووي، وقد استبعد ذلك، فالنووي الكوري -بالنسبة إليه- هو توجه سياسي بالأساس، وليس برنامجا تطبيقيا يراد به الاستخدام الفعلي له.

وربما من إستراتيجياته البعيدة تحقيق حلم وحدة القسمين بقيادة الشمال كما كان يردد “كيم إيل سونغ” أمام أولاده وقادته، بعد أشهر من نهاية الحرب العالمية الثانية، وربما هو الذي دفعه لشن حربه ضد الجارة الجنوبية على أمل استعادتها إلى الأصل، لكن التجارب تعلّم، ولا يريد الكوريون اجترار الماضي، لهذا ذهب الوثائقي إلى الحدود بين البلدين وسجل مواقف شباب رافضين للتوتر، ويعملون على توصيل رسائل سلمية تدعو إلى التهدئة وإلى تجنب الحروب نووية كانت أم تقليدية، فكلها في النهاية لا تجلب سوى الخراب.

يرى قادة كوريا الشمالية أن “الولايات المتحدة الأمريكية لا تحترم إلا الدول التي تمتلك سلاحا نوويا”

وعلى المستوى الأسلوبي والتقني، ففيلم “فخ كيم” فيه من المصداقية والعمق المقدم ما يدعو إلى الإعجاب، وفيه جمع موفق بين الخامات الفيلمية وبين حضور الشخصيات الفاعلة فيه (بالأسود والأبيض)، مما جعله نصا حافلا بالمشاهد المعبرة عن رغبة صُناعه في الاقتراب من موضوع إشكالي ملتبس، وخروجهم منه في النهاية بمنجز حقق ما أراد تحقيقه، وهو تفكيك المُعقد السياسي بأدوات الفن السينمائي.