الهجرة في السينما المغربية.. يوم ترغب الطيور في العودة إلى أعشاشها

د. الحبيب ناصري

كلما تعقدت الحياة الاجتماعية والاقتصادية توجهت أنظار أبناء دول العالم الثالث ومنها دول عالمنا العربي، لا سيما تلك القريبة من أوروبا مثل المغرب وتونس والجزائر ومصر وليبيا وموريتانيا؛ نحو هذه القارة الأوروبية على وجه التحديد، بحثا عن لقمة العيش والاستمتاع بزمن هذا الغرب الذي له سحره وسلطته المادية والمالية والرمزية.

عديدة هي الفنون والدراسات والبحوث والندوات والمؤتمرات التي تهتم بسؤال الهجرة في العديد من جوانبها (دوافعها، نتائجها، قوانينها، مشاكلها)، لكن للفنون بشكل عام وللسينما بشقيها الروائي والوثائقي بشكل خاص؛ ذلك الطعم الفني والجمالي والإنساني الذي من خلاله نتذوق “ألم/أمل” سؤال الهجرة.

ومن تلك البلدان المغرب الذي كان عبر التاريخ يُشكّل نقطة مرور نحو أوروبا، نظرا لموقعه الجغرافي المُطِلّ على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي. عديدة هي القصص الإنسانية التي كتبت حروفها بالقرب من قرى ومدن المغرب، مما جعل أهل الفن يتفاعلون مع هذه القصص ويكتبون وجهات نظرهم بلغة الحرف أو الريشة أو السرد.

سنكشف هنا عن كيفية حضور الهجرة في السينما المغربية، وهل تمكّن المخرج السينمائي المغربي فعلا من أن ينبش بلغة الصورة في العوالم الباطنية للشخوص الراغبة في الهجرة بحثا عن الجنة المفقودة في وطنهم، والموجودة هناك وراء ضفاف البحر الأبيض المتوسط؟ وما القيمة الثقافية لمثل هذه الأفلام التي اهتمت جزئيا أو كليا بالهجرة، لا سيما والسينما لها قيمتها ووزنها كخطاب بصري، في زمن أصبحت فيه الصورة حمّالة للعديد من المعاني والدلالات؟

مجموعة من الشبان المغاربة يركبون في قارب متجه من المغرب إلى إسبانيا بحثا عن لقمة العيش

 

رحلة الهجرة.. غوص في السينما المغربية

سنحصر متننا السينمائي في رحلة زمنية سينمائية مغربية من سنة 1958 إلى سنة 2007، معتمدين على وثيقة رسمية وزّعها المركز السينمائي المغربي بمناسبة مرور الذكرى الخمسينية على تأسيس السينما المغربية، وهي الوثيقة التي ضمّت كافة الأفلام المغربية، وذلك منذ أول فيلم مغربي مع المرحوم وشيخ السينمائيين المغاربة محمد عصفور، وصولا إلى سنة 2007. رحلة زمنية حملت في طياتها 177 فيلما في موضوعات متعددة ومختلفة تعكس في العمق طبيعة اهتمام السينمائي المغربي بما عاشه ويعيشه مجتمعه المغربي على وجه الخصوص.

ضمن هذا المتن السينمائي الروائي المغربي نجد 29 فيلما اهتمت جزئيا أو كليا بالهجرة، سواء تعلّق الأمر بالهجرة القانونية (هجرة من أجل الدراسة أو التجمع العائلي)، أو السرية (وتسمى في التداول العامي المغربي الشعبي بـ”لحريك”). فما الذي تشترك فيه هذه الأفلام المغربية التي فككت بلغة الصورة والصوت موضوع الهجرة؟ إن هذه الأفلام تلتقي في المجمل في عدة عناصر مشتركة منها الزمان والمكان وثنائية الموسيقى المغربية والغربية والأزياء وغير ذلك مما يبرز تناقضات الطبيعة البشرية وصراعها الداخلي حول الهجرة والنفور والتشبث بالوطن.

 مخرجة فيلم “باب السما مفتوح” فريدة بليزيد التي وثقت وثقت في فيلمها لطبيعة الألبسة المغربية

 

الزمن المفقود.. حنين الأوراق إلى أغصانها

دائما ما يكون زمن الحاضر الفيلمي الروائي مرفوضا، زمن يُذكّر شخوص الفيلم بالفقر والهموم والرغبة في التخلص منه، ويبقى زمن المستقبل هو زمن الحلم المرهون بالآخر/الغرب، وليس زمن الحاضر المحيل على الوطن. ببساطة كل شخوص الأفلام السينمائية الراغبة في الهجرة غير راغبة في البقاء في وطنها، وتحلم بزمن مستقبلي مرهون بفرنسا أو إسبانيا أو بريطانيا أو أمريكا، فزمن هذه الدول هو الأفضل والأجمل. هذا ما نجده في فيلم “ما وراء جبل طارق”، لمخرجيه مراد بوسيف وطايلان بارمان (2001)، حيث رغبة كريم في سفره صحبة “صوفيا” من بلجيكا التي تعرّف عليها، لا سيما وأنه لم يتمكن من الحصول على عمل بعد تخرجه من الجامعة، وهو المنتمي إلى أسرة فقيرة ومحافظة.

زمن حاضره مرفوض، وحلمه زمن المستقبل المرتبط بما وراء جبل طارق. رفض زمن الحاضر، والبحث عن زمن مستقبلي مرهون بالغرب، سيصدمنا في فيلم “الحلم المغربي” لمخرجه جمال بلمجدوب (2007)، حيث قرية بأكملها ترغب في الهجرة من خلال رغبتها في المشاركة في مسابقة رياضية (العدو الريفي)، نظمها سعيد الشاب العائد من بلاد المهجر بحثا عن مواهب رياضية لجلبها إلى الخارج.

طبعا بمجرد وصول هذه الشخوص إلى بلاد “النعيم” هناك، يتم البدء في الاستمتاع بكل ما لذّ وطاب والتخلص من رائحة الوطن، بل ومحاولة نسيانه، والارتماء في أحضان البلد الذي وصلت إليه شخوص الفيلم لتحقق ما كانت تسعى إليه من زواج أو دراسة أو عمل.

بعد الاستمتاع اللحظي بزمن الغرب وكل مادياته، وكلما شاخت شخوص الفيلم بدأت في اكتشاف العديد من أوجه الصعاب وتناقضات الغرب، وكيف تصبح هذه الشخوص منسية حالمة بالعودة إلى الجذور، أي يصبح الزمن المفقود هو ذلك الزمن الحاضر المُتحدث عنه سابقا، والذي كان يُلعن باعتباره زمنا محيلا على الفقر والهامش والضياع.

 

الشوق إلى التين.. حول المكان في أفلام الهجرة

ما قلناه عن الزمن في أفلام الهجرة نقوله عن المكان في هذه الأفلام، بمعنى أن كل شخوص الأفلام عادة ما ترغب في التخلص من أمكنتها المغربية المحيلة والمذكرة لها بالفقر وغياب الحق في متع الحياة (شغل، زواج، دراسة، الخ)، مما يجعل مكان الآخر مكانا مرغوبا فيه، وهو المعلق في بيوت الشباب وفي دراجاتهم العادية والنارية، أو في هواتفهم المحمولة. مكان معلق في مخيالهم ليل نهار.

حضور المكان بجانب الزمن في أفلام الهجرة حضور قوي وجوهري، بل من خلاله يمرر المخرج رسالته، فالقرية والمدينة والمنزل وغيرهم من الأمكنة حاضرة من زاوية الرفض في زمن الحاضر، لكونها تذكّر شخوص الفيلم بواقع مرير ترغب بالتخلص منه، وبالتالي يصبح الحلم المحدد في الهجرة بحثا عن الأماكن المثالية ميزة تميز كل أفلام الهجرة.

فبعد تحقيق حلم الهجرة إلى ديار الغرب يكتشف المهاجر برودتها، وكونها لا تعرفه مهما حاول التقرب إليها، ومهما حاول أن يستمتع بها. فعلى سبيل المثال نجد المخرج المغربي حسن لكزولي في فيلمه “تينجا” يقدم لنا صورة الأب المهاجر الذي حان موته، فيوصي بدفنه في قريته بأحد جبال الأطلس، وهو مما جعل أحد أبنائه ينقله بسيارته من فرنسا إلى المغرب بحثا عن قرية أبيه ليدفنه. صورة سينمائية مؤثرة نحتها المخرج حتى من عنوان فيلمه، والمحيل على عودة التراب إلى ترابه.

من خلال أفلام الهجرة تتحول تلك القرية التي كان يتنكر لها أبناؤها الحالمون بأمكنة الغرب المثالية؛ إلى أمكنة حاضرة في وعي ولاوعي من نظر إليها في الماضي نظرة دونية. تينها لا مثيل له، ومياهها العذبة لن يشربها وهو في أفخم الأمكنة الغربية، حليبها ولبنها وشيوخها وحيواناتها وأشجارها ونساؤها وأطفالها الذين يتسلقون كل مرتفع وهم يرتدون ألبسة دالة على الفقر والبساطة؛ تصبح مع اكتشاف برودة وعنصرية جزء من مكان الآخر هي الحلم والأمل والاشتغال ليل نهار بحثا عن عطلة زمنية تتحقق فيها العودة، ومن هنا تقبيل ترابها ومعانقة أهلها حد البحث عن لحظة التماهي مع هذه الأمكنة التي كانت في الماضي أمكنة متنكَّر لها غير مرغوب فيها لكونها غير مماثلة لأمكنة الغرب التي اعتقد بأنها هي الأمكنة النموذجية.

من الممكن تقديم مثال جميل ودال على قيمة المكان هنا، ومدى الرغبة الحاصلة لدى كل الشخصيات الرئيسية والثانوية في التعلق به مهما كانت دوافع الهجرة. هذا المثال هنا له طابعه الخاص، إذ الأمر يتعلق بمدينة الدار البيضاء وبفضاءاتها الشعبية العريقة سنة 1960، وحضورها الدائم لدى اليهود المغاربة الذين هاجروا منها نحو إسرائيل في سياقات تاريخية متعددة. حركية الأطفال التي يعج بها المكان الشعبي بالدار البيضاء وحرفه البسيطة ميّز هذا المكان على طول حكايات الفيلم، مما جعل هذه الفئة الاجتماعية المغربية تحمل معها ذاكرتها المكانية إلى اليوم.

القفطان المغربي الذي تلبسه المرأة المغربية ويُعتبر من الألبسة التقليدية المغربية

 

ألبسة الموطن والمهجر.. صراع الظاهر مرآة الباطن

على مستوى الألبسة فهي بدورها تحضر مُمثلة فكرة الهجرة، لنعيش تضادا على مستواها، بين ألبسة مغربية تقليدية تحيل على مكان ما من المغرب، وتلك الألبسة التي مارست سلطتها على من فكّر في الهجرة، معتقدا أنها هي الألبسة التي بها يتحقق حلمه، لكنه بعد أن اكتشف أن ألبسة الآخر مهما تفنن في ارتدائها فلن تكون ذات قيمة وجدانية مثل ألبسة أعراسه وأجداده.

من خلال ثنائية اللباس تمكّن المخرج المغربي في أفلامه ذات الصلة بالهجرة من أن يمرر خطابه السينمائي الدالّ على كون الطيور مهما غادرت مواطنها ستعود في يوم من الأيام. فهل من الممكن أن ينسى الشاب المغربي المهاجر ذلك الجلباب المغربي، أو قفطان أمه وهي ترتديه في مناسبة من المناسبات الدينية أو الاجتماعية؟

صحيح، وهو يلعن حاضره المغربي الذي لم يوفر له عملا يقتني من خلاله سيارة أحلامه، ويطوف بها وبجانبه تلك العروسة التي يحلم بها، فهو عائد في يوم ما إلى ثقافته الشعبية مهما حاول التنصل منها. لكن، وعلى الرغم من هجرته اليوم إلى ديار المهجر، وتحقيق كافة شروط الحياة المادية والمالية، فإنه كلما كبر صار راغبا في شم رائحة جلباب أبيه وقفطان أمه، بل نجده حتى وإن تزوج أجنبية ورُزق منها أبناء هناك في بلاد المهجر، يعيش تحديا آخر في تعليم زوجته كيفية ارتداء ألبسة مغربية تقليدية، مبتسما حد الإحساس بالسعادة وهو يراها تمسك بيديها أطراف هذا اللباس التقليدي، إن لم يكن قد أحضر بوعي أو بدون وعي صورة ما لعروس تمنى أن يتزوجها من قريته أو مدينته.

الإحساس نفسه من الممكن القبض عليه وهو يرى أطفاله يرتدون ألبسة مغربية تقليدية تُذكّره بطفولته ومراهقته التي لعن فيها البلاد والعباد، وهو ينفث سيجارته في ليلة من الليالي حالما بالهجرة وبالزواج بشقراء أوروبية قد تُنسيه فقره، ليكتشف أن ابنة قريته التي لم يف بوعده لها سيبقى ظلها يطارده، بل إنه من خلال ظلها أصبح يرى أوروبا برمتها حاملا حكاياته وجروحها، حاكيا إياها وبشكل سري لبعض أصدقائه هناك في بلاد المهجر، أو هنا في بلاد المغرب.

من الممكن تقديم مثال دال على طبيعة هذه الألبسة وقوة جمالياتها وبُعدها التاريخي من خلال مشاهدة فيلم “باب السما مفتوح”، لمخرجته فريدة بليزيد (1987)، لنتأكد كيف أن فيلمها هذا الذي مرّ عليه أكثر من ثلاثين سنة، هو اليوم وعلى الرغم من بعده التخييلي بمثابة توثيق جميل لطبيعة هذه الألبسة المغربية، لا سيما النسائية، مما يجعل المتفرج يُصاب بالدهشة لما كانت ترتديه المرأة المغربية من ألبسة تحمل خلفها إرثا تاريخيا وحضاريا نوعيا.

 

الموسيقى.. كشف لعوالم دفينة

من الممكن اعتبار الموسيقى ذلك المكوّن الخصب والنوعي الذي من خلاله تتأزم علاقة الشخوص في جميع أفلام الهجرة. نفس الثنائية الضدية تلازم هذا النوع من الأفلام التي تخصب طريقة حكيها السينمائي بهذا البُعد الاجتماعي الإنساني الآتي من رحم هذه القصص الوجدانية المعبرة، فعلى سبيل المثال حينما تكون الشخوص الفيلمية راغبة في الهجرة سواء بطريقة سرية أو قانونية، تحضر بعض المقاطع الموسيقية الغربية، والعكس صحيح، فحينما يتعلق الأمر بالرغبة في العودة إلى أرض الوطن أو تذكر قرية ما أو مدينة ما؛ عادة ما يتم إحضار بعض المقاطع الموسيقية المغربية الشعبية أو العصرية. مكون يكاد يخترق كافة تجارب المخرجين المغاربة الذين استهوتهم أفلام الهجرة جزئيا أو كليا.

الرؤية الإخراجية.. بُعد إنساني

إن معظم -إن لم نقُل- كل الرؤى الإخراجية الفيلمية تلتقي في هذا البعد الإنساني، وذلك في كون المخرج ربما بدوره عاش هذه التجربة، وربما لعن البلاد والعباد وهو شاب حالم بتلك الشقراء، أو قيادة سيارة من آخر طراز عالمي.

لكن شاءت الأقدار أن يعود إلى قريته في سن متأخرة من عمره، مصمما على البقاء في قرية أبيه أو مدينة أمه، موصيا وهو يقترب من الثمانين أو التسعين من عمره أن يُدفن بجوار أبيه، إن لم يكن قد اقتنى تلك المساحة الضيقة القريبة من قبر أبيه ليدفن فيها، كإشارة قوية منه ودالة على كون التراب (الجسم) يعود في نهاية المطاف إلى ترابه.

 

“هنا ولهيه”.. أفلام مغربية دالة

رغبة في التخلص من سلطة الأب الذكورية، نجد المخرج عبد الله المصباحي في فيلمه “الضوء الأخضر” (1974)، يحلم بالسفر إلى بلد غير بلد الأب/الرقابة، وفي فيلم “خيط الروح” لحكيم بلعباس (2003) سنجد توظيف الحلم، بوابة مفضية لاسترجاع جمال المكان وقيمه الوجدانية والروحية (العودة إلى أبي الجعد واستحضار متعة المكان فيه).

الشيء نفسه سنجده في فيلم الرحلة الكبرى للمخرج إسماعيل لفروخي (2004)، ومن موقع ديني مقدس أسمى، حيث حنين الأب إلى زيارة الديار المقدسة عبر البر وليس الجو، مما سيجعله يفرض على أحد أبنائه أن يكون قائد الرحلة من فرنسا نحو الديار المقدسة مرورا بالعديد من الأمكنة، وهنا سيكون الأب حالما بزيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) متمسكا بكافة التقاليد بما فيها اللهجة المغربية، بينما يسير الابن في الاتجاه المعاكس لأبيه (البحث عن الخمر والسهر)، لكن بموت الأب في الديار المقدسة وعودة الابن وحده سيتطلع إلى السماء، وذلك في إشارة إخراجية قوية دالة على عودة الابن إلى ثقافة أبيه الدينية.

في فيلم “هنا ولهيه” للمخرج محمد إسماعيل (2004)، سنجد الأب يحنّ إلى مسقط رأسه، لا سيما وإنه -حسب نظره- لم يفلح في تربية أبنائه بالديار الفرنسية، فيقرر العودة إلى وطنه ومسقط رأسه.

 

“فين ماشي يا موشي”.. هجرة من نوع آخر

في فيلم “فين ماشي يا موشي” للمخرج حسن بنجلون (2007) هو فيلم يحكي قصة هجرة من نوع آخر وفي سياقات ثقافية وسياسية وتاريخية، تتعلق بهجرة اليهود المغاربة من الوطن نحو إسرائيل، ويقدم الفيلم تجربة هجرة موشي الذي هاجر مدينته أبي الجعد (وسط المغرب) حاملا في قلبه وروحه قصص تعايش ديانته مع ديانة الإسلام في هذه المدينة ذات البعد الصوفي.

هذه الهجرة –حسب الفيلم– هي هجرة اضطرارية، لا سيما أن الأسر اليهودية المغربية التي هاجرت قراها ومدنها كانت ولا تزال تتردد عليها وتستمتع بالعديد من الأشكال الموسيقية المغربية، وبقية التقاليد والعادات والأطعمة الدالة على ذلك الارتباط الشديد والقوي بالأرض.

طبق الكسكس المغربي الذي يُعتبر من الأطباق التقليدية المعروفة في المغرب

 

الحنين إلى الكسكس.. صورة صغيرة عن عالم أكبر

ما الذي يمكن أن نجنيه من هذا النوع من الأفلام المغربية التي كانت ولا تزال إلى يومنا هذا تحكي العديد من القصص القوية والدالة والراغبة في تقريب سؤال الهجرة إلى المتلقي، ومن موقع حكي سينمائي دال؟

نعيد هنا جملة سبق أن رددناها في بداية هذا المقال ووسطه، وتتحدد في كون الطيور مهما غادرت أعشاشها تعود إليها لكونها تشم فيها رائحتها. سواء نجحنا في الاندماج في البلد الذي هاجرنا إليه أو لم ننجح، وفق سياسة الآخر المعروف بمحدودية رحمه، عكس العديد من الدول الفقيرة المصدرة لليد العاملة؛ يبقى حق العودة والاستمتاع بزمان ومكان الوطن الأم حقا وجوديا وأبديا. فمن الصعب نسيان رائحة شجرة التين والزيتون وطبق الكسكس، وأطفال القرية وهم يجرون خلف قطيع الغنم، ومن الصعب أيضا نسيان تلك الأزقة الضيقة في الدرب وفي المدينة القديمة، كم تصبح شاسعة حينما نتذكرها في الكبر ونحن هناك في بلاد المهجر؟

صحيح أن هناك ظروفا اجتماعية واقتصادية تدفع الكثير من شباب اليوم في معظم الدول الفقيرة إلى الهجرة والبحث عن مكان أفضل، لكن من الصعب نسيان ذاكرتنا ونحن هناك في بلاد المهجر.

وفق ما سبق من الممكن القول إن الفنون بشكل عام والسينما بشكل خاص حينما تقترب من موضوع الهجرة تتلبس بما هو إنساني في المقام الأول، مما يجعلها وفية لهذا البعد الإنساني، ومن خلاله تنتصر بلغة الصورة للإنسان أينما حلّ، وما الـنماذج السينمائية المغربية المُتحَدث عنها هنا إلا تلك العينة المُصغرة من عينة كبيرة وعديدة قد نجدها في كل سينما العالم التي نبشت في سؤال ذاكرة الهجرة.