الوثائقي.. من التلفزيون والمهرجانات إلى دور العرض

فتح موقع الجزيرة الوثائقية ملف الوثائقيات العربية لعام 2018 وبحث في أهم ما عُرض منها، وأهم ما حملته من مضامين وهموم، كما ناقش أبرز قضايا الإنتاج الوثائقي. ويقرأ مقال ندى الأزهري أدناه الدور الذي قامت به المهرجانات العالمية والعربية لإبراز الفيلم الوثائقي وتطوره وزيادة الاهتمام به.

ولكي نتعرف على الكيفية التي وصل فيها الفيلم الوثائقي إلى المهرجانات والدور الذي تلعبه تلك المهرجانات في تطويره؛ يجب أن نراجع بدايات الوثائقي والدور الذي لعبه التلفاز في نشأته وزيادة الاهتمام به.

قيل إن “السينما خُلقت في البدء على شكل الوثائقي”، فالمقاطع الأولى التي صورها الأخوان لوميير -الصناعيان الفرنسيان رائدا صناعة السينما وصاحبا الدور الرئيسي والحاسم في تاريخ السينما والصورة- كانت لقطات تصوّر مشاهد من الحياة اليومية مثل خروج عمال من المصانع أو دخول قطار لمحطة.. السينما بدأت إذا كوسيلة لالتقاط “الواقع والحقيقي”. ومع أنها منذ بدايتها مع الفيلم الصامت وإلى اليوم استعارت أشكالا كبيرة من الوثائقي -حتى إن “سينما الحقيقة” أو السينما المباشرة أوحت لسينمائيي الموجة الجديدة في فرنسا بأن “السينما ستصبح وسيلة للتعبير عن كلمة حرة”- فقد استمرت لفترة طويلة مقولةُ أن الوثائقي “أب فقير” لصناعة السينما على حد تعبير نقاد فرنسيين.

لكن.. هذا الاهتمام بالواقع -في فرنسا على سبيل المثال- الذي نشهده اليوم في السينما وفي التلفزيون وهذه الفورة في توزيع الفيلم الوثائقي خارج إطار التلفزيونات؛ تثبت أنه حيّ وربما سيتخلص قريبا من الصفة التي ألصقت به. إنه يبحث عن مكانة، ويمكن القول إنه ينجح في إيجادها مع كل صالات السينما التي صارت تعرضه جنبا إلى جنب مع الروائي، ومع كل الأماكن الأخرى كالمهرجانات التي تُكرَّس له والعروض الخاصة التي تنظّم لأفلامه والجوائز التي تُمنح له، ومع الدورات التدريبية التي تعلّمه والندوات التي تعقد لمناقشته.

كل هذه الخيارات لعرض الوثائقي تشهد على المكانة التي باتت له؛ ليس في فرنسا وحدها بل في العالم كله، وتدفع للتأكيد على مكانة الوثائقي اليوم وعن وجود جمهور له. هنا، قد يبدو بديهيا أن المهرجانات السينمائية بإدخالها الفيلم الوثائقي في برامج عروضها بعد أن كانت مقتصرة على الفيلم الروائي، قد ساهمت في تطوير هذا النوع السينمائي وفي تمديد حياة الفيلم، لكن، بالتأكيد ثمة بديهية أخرى تظهر من خلال متابعة تطور الفيلم الوثائقي، فكثرة إنتاجه هي ما دفع بالمهرجانات إلى الاهتمام بهذه السينما “المختلفة”، وكان التلفزيون الذي حفّز على هذه الكثرة والتطور التقني في تسهيل إنجاز الفيلم، عاملين لهما الأثر الأكبر في الالتفات إلى نوع جديد من السينما.

قد يكون من الضروري هنا أن نستعرض -سريعا وباختصار- تاريخ تطور الوثائقي -في بلد كفرنسا مثلا وهي رائدة في مجاله- الذي لم يكن إلى زمن قريب على هذا الازدهار الذي نشهده اليوم لمعرفة من له الدور الحقيقي: المهرجانات أم التلفزيون؟

الوثائقي في قلب الشاشة الصغيرة

بين نهاية الثمانينيات وحتى نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، بات “الواقع” بكل أشكاله يشكل منتجا ممتازا للبيع في مجال السمعي البصري في العالم، فالشاشة الصغيرة تغزوها عروض الواقع، سواء عبر التحقيقات أم برامج الواقع. فقد كانت المحطات التلفزيونية في فرنسا مثلا بدأت بوضع الوثائقي في قلب برمجتها، وكانت هذه الإنتاجات التلفزيونية تستخدم الواقع موضوعا في التحقيقات (ريبورتاج) وفي برامج تلفزيون الواقع وفي الروائي الوثائقي. وفي منتصف التسعينيات حصل ما يمكن أن نسميه “انفجارا” في إنتاج الوثائقي، وكان نتيجة مباشرة لوصول القنوات التلفزيونية المتخصصة واهتمام محطات مثل القناة الثقافية الفرنسية الألمانية “آرتي” و”الخامسة” التي ساهمت في إنتاج ربع حجم الإنتاج السنوي من الفيلم الوثائقي.

دفعت المنافسة المتصاعدة بين القنوات لفرض معايير مُلزمة أكثر فأكثر للأفلام كي يمكن توزيعها تلفزيونيا، وكان للفيلم الوثائقي “الإبداعي” مكان أقل في المشهد العام للسمعي البصري، حيث كان الفيلم يُرفض مثلا إن لم تعجب زاوية تناول الموضوع أو معالجته أو أسلوب السرد، وكان وجود مشهد صامت لأكثر من 30 ثانية في تقديرهم يدفع المشاهد للذهاب إلى محطة أخرى. كانت تلك المعايير التي ترى في ابتعاد أسلوب الفيلم الوثائقي عن الأسلوب التقليدي في الطرح والإيقاع تترك مكانا قليلا للتنوع لأنه من الصعب جدا التوصل لتوزيع فيلم “مختلف”. أيضا ثمة مواضيع اعتُبرت أكثر إعلامية من أخرى، مما حدّ من تنوع المقترحات. لقد كان التحقيق (ريبورتاج) هو النموذج والمرجع للوثائقي التلفزيوني، وبما أن التلفزيون يوزع ويموّل فعلى الوثائقي التأقلم مع متطلباته. وهنا جاءت الطرق المكمّلة.

تحولات.. دعمٌ تلفزيوني فمهرجانات متخصصة

حصل تحول هام في مسيرة الفيلم الوثائقي حين قررت محطة “آرتي” التلفزيونية الثقافية عام 1992 دعم ما دُعي حينها “الفيلم الوثائقي الإبداعي”، وترافق هذا مع تأسس هيئات وجمعيات تدافع عن سينما وثائقية لا تقتصر مهمتها على الإعلام أو الأخبار وإنما كذلك على عمل تجربة الواقع.

ومع نموّ هذه الحركة بدأت المهرجانات المختصة بالفيلم الوثائقي في الظهور ومنها مثلا مهرجان “سينما الواقع” في باريس، الذي هو من بين الأهم اليوم في المهرجانات الخاصة بالوثائقي، و”رؤية الواقع” في نيون بسويسرا. مهرجانات فرضت حضورها وأخذت بالانتشار لدرجة شجعت معها ظهور تظاهرات أخرى تهتم بالفيلم الوثائقي مثل “لوساس” في جنوب شرق فرنسا و”المهرجان الدولي للوثائقي” في مرسيليا، إلى أن أصبح الوثائقي “الإبداعي” ماركة معترفا بها من المركز الوطني للسينما في فرنسا حيث تخصص له تمويلا على حدة.

هذا الاهتمام للجمهور وللمحترفين بالوثائقي ساهم فيه كذلك تطور الأدوات الرقمية حيث إن صنع الصورة لم يعد يكلّف كالسابق وبالتالي باتت ممكنا تحقيق فيلم في متناول أعداد أكبر.

إذن صحيح أن التلفزيون هو أول من ساهم في إظهار الوثائقي بعرضه مكانا لتوزيع هذا الفيلم على شاشاته، لكن “هذا الظهور -كما يعبر مختصون بالسينما الوثائقية- ارتبط -تحت تأثير التنافس الاقتصادي المتصاعد- بفرض شروط على حرية الخلق”، وهو ما عانى منه الوثائقي. كما أن التلفزيون الذي سمح للوثائقي بالتواجد وأنقذه صناعيا، هو اليوم من يطبّق عليه سياسة “التواصل أهم من الإبداع”، وبالتالي كان التوجه نحو أماكن أخرى للسماح لهذا الفن بالتواجد على نحو أوسع، وكانت المهرجانات أهم هذه الأمكنة.

في “كانْ” كانَ البدء.. ثم ينهمر

أدى نجاح بعض الوثائقيات إلى الوصول إلى مهرجان كان أبرز المهرجانات العالمية، ففي عام 2002 وصل الفيلم الفرنسي “إتخ إي أفواغ” (Etre et avoir) (أن تكون وأن تمتلك) ) لنيكولا فليبير الذي صُوّر في مدرسة ابتدائية ويسرد يوميات معلم مع تلاميذه الصغار، وعرض لكن خارج المسابقة الرسمية. وكان يجب الانتظار عامين آخرين في نفس المهرجان أي في 2004 لنرى فيلما وثائقيا في هذه المسابقة، إنه فيلم “فهرنهايت 9/11 ” للأميركي مايكل مور الذي حصد السعفة الذهبية. كان الفوز حدثا استثنائيا سمح وربما للمرة الأولى بعرض الفيلم الوثائقي في الصالات التجارية على نطاق واسع بل ومدهش.

اليوم يعرض الوثائقي في مهرجان كان موزعا على أقسامه المختلفة، ففي دورته الأخيرة الـ71 (8-19 مايو/أيار 2018) عرض 18 فيلما وثائقيا توزعت على مختلف أقسامه الرسمية وتنوعت مدتها بين القصير والطويل. وهناك لجنة تحكيم تسمى “العين الذهبية” لاختيار الأفضل منها، وكان الفيلم الفائز هذا العام هو “درب السموني” للإيطالي ستيفانو سافونا الذي عُرض في قسم أسبوع المخرجين، وهو عن يوميات عائلة من غزة بعد فقدانها لأفراد منها في الحرب على غزة. كما منح فيلم “حر” لميشيل توسكا تنويها خاصا وهو عن مزارع شاب على الحدود الإيطالية قرر مساعدة اللاجئين.

أفلام سمح لها مجرد العرض في كان الدوران على مهرجانات كثيرة أخرى عالمية وعربية، ولكن أيضا فَتحت لها الصالات الفرنسية والأوروبية أوسع أبوابها. واليوم في مهرجان كان ثمة سوق للفيلم الوثائقي وركن له يكبر عاما بعد عام ويتجاوز المعروض فيه المئة فيلم، بينما هناك أكثر من مئتين في الكتيب الخاص بالمهرجان. كما أنه ومنذ 2016 ينظم مهرجان كان يوما للفيلم الوثائقي.

“طرس.. رحلة الصعود إلى المرئي” إخراج اللبناني غسان حلواني، وهو عن شهادته اختطاف رجل يعرفه ثم بعد ربع قرن يتعرف على صورته على الحائط، نفس الملامح ولكن لم يعد نفس الرجل

أما مهرجان برلين الدولي “البرليناله” الذي يعرض الوثائقي أيضا ضمن كافة أقسامه، فقد أعطى الدب الذهبي في مسابقته الرسمية في دورته الـ66 عام 2016 إلى الوثائقي “فوكوامار، بعيدا عن لامبيدوزا” للإيطالي جيانفرانكو روسّي الذي تفوق على الأفلام الروائية المنافسة بسبب موضوعه عن مأساة اللاجئين الواصلين لقرية لامبيدوزا الإيطالية. وكان فوز الفيلم أحد أسباب بيعه لـ55 بلدا من العالم أجمع. المخرج ذاته كان ربح الأسد الذهبي في البندقية قبلها بثلاث سنوات عن فيلمه الوثائقي “ساكرو غرا”. كذلك تفعل بقية المهرجانات العالمية ومنها “لوكارنو” أحد أقدم المهرجانات السينمائية في العالم التي تبرمج الوثائقي مساهِمة بهذا في ترويجه.

هذه المشاركات المتزايدة في أهم المهرجانات العالمية إضافة إلى تضاعف عدد التظاهرات الثقافية المرتبطة بالوثائقي أو الخاصة به أدت إلى خلق حيوية جديدة في إنتاج هذا النوع. كما أن تطور الوثائقي في “كان” ومهرجانات أخرى دولية يعد انعكاسا لإنتاج حيوي وخاصة في فرنسا. لكن هذا النجاح الكبير في اختراق المهرجانات ما زال يواجه حقيقة الصالات، فالوثائقي لم يشكل بعد منافسا حقيقيا للفيلم الروائي من حيث المردود ونسبة التردد كما تظهر الإحصائيات في بلد كفرنسا، فنسبة وجوده في دور العرض يشكل 15% من بقية الأفلام. ولكن بالطبع ثمة استثناءات يتجاوز فيها مردود الوثائقي المليون بطاقة مباعة، وهو مردود عال.

المهرجانات العربية.. حضور خجول بدأ يتنامى

يختلف وضع الوثائقي في البلدان العربية، فإذا كانت صالات السينما شبه معدومة للفيلم الروائي، فكيف سيكون الحال بالنسبة لهذه النوعية المختلفة.. الفيلم الوثائقي؟!  وعلى أية حال حين توجد الصالات فهذا للأفلام التجارية البحتة، ومازال الوثائقي يعتبر فيلما غير مربح تجاريا، لذلك يبقى المجال الوحيد له هو الشاشة الصغيرة المختصة والمهرجانات السينمائية التي تشهد اهتماما متصاعدا بالسينما الوثائقية.

مازال لكل من المهرجانات العربية سياستها الخاصة، فبعضها يفضّل دمج الفيلم الوثائقي في كافة الأقسام، وبعض آخر يكرّس قسما خاصا به ضمن عروضه.

أقدم المهرجانات العربية مهرجان القاهرة، ومع تخصيصه “مسابقة الغد للأفلام القصيرة” في دورته الأربعين (20-29 نوفمبر/تشرين الثاني 2018) فضّل دمج الفيلم الوثائقي ضمن مختلف الأقسام دون تخصيص قسم له. وقد خلت المسابقة الرسمية وكذلك الاختيار الرسمي لعام 2018 من أي فيلم وثائقي، بينما تواجد هذا النوع في أقسام أخرى عديدة مثل مسابقة “أسبوع النقاد” حيث ظهر فيلم وثائقي واحد من أصل سبعة وهو “طرس.. رحلة الصعود إلى المرئي” من إخراج اللبناني غسان حلواني، وهو عن شهادته اختطاف رجل يعرفه ثم بعد ربع قرن يتعرف على صورته على الحائط، نفس الملامح ولكن لم يعد نفس الرجل.

وفي مسابقة “آفاق السينما العربية” كان هناك وثائقي واحد من أصل ثمانية وهو “الكيلو 64” للمصري أمير الشناوي. أما في العروض الخاصة فجاءت أربعة أفلام وثائقية أمريكية من ضمن ثمانية واحد منها عربي وهو “ستوديو مصر” للمصرية منى أسعد عن خضوع هذا الأستديو للخصخصة عام 2000.

أما ضمن البانوراما التي عُرض فيها 52 فيلما من مختلف أنحاء العالم فجاءت ثمانية أفلام وثائقية. وفي قسم “السينما المصرية الجديدة” عرض وثائقي واحد هو “الجمعية” لريم صالح، وتضمن قسم “مخرجات عربيات” أيضا فيلما وثائقيا واحدا هو “آلات حادة” للإماراتية نجوم الغانم من أصل تسعة أفلام. وهي حصيلة جيدة إذا أخذنا في الاعتبار جدة هذا النوع.

كما اختار مهرجان مراكش في دورته الـ17 لعام 2018 (30 نوفمبر/تشرين الثاني-8 ديسمبر/كانون الأول) الجمع بين الروائي والوثائقي.

ومن المهرجانات العربية التي تكرس قسما خاصا بالأفلام الوثائقية مهرجان قرطاج في تونس “أيام قرطاج السينمائية” التي احتوت دورتها الـ29 لعام 2018 (3-10 نوفمبر/تشرين الثاني) مسابقة خاصة بالأفلام الوثائقية عرض فيها 11 فيلما وثائقيا كان من ضمنها ستة عربية.

كما يُذكر”مهرجان الجزائر الدولي للسينما.. أيام الفيلم الملتزم” (1-9 ديسمبر/كانون الأول) الذي يخصص مسابقة للسينما الوثائقية، وفي نسخته التاسعة لعام 2018 عرض تسعة أفلام وثائقية من ضمنها ثلاثة عربية.

ومن المهرجانات الجديدة في المنطقة العربية مهرجان الجونة في مصر (20-28 سبتمبر/أيلول) الذي خصص ومنذ نشأته عام 2017 مسابقة للأفلام الوثائقية بجوائز مالية احتوت في كل دورة على 12 فيلما منها ثلاثة عربية، أي الثلث وهذه نسبة جيدة في بلدان لا يجد فيها الوثائقي -ولا الروائي أحيانا- مجالا للعرض.

هذا الاهتمام بالوثائقي للمهرجانات العربية يخلق لها جمهورا متصاعدا، وهذا أمر يلحظه كل من يحضرها، لاسيما مع تطور هذا النوع من السينما واهتمامها بالجانب الإبداعي إضافة إلى الإعلامي. ولعل هذا الاهتمام للجمهور وهذا الكمّ الكبير من الإنتاج الوثائقي العربي دفع إلى ظهور مهرجان خاص بالفيلم الوثائقي لأول مرة في العالم العربي وهو في تونس وتنظمه جمعية السينما الوثائقية. ويسلط هذا المهرجان الضوء على الجيل الشاب في حوض المتوسط ويتيح له عرض أعماله أمام الجمهور. إنه مهرجان يشجع الفيلم الأول الذي يكون من إنتاج المولعين بالفن السابع أو من المتخرجين الجدد من معاهد السينما.

في الدورة الأولى لهذا المهرجان (26-29 ديسمبر/كانون الأول 2018)، سلّطت الأفلام المختارة -وعددها 24 الضوء- على مواضيع تتعلّق بظواهر النزوح ونتائج الأزمة الاقتصادية والضرر البيئي على الظروف الاجتماعية لسكان البحر الأبيض المتوسط.

قد يكون هذا المهرجان فاتحة لمهرجانات أخرى خاصة بالفيلم الوثائقي لتضاف إلى 728 مهرجانا في كل أنحاء العالم تعرضه في برمجتها.