“اليوم التالي”.. هل يمكن أن تعشق ثلاث نساء معاً؟

 

 

لم يجازف القائمون على مهرجان الفيلم الكوري في لندن حينما افتتحوا الدورة الثانية عشرة للمهرجان بفيلم “اليوم التالي”، فهو من الأفلام التأملية التي تثير أسئلة وجودية على الرغم من بساطة الثيمة وسلاسة المقاربة الفنية التي عُرف بها المخرج الكوري الجنوبي “هونغ سانغ سو”، والذي بلغ رصيده حتى الآن 24 فيلمًا روائيًا طويلاً، نال معظمها جوائز في مهرجانات عالمية مرموقة بينها 12 جائزة لأفضل مُخرج، وهو الأمر الذي يكشف عن موهبته الإخراجية منذ أن أنجز أول فيلم روائي له يحمل عنوان “اليوم الذي سقط فيه الخنزير في البئر” عام 1996.

وعلى الرغم من كل هذه الشهرة والذيوع الكبيرين في المهرجانات الدولية فإن أفلامه لم تنجح تجاريًا، لأنه ظل يراهن على القيمة الفنية لأفلامه النوعية التي تنتقد بحدّة “الرأسمالية المريضة”، ولا تتوانى في طرح الأسئلة الشائكة والكبيرة التي تتخطى قُدرات الكائن البشري في كل العصور.

 

الخيانة الزوجية.. دون أن يرف له جفن

ينتمي هذا الفيلم إلى “سينما المؤلف” التي يستحوذ فيها المُخرج على كتابة السيناريو وتأليف الموسيقى وتبنّي الإنتاج، وربما يمارس في أفلام أخرى التصوير أو التمثيل أو المونتاج بحجة تجسيد رؤيته الإخراجية. في هذا الفيلم الذي كتبَ المُخرج هونغ سانغ سو قصته السينمائية بحوارها الذكي الذي يضع البطل غالبًا في مواقف حرجة لا يُحسد عليها استمدها في الواقع من تجربته الشخصية المُربكة في ممارسة الحُب خارج إطار الحياة الزوجية، ولم يجد حرجًا في البوح بهذه العلاقة العاطفية الحميمة التي ربطته بالنجمة السينمائية “كيم مين هي” في مؤتمر صحفي عام 2018 قبل العرض الأول لفيلمه الموسوم “وحيدة على الشاطئ ليلاً” في العاصمة سول.

يمكن اختصار ثيمة الفيلم بـ”الخيانة الزوجية” و”تشتّت المشاعر الفردية للكائن البشري الذي يستطيع أن يحب ثلاث نساء أو أكثر في آنٍ واحد من دون أن يرفّ له جفن أو يقشعر له بدن”. وقبل أن نسرد قصة الفيلم المستوحاة من رواية سوريكارا (Sorekara) للروائي الياباني ناتسومي سوسيكي التي تعني بالضبط “بعد ذلك” المُقارِبة لعنوان الفيلم، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ تقنية الفيلم قائمة على سلسلة من اللقطات التي تتداخل فيها الأزمنة المُستعادة أحيانًا، لكنها تكشف عن بعض الأكاذيب التي ترويها مُساعِدته الشخصية فيما يتعلق بوفاة والدها بمرض السرطان مرة وبالجلطة مرة أخرى. ولعلّ اللقطة الافتتاحية الطويلة توضّح للمُشاهدين العُقدة التي تقوم عليها ثيمة الفيلم.

مخرج الفيلم “هونغ سانغ سو ” أخرج 24 فيلماً روائياً نال معظمها جوائز في مهرجانات عالمية مرموقة بينها 12 جائزة لأفضل مُخرج

بعضٌ من النزاهة!

ففي لقاء مطوّل بين الزوج “بونغ وان” الذي جسّد دوره باقتدارٍ كبير الفنان “كوون هيّ هيّو” وزوجته “يوو يون هَي” التي لعبت دورها الممثلة “سونغ هاي جو” المعروفة بحاستها الأنثوية التي لا تخيب بأن زوجها قد تعرّف إلى امرأة أخرى، وأن نهوضه المبكر وممارسته للتمارين الرياضية وفقدانه للوزن الزائد وذهابه إلى دار النشر قبل ساعات الدوام، يدلل على وجود مثل هذه العلاقة التي سنتأكد من صحتها حينما نعرف ارتباطه بموظفة سابقة تُدعى تشانغ سوك (كيم سي بايوك) التي تركت العمل وربما سافرت إلى إنجلترا بحسب مزاعم زوجها، لكنها في واقع الحال لم ترحل إلى أي مكان، الأمر الذي اضطره لأن يعيّن مساعدة شخصية جديدة هي أريوم التي أدّت دورها بسلاسة فنية تُحسَد عليها حقًا الممثلة “كيم مين هَي”.

وبينما هي منهمكة في اليوم الأول من عملها في دار النشر وتناولها وجبات الطعام مع مديره، تخوض معه في نقاشات كثيرة فنعرف من خلالها أنها قارئة نهمة تمارس الكتابة يوميًا، وهي معجبة بأسلوب مديرها الذي تعده واحدًا من أبرز الكتاب في البلد، وقبل أن تطوي يومها الأول في العمل تعثر زوجته على ورقة كتب فيها خاطرة لصديقته الأولى تشانغ سونغ يُثني فيها على جمالها، ويُغدق عليها أجمل الأوصاف، ويغمرها بعواطفه الجياشة فتثور ثائرتها، وحينما تلج دار النشر تعتقد أن المساعدة الجديدة هي الصديقة التي كُتبت لها الخاطرة فتنهال عليها بالضرب المبرّح، فلم تجد أريوم بُدًّا من الدفاع عن نفسها لإيقاف هذه الكائنة المجنونة عند حدّها.

يبذل بونغ وان قصارى جهده لإقناع زوجته بأن صديقته الأولى قد رحلت وانتهى الأمر، أما آريوم فهي موظفة جديدة ولا علاقة لها بالخاطرة العاطفية التي كتبها إلى تشانغ وأصبحت جزءًا من الماضي البعيد. وحينما تغادر الزوجة نكتشف في موقف كوميدي لا يخلو من مفارقة، عودة تشانغ إلى مقر عملها السابق واستسلامها لمداعباته العاطفية التي أذهلت أريوم وهي ترى بأم عينيها تقلبات مزاج مديرها الذي وجد نفسه مرتبطًا بثلاث نساء في آنٍ واحد لكنه أيقن في قرارة نفسه بأنه “جبان” كما وصفته زوجته تمامًا، وأن عليه أن يمتلك بعضًا من النزاهة في التعامل مع زوجته التي تركها بعض الوقت وعاد إليها مُضطرًا بعد أن توارت صديقته الأولى عن الأنظار، وذهبت مُساعِدته الثانية إلى الدراسة في جامعة ما ثم عادت في زيارة خاطفة أهداها فيها كتابًا جيدًا ونصحها بأن تقرأه بإمعان شديد.

كوميديا لا تخلو من تراجيديا

ما يميز هذا الفيلم هو الموسيقى والمؤثرات الصوتية التي منحت الفيلم أبعادًا درامية عميقة في العديد من اللقطات المؤثرة التي ينهار فيها البطل على وجه التحديد، أو ينخرط في البكاء من دون إرادته.

كما لعبت حذاقة المصوّر المبدع كيم هيونغ كوو دورًا في إبقاء الفيلم ضمن مداراته البصرية الناجحة، سواء في اللقطات المقرّبة التي أخذت حيزًا كبيرًا من الفيلم أو في اللقطات العامة والمتوسطة التي تستجيب للأبعاد المكانية التي يهيمن عليها الثلج تارة والظلام تارة أخرى. فثمة انسجام واضح بين المصوّر والمخرج، إذ أنجز معه سبعة أفلام روائية وبات يعرف طريقة تفكيره سواء في الكتابة والحوار أو في رؤيته الإخراجية التي تزاوج بين ما هو ذاتي وموضوعي.

لا بدّ من الإشارة إلى أداء الشخصيات الأربع التي تألقت في كل لقطة ومشهد، وإذا كانت الفنانة “كيم مين هي” قد خطفت الأبصار بأدائها الهادئ الرزين فإن كوون هَيّ هيّو قد سلب العقول والقلوب في تقمصه للدور المعقد الذي أُسنِد إليه، وأبدعَ في كل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، وإذا كانت هناك جائزة لأفضل ممثل سواء في هذا المهرجان أو في غيره فيجب أن تُسنَد إليه لأنه أفضل من جسّد هذا الدور، وجعلنا نضحك من أعماق أنفسنا على المواقف الكوميدية التي لا تخلو من لمسات تراجيدية كنا نراها بأمّ أعيننا وهي تنبثق من قلب الشاشة الكبيرة التي شدّتنا جميعًا إلى الأحداث التي كانت تدور عليها دون أن تسمح للملل أن يتسرّب إلينا.

أنجز المخرج هونغ سانغ سو 24 فيلمًا روائيًا حتى الآن، نذكر منها “الآن صحيح.. خطأ لاحقًا” و”في بلدٍ آخر” و”المرأة مستقبل الرجل” و”كاميرا كلير”، وسواها من الأفلام التي تعالج القضايا الإنسانية اليومية، وتعتمد غالبيتها على ميزانيات متواضعة لكنها تجد طريقها إلى كبرى المهرجانات السينمائية في العالم مثل فينيسيا وكان وبرلين ولوكارنو التي لا تحتفي بأفلامه فقط، وإنما تسند إليه أكبر الجوائز السينمائية التي يستحقها عن جدارة.