“انطوائيون”.. جدران الجليد الروحي تخنق المجتمع الكوري

أمل ممدوح

“تقوقعت حول نفسي كالقنفذ، لأنني وجدت أن العزلة أحسن سلاح للدفاع عن النفس”. بهذه العبارة يصف الكاتب الليبي إبراهيم الكوني حالة العزلة كأسلوب للحماية، وكما يتكوّر قنفذ حول نفسه مصدّرا أشواكه لتحميه، فليس كل من يبدو معنا هو هنا بالفعل، فهناك من اختاروا أن يتركوا لنا حضورهم الجسدي، بينما سحبوا ذواتهم بعيدا. بعيدا في الداخل كنوع من الخوف والاحتماء من آلام الاندماج مع الخارج، أو آلام التنافر معه.

 

هذا هو إذن المعنى الذي يدور حوله الفيلم الكوري “انطوائيون” (Aloners)، أما الترجمة الأصلية الحرفية لاسمه عن اللغة الكورية فهي “الناس الذين يعيشون بمفردهم”، وهو من تأليف وإخراج “هونج سيونج ين” في أول أفلامها الطويلة، وقد شارك مؤخرا في المسابقة الدولية للدورة الـ43 لمهرجان القاهرة السينمائي، وفاز بجائزة الهرم البرونزي لأفضل أول وثاني عمل.

“جينا”.. برودة عشرينية غريبة الأطوار

مع بداية الفيلم نرى “جينا” الفتاة العشرينية تتوسط الإطار أثناء تلقيها لإحدى مكالمات عملها، فهي موظفة درجة أولى متميزة في قسم خدمة عملاء بطاقات الائتمان في أحد البنوك، وتبدو مختلفة رغم فتورها وتعبيراتها السطحية، وبالرغم من هدوئها الشديد فإنها تشعر بقوتها، فهي قوية الأعصاب متزنة الانفعالات، ذات ملامح واضحة وحضور قوي.

لقد كان أداء واختيار الممثلة “جونغ سينغ يون” إضافة إلى شخصية “جينا”، نتتبعها في محادثات محترفة مع العملاء بوجه مسطح فاتر لكنه يقظ، ثم نراها تسير وحدها في الطريق باتزان شديد، تنظر في شاشة هاتفها واضعة سماعاته في أذنيها، لا تتكلم أو تتلفت، نسير معها حتى تصل إلى بيتها الصغير، وفيه نجدها تكتفي بغرفة واحدة منه، ثم تكتفي منها بسريرها فتفعل عليه كل شيء، تأكل الوجبات الجاهزة، وتجلس عليه مقابل الحاسوب الخاص بها، فهي دوما مكتفية بمساحة محدودة، حيث نشاطها الحياتي محدود.

جينا بجوار شقتها تتأمل تغيرات حياتها

 

أثناء كل ذلك وحتى أثناء النوم نجدها تترك التلفزيون مفتوحا، فتعرض برامجه دائما كخلفية صوتية ومرافق بصري، وإن كانت الأصوات دوما خافتة لا تبدو شديدة الانتباه للمحتوى، لكنها حريصة على الانشغال بالنظر إليه أو وجوده فقط، وإن كان ما تراه نشرة جوية، وحتى أثناء نومها لا يصمت التلفزيون.

لن نسمع صوتها تقريبا إلا في عملها، أو إن اضطرت للرد على أحد بكلمات معدودة، لا يبدو أنها تعاني الوحدة، لكن يمكن أن نفهم وجودها في أعماقها، إنها أنشأت جدرانا زجاجية تنسحب وراءها في هذا العالم التكنولوجي، وهي تعزلها عمدا عن العالم الحي حولها وتشوشه.

علاقة الأيام الأخيرة.. غضب مكبوت وحزن كبير

نتتبع جينا في حياة يومية رتيبة تمارسها بهدوء وآلية دون أن يبدو عليها أي ملل، ليكون هذا التتبع لحياتها اليومية الروتينية هو الخط السردي الأساسي في الفيلم لعالمها الذي يبدو بلا أحداث، لينسج بالتوازي معه خطان سرديان يفسران ويفجران ما يخبئه صمتها، أحدهما عن الماضي، إذ نعرف أن والدتها قد توفيت حديثا، وأنها كانت منفصلة عن والدها لسنوات طويلة، وقد عادا لبعضهما قبل سنوات قليلة من الوفاة.

جينا في منزل أسرتها تجلس بعيدة عن والدتها

 

لكن هذه العودة فيما يبدو لم تنجح في إزالة فجوة عميقة تركتها تصرفات الأب فيها، فعلاقتها بوالدها فاترة مضطربة، فهي تفضل الحياة منفردة بعيدة عنه، حتى عواطفها تجاهه تبدو مُعلبة تمارسها أيضا عبر التكنولوجيا، فهي تضع كاميرا للاطمئنان عليه، وهي نفسها كانت موجودة بنفس المكان للاطمئنان من قبل على والدتها معه، فتشاهد أفلام فلاشة هذه الكاميرا بمفردها، لتكتشف خلال مشاهدتها رعاية والدها لأمها في أيامها الأخيرة.

لا يوضح الفيلم تماما تفاصيل الأزمة مع والدها، لكن غضبا مكبوتا منه يملأها، وحزنا كبيرا على فقد الأم ومن أجلها، يتسرب شيء من الشعورين عبر مواقف قليلة، لكن “جينا” لا تعبر ولا تبوح.

تمازج أصوات عوالم الداخل والخارج.. رحلات العزلة

نتتبع “جينا” من زاوية نظرتها الذاتية للأشياء وممارستها واستقبالها لها، فهي مصدر الحدث الأساسي، وتتبعها هو المحور الأساسي للسرد، وغالبا ما تستحوذ على اللقطات وتتوسطها، فنسمع ما تسمعه غالبا، وما دخل في حيزها الخاص، وننفصل عن ما عداه، حتى إن الأصوات حولها تبدو دائما خافتة جدا، كتعبير عن انعزالها وعدم تأثرها بما يجري.

لقد أبرز الفيلم هذا المعنى من خلال إسكات صوت الخارج، لكي نندمج معها في عالمها الداخلي وأصواته وذكرياتها، لتبدأ أصوات العالم الخارجي في التسلل تدريجيا، وتتداخل مع صوت عالمها حتى تطغى عليه وتعود معها للواقع، مما يشعرنا باستغراقها الانسحابي للداخل، الذي يؤكده إحساسنا بالوقت الذي يأخذه انتباهها للخارج من جديد، حيث نسمع أصوات الخارج والداخل معا، دون أن تنتبه هي إلا بعد وقت، وهو تعبير شديد التوفيق عن عزلتها الداخلية وتشرنقها، والعكس كذلك، فتنسلخ من أصوات الخارج التي تخفت تماما بدخولها لشرنقتها الخاصة من جديد، وتغيب فيها في عالم عدمي محايد، فهي إما أن تعزل العالم أو تعزل نفسها.

 

كما نجد لقطاتها عادة شاحبة مشوبة بفلتر أزرق، كحالة شبحية باهتة تتسق مع عدم انتمائها، دون أن يبدو عليها الحزن، بل تبدو في حالة مستقرة وهو خيار جيد تعبيريا، لتكون علاقتها بوالدها وتغيراتها على مدار الفيلم مقياسا لتغيراتها الداخلية.

“لياليّ الوحيدة”.. بقايا من روح الجار الغامض

يتصل الخط السردي الثالث بالحاضر الذي يحمل كثيرا من الإجابة على أزمتها ويحفز أيضا على مواجهتها، ويمثله حدثان وشخصيتان رئيسيتان، وإن بدتا عابرتين في حياتها، لكن كل واحدة منهما ساهمت في إيقاظ روحها، لتتصاعد تدريجيا جميع الخطوط السردية معا بالتوازي، تضيف للحبكة وتطورها.

تظهر الشخصية الأولى في طريقة عودة “جينا” لبيتها في المشاهد الأولى، حيث تمر في الممر المؤدي لشقتها بجار لها يقف عند السور يدخن سيجارته، يوجه لها كلمات تحية كمن يتمنى الاستئناس بها فتتجاهلها، وتشعر بعد أيام أثناء وجودها في شقتها برجّة وصوت ارتطام، يفزعها ونشعر به يهز أمانها، ولا تفهم ما حدث، لتشم بعد أيام بمجرد خروجها من شقتها ومرورها في الممر الضيق أمامها رائحة سيئة قوية، لتعرف بعد ذلك حين عودتها من العمل تفسير ذلك، وأن جارها الشاب مات وحيدا في غرفته إثر انهيار مكتبة من الكتب والمجلات الإباحية عليه كانت كل رفقته، لنرى عنوان” لياليّ الوحيدة” على إحدى علب أسطواناته الملقاة أمام شقته بعد اكتشاف وفاته التي حدثت منذ أيام، وهو ما يفسر الرجة التي شعرت بها “جينا” من قبل، فقد رحل الجار ولا يعرف أحد عنه شيئا سوى رقم منزله.

جينا تسير وحيدة في الشارع بعد استفاقتها

 

 

نرى “جينا” تمر على شقة الشاب وهي خالية، تقف على بابها، فنرى خواء الشقة من الداخل، بينما تبدو “جينا” في الخلفية عند بابها تنظر إليها، فتبرز الصورة خواء يشعرنا بما شعر به الجار الراحل، وكأنه يتردد فيها، ويطل من بعض المشاهد ملمح من الواقعية السحرية، حيث يظهر الجار المتوفي أمام “جينا” في مكانه المعتاد مع سجائره كعلامة تشابه لداخلهما، وكأن روحه ما زالت بعد موته تبحث عن الدفء والسكن، نشعر بتأثر ما في “جينا”، لكنه لم يخرج للسطح بعد.

الفتاة المتدربة.. ود صادق يوقظ الأعماق

أما الشخصية الثانية، فهي فتاة شابة تلتحق بعمل “جينا” كمتدربة جديدة، وتطلب مديرة العمل من “جينا” تدريبها، فتحاول الرفض أو تجنب ذلك دون جدوى، فهي تفضل التعامل الإلكتروني الآلي أكثر من المباشر الحي، فتبدو في مأزق كبير تحاول أن تتحاشاه بتجنب تدريب هذه الموظفة، لكنها تفشل في ذلك وتضطر لتدريبها، فنراها تستخدم معها أقل الكلمات، أو تستبدلها بالإيماءات، وتتجنب دعوات الفتاة الودودة التي نشعر ببراءتها الشديدة للتقارب أو الغداء سويا.

تبدو الفتاة كما لو كانت تخاف من الوحدة والبقاء وحدها فتتقارب معها، بعكس “جينا” التي أغلقت عالمها عليها، حتى ترحل الفتاة وتترك مكانها بشكل فجائي، لتجد “جينا” أن وجود الفتاة وتوددها ومشاعرها الحيّة قد أضاف شيئا ما لعالمها دون أن تدري، فقد أيقظت بودها الصادق شيئا في أعماقها.

سجائر ومطفأة وصلوات.. ملامح الجار الجديد

يأتي ساكن جديد لمنزل الجار المتوفى، وهو شاب يبحث عن سكن رخيص، ويتعجب من انخفاض إيجار هذا المنزل، حتى تخبره “جينا” بموت الساكن السابق فيه، وهي ترى أيضا أنه مسكون، لكنه يضحك ولا يعبأ، ويبدأ في تنظيفه وإقامة الصلوات للساكن الراحل مع أصدقائه، لتهدأ روحه دون أن يعرفه، الأمر الذي تراقبه “جينا” عن بعد، وكأنها تكتشف مذاق الحب والاهتمام الإنساني مقابل الانسحاب وعدم المبالاة اللذين تبنتهما.

الجار الجديد في ذات المكان الذي توفي فيه الجار السابق، حيث يدخن هنا السجائر مثله

 

هذا الجار وزميلتها هما من ضغطا على جزء في “جينا” تتجاهله، وبينما يبدو الجار الشاب مناسبا أمامنا لبدء قصة حب، فإن هذا لا يحدث، بل نفهم أن بحياته من يرغب في الزواج منها، فنراه يقف ويدخن سجائره عند السور تماما كالجار السابق وفي مكانه، ويطفئها في نفس المطفأة، وهي أيضا تدخن، لنفهم تشابهه مع الجار الراحل في الوحدة ومعها أيضا، لكنه أكثر إيجابية في التعامل معها، فيسعى لملء هذه الوحدة بالحب والأصدقاء والعطاء.

ذوبان الجليد.. رحلة البحث الحقيقي عن الداخل

تدريجيا نشعر بالبطلة “جينا” تبدو كما لو كانت تخرج من ثلاجة أقامت فيها طويلا، وجمّدت حواسها ومشاعرها، فنراها تفاجأ بنفسها، تستمع لصفارة في مكالمات العملاء لم تكن تسمعها من قبل، بينما كانت تسمعها زميلتها المتدربة، وفجأة لم تعد تستسيغ وجبتها اليومية المكررة، أو ربما بدأت في تذوقها الآن فقط.

تبدأ تعبيراتها في التحرر من الحيادية، فروحها كأنما استيقظت من غفوتها، فتعرت أسلاكها المغطاة، بل المخبأة تماما، حتى الإضاءة صارت طبيعية أو صفراء أكثر دفئا، ونبدأ تدريجيا في سماع مؤثر صوتي كالرنين، بينما لم تظهر المؤثرات الصوتية من قبل، وإنما كانت الأصوات تنبع فقط من طبيعة المشاهد.

جينا مع مديرتها في العمل تُدخنان معا، حيث بداية التقارب بعد التحول

 

تبدأ كذلك في التعبير عن غضبها لوالدها والبكاء بعد صمت وتجاهل طويلين، وتسير أخيرا في شوارع مزدحمة تذوب فيها وسط الناس، نشعر بخوفها كمن فزعت لاكتشاف الحياة فيها، تكتشف أزمتها، وتبدأ بحثها الحقيقي عن داخلها، تتغير ملابسها فتتخفف منها وتتنوع ألوانها، تفتح الستائر لضوء يغمر شقتها لأول مرة، ليأتي مشهد تنهض فيه من فراشها قبل نومها، فتحتل مركز الصورة، ليكون ظهرها مقابلنا، وهي مقابل التلفزيون كمن يقف في موضع قرار قادم، فتمد يدها لتطفئه أخيرا، فقد بدأت الوسائط البديلة في التراجع حين بدأت خوض الحياة نفسها.

نفوس وحيدة.. وعوالم متشابهة

لم يأت الخلاص في أزمة “جينا” من خلال قصة حب قد ظننا أننا نهيأ لها، مرة بالجار السابق ومرة بالجديد، فالفيلم لم يشأ أن يحصر أزمته في فراغ عاطفي يكون الحل بإشباعه، بل يوسع دائرة هذا الشعور كظاهرة إنسانية تعاني منها مجتمعات عدة حاليا ولا سيما كوريا خاصة، في ضوء تزايد المادية والاغتراب الحضاري والحياة المنفردة، والموت المنفرد أيضا.

يكشف الفيلم عن الضوء الأزرق في النفوس الوحيدة، مثل هذا الجار المتوفى وحيدا تاركا شبح روحه المعذبة، والزميلة التي حاولت عبثا الاقتراب منها لوحدتها حتى انسحبت، والأب الوحيد بعد موت الأم، وعميل من المتصلين يحلم بآلة زمن ترجعه للحظة دافئة إنسانيا ككأس العالم، يبدو أنه توقف عندها، ويجد في اتصاله حتى بخدمة العملاء نوعا من الدفء اللحظي، حتى مديرتها نشعر من إمساكها بالسيجارة مثلها ومحاولة الحديث معها في أي شيء؛ بملمح وحدة متوارية لم تتجاوزها أيضا، وإن لم تظهر كثيرا.

زميلة جينا تراقبها بينما هي تتحاشى الاندماج معها

 

كل ذلك أجاد الفيلم التعبير عنه بسرد هادئ شاعري نقل لنا ببراعة تحولات الشخصية بهدوء ودون مباشرة، من خلال تغير إحساسها بمحيطها، لتبدأ رحلتها لاكتشاف ذاتها من جديد، حيث تكون آخر مشاهدها في حافلة على وشك التحرك تنظر للعالم من زجاجها ولا تتجاهله، بعد رحلة عبرت فيها بآخرين مثلها، يختبئون خوفا خلف جدران باردة، بينما يتوقون كل لحظة لدفء يغمرهم.