“انظر ما وراء الصورة”.. الظلم بعيون ثلاثة أجيال من نساء كشمير

نبيل عجان

تنتظر موغلي عودة ابنها الوحيد نذير أحمد الذي اختطفته السلطات الكشميرية منذ عام 1990

نسيَ العالم كشمير منذ زمن بعيد، كما ينسى اليوم بأنانية لا تُوصف مناطق كثيرة تعصف بها رياح البُغض والحرب والدمار. فمنذ عام 1989 اختفى في كشمير أكثر من ثمانية آلاف رجل، وقُتل على الأقل ستون ألفا، والمعاناة مستمرة.

ثلاث نساء من ثلاثة أجيال يختصرن الظلم الذي يعانيه شعب كشمير –في الجزء الخاضع لسيطرة الهند- في مواجهة نظام قمعي لا يرحم. وتبدأ الحكاية في فيلم “انظر ما وراء الصورة” (شارك في مهرجان الجزيرة العاشر عام 2014) مع الخالة موغلي -كما يسميها جيرانها تحببا- والملقبة بـ”أم كشمير الوحيدة”.

تنتظر موغلي عودة ابنها الوحيد نذير أحمد الذي اختطفته السلطات الكشميرية منذ عام 1990، حيث استمرت بالنضال الصامت حتى أصبحت رمزا للنساء الكشميريات اللاتي فقدن زوجا أو ابنا، ورحن يتظاهرن في الشوارع بين الحين والآخر حاملات صور أزواجهن أو أبنائهن المفقودين والمُفتَقدين.

تواكب كاميرا المخرج محسن برمهاني حياة موغلي اليومية الممزوجة بالحزن والأمل، وذلك من منزلها إلى الشارع، ثم إلى أحد الأضرحة في مسجد صغير جميل حيث تلجأ للصلاة والدعاء لابنها. شيئا فشيئا أدركت عبثية وضعها، فاستسلمت لقدرها حتى فارقت الحياة في وحدتها، ومن دون ضمّ لابنها الوحيد إلى صدرها.

 

الخالة موغلي.. رحيل بعد معاناة

اهتم بحكاية الخالة موغلي الفنان وأستاذ الفنون الجميلة في كلية الفنون مسعود حسين، فهو أراد لقاءها وسأل جيرانها عنها فأخبروه أنها لم تظهر منذ أيام، فاضطروا لكسر باب منزلها ليروها قد فارقت الحياة. فاللقاء الذي حصل عليه الفنان في نهاية المطاف كان مع ضريح اختفت في ثناياه معاناة موغلي الطويلة التي استمرت طوال حياتها.

إلى جانب الخالة موغلي هناك شخصيتان مهمتان؛ “مسعود حسين”، وهو الفنان المعروف في كشمير والمناضل عبر فنه ضدّ الوضع القائم، إضافة إلى “رفيقة” التي اختطف زوجها رجال مجهولون يرتدون بزّات عسكرية، وذهب الزوج بلا عودة.

منذ ذلك الحين اضطرت رفيقة للعمل في الزراعة كما كان يفعل زوجها لتأمين لقمة العيش لها ولولديها، وذلك في ظروف قاسية بين نزوات الطبيعة وسوء الأحوال السياسية، إضافة إلى عدوانية حماتها. واهتم مسعود حسين بهاتين القضيتين وجعل منهما موضوع لوحة نراه يعمل عليها طوال الفيلم.

إلى جانب اللقطات الداخلية في بيت موغلي وبيت مسعود والجامع الصغير؛ عمد مخرج الفيلم إلى لقطات ليلية ونهارية خارجية للمدينة والحركة في شوارعها ثم للطبيعة الجميلة في كشمير، خاصة المقطع الذي يرينا مسعود وبحيرة دال في مدينة سرينيغر “جوهرة تاج كشمير”، حيث نرى من بعيد سلسلة جبال الهملايا والبيوت القوارب التي هجرها أصحابها بسبب الأوضاع الأمنية.

نساء يتظاهرن أمام مكتب الأمم المتحدة في أحد شوارع سرينيغر العاصمة الصيفية لإقليم كشمير في جزئه الخاضع للهند؛ تضامنا مع عائلة شاب اختفى

إرادة الانعتاق

نساء يتظاهرن أمام مكتب الأمم المتحدة في أحد شوارع سرينيغر العاصمة الصيفية لإقليم كشمير في جزئه الخاضع للهند؛ تضامنا مع عائلة شاب اختفى، وهذا أمر اعتاده السكان. وصباح عادي في كشمير يبدأ بالاحتجاجات والاعتراض والمظاهرات، فالنساء تحتلّ الساحة في حين يقف الرجال وعناصر الأمن على جانب الشارع.

المشهد نفسه يتكرر إلى ما لا نهاية؛ مظاهرات ومحتجون يرشقون قوات الأمن بالحجارة، فتردّ قوات الأمن أحيانا بإطلاق النار والقنابل المدمعة. وبين الفينة والأخرى تتنقل الكاميرا لترينا وجوها جميلة لشبان وشابات وأطفال ترتسم مسحة من الحزن على وجوههم، إلى جانب عناصر الأمن المتجهمين وكأنهم رجال آليون.

بعد مرور سنة ونصف تعود الطائرة بطاقم التصوير إلى كشمير لإتمام الفيلم التسجيلي، فنرى أولاً منظرا طبيعيا مع مجموعة من البيوت المتناثرة هنا وهناك بشكل عشوائي، وتركز الكاميرا على أسلاك شائكة وعصافير.

الصورة الرمزية واضحة هنا، وتدل بقوة على إرادة الانعتاق من القيود المختلفة ورسم أفق جديد يتيح التحليق في سماء الحرية، ويمكننا أن نستعين هنا بما يقوله الفيلسوفان الألمانيان نيتشه وكانت “الفن يتيح لنا الانخطاف من الواقع المرير سعيا إلى تغيير العالم الخارجي، وجعله يتلاءم مع عالمنا الداخلي، كما يساعدنا على إعادة خلق العالم -إذا صحّ التعبير- عبر الأعمال الإبداعية، إنها إعادة خلق الفردوس المفقود”. وبهذا تكون شخصية الفنان مسعود حسين هي المحرك الأساسي لوقائع هذا الفيلم التسجيلي.

تُجسّد موغلي الجيل الأول، أما الجيل الثاني فتمثله رفيقة التي اختُطف زوجها مصطفى أحمد خان المزارع وكان في الرابعة والعشرين من عمره، وذلك في يوم ماطر (14 أبريل/نيسان 1997)، مما اضطرها للكفاح من أجل تأمين لقمة العيش لعائلتها.

أما مخداش طالبة الفنون فتنتمي للجيل الثالث، وهي ابنة الفنان مسعود حسين. لا ترى مخداش أي أفق أمامها، وهي أقرب إلى أبيها من أختها “سنا” التي أنهت دراستها في إدارة الأعمال ثم تزوجت وهي الآن تتأهب للسفر إلى قطر حيث يعمل زوجها.

تمتزج الصور القاتمة مع صور الطبيعة الخلابة في هذا الفيلم التسجيلي، فالكاميرا ترصد الواقع وتحيلنا أحيانا عبر بعض اللقطات إلى واقع آخر مُرتجى

هل اكتملت اللوحة؟

يتيه مسعود في لوحته التي أراد أن يوثق من خلالها واقع كشمير، ويقول “أنا أشعر بالحزن حين أنظر إلى عملي هذا، لأنه خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة ساءت الأوضاع هنا كثيرًا”، ويكتب في أسفل اللوحة ستستمر مهمة موغلي بعد وفاتها.

ويضيف “أنا حزين وأشعر أننا ذاهبون إلى لا مكان، عملي هذا لم يكتمل في الحقيقة، وأبحث عن أحد يضمد جراحنا. لن أوقع هذه اللوحة بل سأمزقها”. يأخذ شفرة ثم يمزق لوحته بألم وينفجر باكيا.

ينتهي الفيلم بلقطة للمطر والطيور التي تخترق المشهد فوق بيت موغلي، حيث نرى رفيقة والثلج يغطي الأرض، ويطل مسعود من وراء النافذة في حين تخرج ابنته من المنزل.. “مصيرنا مجهول، لماذا لا يستطيع الناس العيش بسلام؟ أظن أن لا نهاية لهذا الوضع، فلا أحد يهتم”.

تمتزج الصور القاتمة مع صور الطبيعة الخلابة في هذا الفيلم التسجيلي، فالكاميرا ترصد الواقع وتحيلنا أحيانا عبر بعض اللقطات إلى واقع آخر مُرتجى. فالكلمة الأخيرة للفن حتى وإن عبّر مسعود عن يأسه القاتل من خلال تدمير لوحته التي كانت تمثل بالنسبة له خشبة خلاص رمزي من جحيم المعاناة، لكن الإبداع الفني لا يموت، فمن رماده يعود للحياة كالفينيق.