“بانوراما”.. كورونا يضرب في عقر الديار البريطانية

محمد موسى

في حلقتين من البرنامج التسجيلي المعروف “بانوراما” بدت بريطانيا والبريطانيون في حالة ترقب وخوف يقترب من الهلع، واستعدادات حكومية وشعبية تشبه ما يسبق الحروب العسكرية، وقد عرضت الحلقتان أخيرا على شاشة القناة الأولى لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، حملت أولى الحلقتين عنوان: “الأسبوع الذي غيّر بريطانيا”، والثانية: “إغلاق بريطانيا بالكامل”.

وصل العدو غير المرئي كورونا إلى الجزيرة التي لم يحتلها غازٍ في تاريخها، وقد وصل إليها محملا بسمعة مخيفة، فقد أغلق دولة عملاقة مثل الصين، ونشر الرعب في إيطاليا الدولة الأوروبية التي ستكون المثال للقادم المخيف، حتى أن البرنامج التسجيلي البريطاني سيجري في حلقته الأولى عن الفيروس مقابلة مع طبيب إيطالي للحديث عن تجربته في المستشفى الذي يعمل فيه، وما الذي يُمكن أن تنتظره بريطانيا في الأسابيع القادمة.

تبدأ حلقة “الأسبوع الذي غيّر بريطانيا” بعبارة “لا زمن يُشبه الأسبوع المنصرم، لقد غير كورونا حياة الناس في بريطانيا لفترة لا يُعرف حتى الآن كم ستطول”. تحقق الحلقة في الاستعدادات الحكومية وبالخصوص القطاع الصحي لمواجهة مستقبل غامض وصعب كثيرا، كما يلفت البرنامج الانتباه إلى سياسات حكومية كانت غير حاسمة في بداية تفشي المرض، وتأخر في الاستجابة ربما قاد إلى انتشاره.

كما يسأل البرنامج أسئلة عن قدرة القطاع الصحي الحكومي البريطاني (NHS)، على الصمود أمام أزمة غير مسبوقة في تاريخه، وهو الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، ويوفر خدمات طبية مجانية لكل الذين يعيشون في بريطانيا.

السيدة البريطانية الخمسينية التي توفيت بسبب كورونا وهي في رحلة سياحية مع عائلتها إلى جزيرة بالي في إندونيسيا

 

“العاصفة قادمة”.. طوفان كورونا المتسلل

تبدأ المذيعة المعروفة “جين كوربين” رحلة الحلقة التسجيلية من مدينة نيوكاسل البريطانية حيث اكتشفت أول حالة كورونا في بريطانيا، وهناك تُقابل في إحدى غرف المستشفى رجلا كان ينتظر نتائج فحص كورونا الذي أجراه للتو، بعد أن عانى لأيام من أعراض تُشبه تلك التي يحملها مرضى الفيروس، ويتحدث البريطاني بصعوبة كبيرة وهو يغطي فمه بكمامة، إذ كان عليه أن يلتقط أنفاسه بين كلمة وأخرى.

تهمس إحدى موظفات مستشفى مدينة نيوكاسل المذيعة قائلة: “العاصفة قادمة”، فالفيروس تسلل إلى الناس في الجزيرة البريطانية، والمستشفيات التي أفرغت من مرضاها العاديين ستمتلئ بحاملي كورونا خلال أيام. تكشف المذيعة عن تشخيص حوالي 6000 مصاب بالفيروس في زمن تصوير الحلقة، وقد توفي من هؤلاء 300 مصاب، وسيقدم بعض المصابين شهاداتهم عبر رسائل فيديوية أرسلوها من بيوتهم التي لا يغادرونها. تنتقل الحلقة في مونتاج سريع بين هذه الشهادات التي ستوفر مجتمعة نافذة على المشاكل الصحية الجدية والخطيرة جدا التي يعانيها المصابون بفيروس كورونا.

من الذين هزمهم المرض سيدة بريطانية في منتصف الخمسين من العمر كانت مع عائلتها في رحلة سياحية إلى جزيرة بالي في إندونيسيا، ويشرح زوجها من مكان حجزه في بالي التي لا يستطيع مغادرتها بسبب تقطع طرق السفر قائلا: هاجمتها الحمى والتعب ثم بدأ ضيق التنفس.

ثم يبكي وهو يتذكر المرأة التي كانت زوجته، فيختنق بالدموع أثناء حديثه عبر الإنترنت إلى المذيعة ويقول: هي من أطيب البشر الذين يمكن أن تقابلهم في حياتك.

يستعيد البرنامج تاريخ المرض، فيبدأ بالطبع في الصين الدولة التي كانت إجراءاتها –بحسب الأطباء والخبراء البريطانيين الذين تحدثوا للبرنامج – فعالة للغاية في مواجهة تفشي الفيروس، ويعي الخبراء أنفسهم أن الإجراءات الصينية غير المسبوقة لا تنسجم مع نظم العيش في دول العالم الغربي.

وفي إطار مراجعة تاريخ انتشار الفيروس في العالم، يصل البرنامج إلى إيطاليا الدولة الأوروبية التي ستصبح بؤرة للمرض ونموذجا على وحشيته، فيلتقي البرنامج طبيبا إيطاليا داخل أحد المستشفيات الإيطالية، ويحذر هذا الطبيب البريطانيين من الآتي الذي يُمكن أن لا يختلف كثيرا عما وقع في بلده، إذا لم تأخذ الحكومة البريطانية إجراءات غير مسبوقة للحد من انتشار المرض.

 

“ستجعل أبناءنا يدفعون ثمنا”.. انتقادات الحكومة

تتناول حلقة “الأسبوع الذي غيّر بريطانيا” الكثير من القضايا الآنية الملحة، مثل ضعف الاستعدادات لفحوص كورونا المختبرية، وسلامة العاملين في المستشفيات الذين يشكلون خط الدفاع الأول في مواجهة المرض، وكيف أن مرضهم يمكن أن يزيد من فداحة الوضع الصحي العام.

كما ينتقد البرنامج الحكومة البريطانية لضبابية الرسائل التي أرسلتها للبريطانيين (هذا في وقت تصوير الحلقة)، فرئيس الوزراء البريطاني لم يكن حازما في إطلالاته الإعلامية الأولى مع تفجر الأزمة.

ينتقل البرنامج من الجانب الصحي للأزمة الكبيرة إلى عواقبها الاقتصادية، فيرافق إحدى المؤسسات الخيرية التي تقدم مواد غذائية مجانية للمحتاجين، ويبدي الموظف الذي حاورته الحلقة قلقا كثيرا من المستقبل القريب، خاصة مع توقف الكثير من الشركات عن العمل وشح المواد الغذائية المتوفرة للناس أصحاب الدخل العادي، وهذا يعني توقف كثيرين عن دعم هذه المؤسسات الخيرية.

يصرح أحد الخبراء الاقتصاديين للبرنامج التسجيلي قائلا إن “الإجراءات التي اتخذتها الحكومة اليوم ضد كورونا ستكون لها عواقبها الكبيرة لعقود، وستجعل أبناءنا يدفعون ثمنا لسنوات طويلة قادمة”، إذ إن كل الدلائل تشير إلى ركود اقتصادي لم يسبق له مثيل سيطبق على العالم عامة، وعلى بريطانيا خاصة بعد أزمة كورونا.

إحدى المستشفيات البريطانية تنقل تجهيزاتها غير المسبوقة لاستقبال الفيروس، فالأسرّة فارغة بانتظار المرضى

 

أبطال الرداء الأبيض.. خط الدفاع الأول ضد المرض

كان جل تركيز الحلقة التسجيلية الأولى على العاملين في الحقل الطبي، فهم يشكلون خط الدفاع الأول مع المرض -كما وصفهم أحد المتحدثين للبرنامج-، وعلى الحكومة أن تفعل كل ما في وسعها لتعزيز هذا الخط، كما هو الحال مع الجيوش العسكرية في أزمان النزعات المسلحة.

يتنقل البرنامج في بضعة مستشفيات بريطانية، وينقل التحضيرات غير المسبوقة لاستقبال مرض كورونا القادم لا محالة، وتتحدث ممرضة بثقة من غرفة إنعاش في إحدى المستشفيات قائلة إنهم قادرون على التعامل مع ظروف صعبة في المستقبل.

أما الطبيب الأخصائي الذي تحدث عبر شاشة الكمبيوتر، فبدا أقل تفاؤلا وهو يتحدث عن صديق له يعمل في مستشفى كبير في لندن أصيب بالمرض، وهو يصارع اليوم لكي يبقى على قيد الحياة.

المذيع البريطاني ريتشارد بيلتون وخلفه أحد الشوارع البريطانية المغلقة بعد أزمة كورونا

 

“إغلاق بريطانيا بالكامل”.. إجراءات التباعد الاجتماعي

تبقى حلقة “إغلاق بريطانيا بالكامل” في عاصمة أيرلندا الشمالية بلفاست، لترصد من هناك التغييرات المُدمرة لكورونا على حياة الناس العاديين، وينتقل البرنامج التسجيلي الذي يجتهد كثيرا لإبراز الجانب الإنساني للأزمة من العاملين في متجر بقالة بالمدينة إلى صاحب صيدلية أصبحت مزدحمة للغاية، مرورا بمعمل لإنتاج الملابس الرياضية.

تسجل الحلقة الأخيرة يوميات الأزمة، وتبدأ من السادس عشر مارس/ آذار الماضي، وحتى الثالث والعشرين من الشهر ذاته، وسيسمح هذا البناء بتسجيل آثار الأحداث العامة على الشخصيات التي رافقها البرنامج لأسبوع، كما يتيح تتبع التبدلات التي حدثت في حيز الحياة العامة، فبعد أن كان محاور الحلقة المذيع البريطاني “ريتشارد بيلتون” يقترب جسديا من الشخصيات التي يحاورها، أصبح في أيام لاحقة من الأزمة يأخذ مسافة منهم.

لكن هذا أيضا سيتغير بعد الثالث والعشرين من شهر مارس/آذار عندما أصدرت الحكومة البريطانية تعليمات مُشددة، ونصحت بما يعرف بالتباعد الاجتماعي، عندها توقف “بيلتون” عن الذهاب بنفسه إلى شخصياته، وطلب منهم أن يسجلوا يومياتهم بأنفسهم عن طريق كاميرات صغيرة.

سادت حالة عدم التأكد والغموض على الحياة العامة في بريطانيا، وأيرلندا الشمالية لن تختلف عن بقية الجزيرة البريطانية، ذلك أن الحكومة البريطانية أصدرت في السادس عشر من شهر مارس/آذار تعليمات طلبت فيها من البريطانيين البقاء في منازلهم، في الوقت الذي لم تغلق فيه المطاعم والحانات والأماكن العامة، لكنها بقيت مفتوحة لأيام بدون زبائن لتفضيل كثير منهم البقاء في البيوت.

معمل الخياطة الذي يُشغّل 700 عاملا، والذي كاد أن يُفلس بسبب أزمة كورونا، لكنه تحوّل من تصنيع الملابس الرياضية إلى الكمامات

 

إغلاق الشركات والمصانع.. مستقبل اقتصادي مجهول

ينتظر المجهول آلاف الشركات والعاملين فيها، إذ أغلقت أبوابها اليوم لفترات قد تطول لأشهر، وهذا يعني توقف العائدات للكثير منها، أما بخصوص المساعدات الحكومية التي أعلنت عنها، فهذه نفسها طويل، إذ كشف البرنامج أن الحكومة تلقت نصف مليون طلب بالمساعدة في الأسبوع الأول من الأزمة.

أظهر البرنامج في أحد مشاهد الحلقة أما ذات أطفال فقدت عملها في مطعم محاولة دون جدوى الاتصال بالمكتب الحكومي المختص بالمساعدة، فقد كان خطه الهاتفي مشغولا طوال الوقت.

يواجه كثير من مالكي المصانع والشركات الصغيرة قرارات صعبة للغاية بالتخلي عن العاملين معهم، كصاحب معمل للخياطة زاره البرنامج يشغل 700 عاملا، لكنه كاد أن يتعطل حين لم يعد أحد يطلب ملابس رياضية بعد نصائح الحكومة بالبقاء في البيوت، وتوقف النوادي الرياضية، بيد أن أزمة كورونا نفسها ستنقذ المعمل قبل إغلاقه، إذ إنه تلقى طلبات من مستشفيات بريطانية لصناعة ألبسة طبية وكمامات، وهذا يعني بقاء عماله في عملهم.

 

صيدليات بلفاست.. عاصمة خاوية على عروشها

يُسجل البرنامج البريطاني يوميات صيدلية في بلفاست، ويرصد التغييرات التي مرت بها منذ تاريخ الأزمة، إذ ينصب صاحب الصيدلية حواجز زجاجية لحماية العاملين في الصيدلية والزبائن على حد سواء، وفي وقت لاحق من الأزمة وفرت الصيدلية مدخلا خارجيا يمكن من يقودون السيارات من أخذ طلباتهم من الصيدلية من الخارج من دون ترك سياراتهم.

تحولت الصيدليات إلى إحدى النقاط المهمة للحياة في زمن كورونا، فهي تجمع المرضى والخائفين من المرض وأبناء مسنين ينقلوا الأدوية إلى والديهم، وقد أثر هذا الوضع الخاص على نفسية الصيدلي الذي صرف من ماله الخاص من أجل الترتيبات الجديدة لحماية الناس في صيدليته.

يقول الصيدلي متأثرا: صرنا نقسم علب مهدئات الأوجاع إلى عدة أقسام، حتى نقدر على التجاوب مع الطلب المتصاعد عليها، أعرف أن هذا يخالف القانون البريطاني، لكن ماذا يمكننا أن نعمل.

عاملة خمسينية في محل بقالة تتحدث عن مخاوفها من الفيروس نظرا لاحتكاكها مع الكثير من الزبائن

 

“لا أعرف كيف أتصرف”.. فقراء على خط الجبهة الأول

يصف البرنامج العاملين في وسائل النقل ومحلات البقالة بأنهم “فقراء في خط المواجهة الأول”، إذ يتقاضى أغلب هؤلاء الحد الأدنى من الأجور، لكنهم اليوم أكثر عرضة للإصابة بالفيروس، بسبب طبيعة عملهم، وتماسهم اليومي مع الزبائن.

يقابل البرنامج عاملة في محل بقالة تكشف عن خوفها من الآتي، فهي قد تجاوزت الخمسين من العمر، وهذا يعني أنها من الفئة العمرية الأقل مقاومة للمرض، وتتحدث المرأة إلى فريق البرنامج من البقالة المزدحمة التي تعمل فيها قائلة: لا أعرف كيف أتصرف، قد أترك عملي إذا ازدادت الأزمة سوءا، إذ علي أن أرعى والدي المسنين وأبناء لديهم مشاكل صحية.

تزداد قسوة الظروف على الناس العاديين بسرعة كبيرة مع تقادم الأيام، فالعمل في محل البقالة الذي سجل البرنامج ساعات العمل فيه أصبح متطلبا كثيرا بعد توقف نصف العاملين عن العمل بسبب ظروف صحية.

كما ازداد الطلب على مواد غذائية بعينها، وعندما أغلقت كل الحانات والمطاعم اتجه الطلب إلى المشروبات الكحولية التي حددت كمية شرائها للزبون الواحد.

 

“بانوراما”.. أسلوب الفيلم التسجيلي وجمالياته

تفتح سمعة برنامج بانوراما المهمة في بريطانيا الأبواب الواسعة له هناك حتى يصل في حلقتيه الأخيرتين إلى غرف إنعاش في مستشفيات ليحاور المرضى والخبراء رغم تعقيد هذه العمليات اليوم بسبب ترتيبات السلامة العامة الصارمة.

كما يشكل التاريخ الحافل الطويل للبرنامج، وسجله السابق في تجييش الرأي العام ولفت الانتباه والدفاع عن قضايا منسية؛ ما يشبه المرجعية الأخلاقية التي من الصعب بمكان لبرنامج تلفزيوني الحصول أو المحافظة عليها لأوقات طويلة كما يفعل بانوراما بنجاح منقطع النظير.

يتميز برنامج بانوراما بقدرته على الاستجابة للأحداث الآنية دون أن يتحول تماما إلى تقرير تلفزيوني، بل إن هناك دائما في حلقاته اهتماما بصناعة الفيلم التسجيلي وجمالياته وأسلوبيته، وتبدو هذه الاهتمامات بالطبع واضحة في الحلقات التي يقضي فريق البرنامج شهورا في الإعداد لها، كما يحدث في كثير من الأحيان.

لقطة من خارج أحد بيوت المسنين، والتي يُمنع اليوم الدخول إليها والتجمع فيها بسبب فيروس كورونا

 

“ستهزم المرض اللعين”.. بقعة ضوء في آخر النفق

مثلما يفيض الوثائقيان بالمشاهد البصرية الجميلة فإنهما لا يهملان الجانب الجمالي للنفوس، فهناك مشاهد مؤثرة في الحلقتين كتلك التي تقترب بصدق من ناس عاديين بدوا حائرين أمام مستقبل صعب وخطر، كما يصور البرنامج بجمالية شوارع خالية كانت تزدحم بالناس عادة، خاصة في المشاهد الليلة التي صورها لتلك الشوارع.

ولم تشأ حلقة “الأسبوع الذي غير بريطانيا” أن تترك مشاهديها دون أن تمنحهم بعض الأمل، فعرضت من أحد بيوت المسنين المغلقة بالكامل في بريطانيا بسبب الخوف على سكانها، صورا فوتوغرافية لسكان هذا البيت وهم يرفعون كتابات لأهلهم وللبريطانيين تحمل الكثير من العاطفة والأمل، منها صورة لمسن عاش الحرب العالمية الثانية، ويعِد في كتابته بأن بريطانيا التي هزمت الأعداء في تلك الحرب ستهزم المرض اللعين الذي يخيم اليوم على حياتنا.