“بذور الشك”: هستيريا ما بعد 11 سبتمبر

أمير العمري

لا أعتقد أن فيلم “بذور الشك” Seeds of Doubt الذي أخرجه المخرج المصري – الألماني سمير نصر، لحساب تليفزيون “ARTE” قبل عشر سنوات، نال ما يستحقه من اهتمام من جانب النقد العربي. وقد عُرض الفيلم أخيرا في إطار برنامج خاص في مهرجان أبو ظبي لأفلام السينمائيين العرب في المهجر.
ولعل سبب عدم حصول الفيلم على ما يستحقه من اهتمام نقدي يرجع أولا – كما أعتقد – إلى كون سمير نصر مخرجا يعمل في ألمانيا، خارج دائرة الإعلام العربي، كما أنه لا يجيد الترويج لنفسه على النحو المألوف في عالمنا العربي، فقد قضى الشطر الأكبر من حياته في ألمانيا، فهو ينتمي لأب مصري، وأم ألمانية. ولعل هذه الحقيقة، جعلته أفضل من يمكنه التعبير عن مأزق “الجيل المختلط” في أوروبا، ذلك الجيل الذي كان يتعين عليه أن يثبت تفوقه بوضوح على نظرائه الأوروبيين، مع الاحتفاظ بهدوئه أمام ما يمكن أن يتعرض له من استفزازات عنصرية، تطفو وتتراجع، حسب المتغيرات السياسية!
موضوع الفيلم يدور حول كيف تفاعل الشك الألماني والخوف التقليدي من الأجنبي، الغريب، أو حتى من نصف الأجنبي، خصوصا العربي المسلم، بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 وكيف انعكست عليه الأحداث وأصداؤها، رغم عدم تشدده الديني، ورغم تفوقه في عمله على أقرانه الأوروبيين، بل وحتى لو كان قد نجح تماما في تحقيق “الاندماج”، فاتخذ لنفسه زوجة ألمانية شقراء تؤمن بما يفعله، تبادله الحب الحقيقي، تقبل حتى بفكرة أن ينشيء هو ابنه كمسلم، لكي يضمن له الالتزام بالمباديء الأخلاقية القويمة، وليس من باب التعصب أو التميز، كما هو شأن بطل “بذور الشك”.

الغريب المندمج

بطل الفيلم يدعى “طارق”  وهو طبيب شاب من أصل جزائري، متخصص في علم البيولوجي، يعمل في معهد لأبحاث الفيروسات في مدينة هامبورج التي يقيم فيها مع زوجته الألمانية الحسناء “مايا”، وابنه الصغير “كريم”، حيث يجري أبحاثا تتعلق بالفيروس المسبب لمرض الإيبولا المنتشر بوجه خاص في عدد من البلدان الإفريقية (وكأن الفيلم كان يتنبأ بالانتشار الوبائي للفيروس بعد عشر سنوات!).
يحظى طارق بالتقدير والاحترام من جانب رئيسه في العمل، تمنحه زوجته كل ما يريد من حب وإخلاص، ترفض بأي حال أن تنظر إليه على أنه غريب، أو أجنبي. ولكن هذا الواقع يبدأ في التغير تدريجيا، وصولا إلى ذروته، في أعقاب أحداث سبتمبر 2001.
على مائدة العشاء مع بعض الأصدقاء الألمان، زملاء مايا في عملها كمصممة تعمل لحساب إحدى وكالات الدعاية والإعلان، يدور حوار تلقائي، فيفلت من أحدهم تعبير يسيء إلى المسلمين، فينبري طارق للرد بسخرية مما يسميه بـ “تكاثر الخبراء في الإسلام الآن”، فيجيبه الألماني بقوله إنه ليس خبيرا لكنه قرأ بعض الشيء عن الإسلام مؤخرا، فيكون تعليق طارق: ربما يكون هذا من إيجابيات سبتمبر 2001!

هذه العبارة تنتقل في وشاية واضحة، إلى الشرطة الألمانية، فتصبح مايا عرضة لاستجواب غير رسمي من جانب ضابط في الشرطة، يتشكك فيما يكمن وراء تصرفات طارق، خصوصا عندما يكتشف وجود صورة له في حفل زواج أحد العناصر الإرهابية من الذين شاركوا في التخطيط لهجمات سبتمبر. هنا لابد أن يتذكر المشاهد على الفور، أن هامبورج كانت مقر الخلية الشهيرة التي نفذت تلك الهجمات. ومن هذا المدخل، تتداعى الأحداث التي تثير مزيدا من شكوك مايا والشرطة بل ومدير معهد الأبحاث الذي يعمل فيه طارق، وتنعكس بشدة على حياة الأسرة.
يستضيف طارق صديقا وزميلا سابقا له يدعى “رضا” في منزله، ويلح عليه في البقاء رغم دهشة مايا التي لا تعرف شيئا عن هذا الضيف الغامض القادم فجاة من إيران.. فهو إيراني درس في ألمانيا ثم عاد الى بلده وافتتح هناك مستشفى لعلاج الفقراء، لكنه يعاني من قلة الأموال المخصصة لها، والأهم، أنه مسلم ورع يقوم في الليل لأداء الصلاة.

مايا تقف بقوة في البداية إلى جانب زوجها، وترفض فكرة مراقبة سلوكياته كما يطلب منها الشرطي. لكنها تكتشف بعد رحيل رضا، أن طارق قام بتحويل مبلغ كبير من المال من حسابهما المصرفي المشترك دون أن يخبرها، ثم تكتشف أن طارق ذهب إلى باريس وعاد في نهاية اليوم نفسه الذي وقع فيه انفجار قتل عددا من الأشخاص في إحدى محطات مترو الأنفاق. ثم تعرف مايا قصة اختفاء عينتين من عينات فيروس الإيبولا من المعمل الذي يعمل فيه طارق مما يؤدي إلى حظر دخوله ووقفه عن العمل، دون أن يخبر زوجته، بل يتظاهر بأن كل شيء على ما يرام. يجن جنون مايا بالطبع، ويزداد الشك لديها في أن يكون زوجها “إرهابيا” دون أن تدري، بل وربما يكون أيضا مسؤولا عن تفجير محطة المترو في باريس!

سيناريو فلوريان هانيج – مصمم على وتيرة الفيلم التشويقي، أو ما يعرف بالـ thriller فهو يقوم على نسج عدة خيوط هنا وهناك، ترفع درجة الشك والتوتر، وتجعل المتفرج الألماني والغربي عموما، يواجه نفسه بما هو مستقر داخل رأسه من “صور نمطية” مثيرة للشك، في الأجنبي، العربي، المسلم. فطارق يصبح على الفور وكأنه يهودي الأمس في ألمانيا، أي هدفا للشك والتشكك، حتى لو لم يكن هناك أي دليل على ارتكابه أي مخالفة قانونية ورغم تفوقه الكبير في أبحاثه العلمية، بل يصبح أيضا هدفا لمشاكسة المارة في المدينة، ونظرات الخوف والفزع والشك التي يرمقونه بها في الأماكن العامة.
النقطة الثانية الملفتة في السيناريو، نجاحه الكبير في الاهتمام بتصوير انعكاس كل الأحداث والتداعيات، على “مايا”.. الزوجة الألمانية التي تمثل نموذجا للمرأة الألمانية من الطبقة الوسطى، تتمتع بالجمال والذكاء والمهارة الفنية أيضا (هي مثلا تفوز بجائزة أحسن تصميم فني في مسابقة على الصعيد المحلية). ورغم ثقتها الراسخة في زوجها إلا أن هذه الثقة تبدأ في الانهيار تدريجيا مع تداعي الأحداث، خصوصا عندما يصبح “كريم” الإبن أيضا هدفا من جانب أحد زملائه في المدرسة، يبدي ازدراءه له كونه مسلما، بل ويصف والده بأنه إرهابي.
هناك أربع شخصيات رئيسية في الفيلم هي مايا، طارق، كريم، والبروفيسور ماك مدير المعهد، كما توجد شخصيات أخرى ثانوية مدروسة جيدا مثل رضا الطبيب الإيراني صديق طارق، ودوروثي زميلة طارق بالمعهد.

الذات والآخر

يصور المخرج بشكل متقن ومن خلال إيقاع عام يتصاعد تدريجيا مع زيادة جرعة الإحساس بحالة الاضطهاد، أو البارانويا، عند طارق إلى أن يصبح مثل الفريسة التي يُضيَّق الخناق عليها قبل أن تقع في “المصيدة” نتيجة لسوء الفهم أو سوء التفسير أو سوء القصد والنية معا، بل إن الفيلم يوحي للمتفرج باحتمال أن يكون طارق قد وقع في خطأ من نوع ما يبرر كل هذا التشكك الألماني، لكن الفيلم يكشف بوضوح بعد ذلك، أن مصدر كل هذه الشكوك اختلاف الأصل والدين. ويصور الفيلم بشكل درامي مؤثر ومقنع، كيف يتحول زواج ناجح، أو أسرة مثالية، إلى كيان متصدع يوشك على الانهيار، بسبب الشكوك التي تستند إلى أساس قوي داخل العقلية الألمانية والأوروبية عموما، عن ذلك “الآخر” الغريب، المختلف، في لونه واسمه ودينه. تلك المركزية الأوروبية التي تصدر أحكامها على الآخر طبقا لما هو مستقر في وعيها من صور نمطية مسبقة تحكم العلاقة بين الذات و”الآخر”.
وفي واحد من أفضل مشاهد الفيلم، تصل شكوك “مايا” إلى ذروتها بعد أن تشك في أن يكون زوجها وراء التفجير الذي وقع في باريس، فتعود إلى المنزل، تفتش بجنون، في كل أركان غرفة المعيشة، في مكتب زوجها، تلقي بكل أوراقه، وتعبث بكل الأشياء، إلى أن تصبح الغرفة مليئة بالركام والحطام على نحو يذكرنا بالمشهد الشهير في نهاية فيلم “المحادثة” (1974) لفرنسيس فورد كوبولا!

صحيح أن الفيلم يكشف في النهاية كيف أن طارق قام بتحويل المال إلى صديقه رضا كدعم لمشروع المستشفى، وأنه لم يسرق عينتتي فيروس الإيبولا بل كانت زميلته المهددة بفقدان وظيفتها هي التي ألقت بهما في الحوض، كما نعرف أن طارق لم يذهب إلى باريس للقيام بعمل إرهابي بل من أجل وظيفة كان قد تقدم لها بمعهد باستير بعد وقفه عن العمل في هامبورج، وأنه كان يريد أن يجعل الأمر مفاجأة لمايا، ثم يعود طارق إلى عمله بعد ثبوت برائته من اختفاء العينتين، وابتعاد الشرطة الألمانية عن الا��تباه فيه بعد أن تصل معلومات من المخابرات الفرنسية تقطع بأن لا علاقة تربطه بخلية هامبورج. إلا أن ما وقع له، لاشك أنه حفر في داخله جرحا ليس من الممكن أن يندمل بسهولة.
ينبغي هنا الإشادة باختيار مجموعة الممثلين جميعا، وبالمستوى العالي للأداء التمثيلي، وبقدرة سمير نصر على التحكم في الأداء، ونجاحه في خلق ذلك التفاعل الهارموني المميز في العلاقة بين الممثل مهدي نيبو في دور طارق، والممثلة البديعة سيلكا بودنبندر التي قامت بدور مايا.
“بذور الشك” أحد الأفلام التي تبقى في الذاكرة، في ارتباطه بذلك البحث الشاق عند مخرجه ذي الأصل العربي ولو جزئيا، في مأزق العلاقة بين الذات والآخر، في المتغيرات السياسية الحالية وفي علاقة السينما الأوروبية بتلك المتغيرات.