“بصيري.. المشهد المفقود”.. قصة الصحراوي الذي تحدى الاستعمار الإسباني

د.الحبيب ناصري

يبدو أننا اليوم نعيش في زمن لا يرغب بعض سادته في ترسيخ قيم الوطن والإنسان والبحث عن ما يوحدنا نحن العرب بكل مرجعياتنا الثقافية واللغوية والعقدية المختلفة، لا سيما والدول المستعمرة لم تخرج من أوطاننا إلا وقد تركت ما يجعلنا مفككين ومتصارعين فيما بيننا، لكي لا ننشغل بأسئلة التربية والعلم والثقافة والفكر.

أسئلة يحب الغرب المتقدم عادة أن نبقى دوما خارج التفكير فيها، بل هو غرب في مجمله (مع بعض الاستثناءات الحقوقية الإنسانية فيه) خطّط لكي ننتظر صناعته وعلمه وفكره، حتى ننور بها طريقنا دون أن نكون مساهمين فعليين في هذا البناء العلمي العالمي، وهو بناء لا أحد من الممكن أن ينكر دور الأجداد فيه، لكن الأحفاد أوقفوا الانخراط في أسئلته، وانشغلوا بهوامش عديدة، مما جعلهم يبقون خارج سؤال المعرفة والعلم والفكر.

ما الغاية من هذا التقديم ومقالتنا هذه مرهونة بقراءة فيلمية وثائقية باحثة عن تفكيك بعض المكونات الفنية لفيلم “بصيري.. المشهود المفقود” الذي أنتج خلال السنة الجارية (2020)؟ من المؤكد أن هذا الفيلم له صبغة تاريخية قوية ودالة تسافر بنا في زمن الاحتلال الإسباني لجنوب المغرب، وفق ما عاشه هذا البلد في زمن الاستعمار الفرنسي والإسباني معا، حيث عُرف شمال وجنوب المغرب باحتلال إسباني ووسطه باحتلال فرنسي، ضمن خطة محكمة موضوعة من لدن الدول التي احتلت العديد من دول العالم العربي والأفريقي وغيرهما.

طبعا كلما تعلق الأمر بفيلم روائي أو وثائقي جعل من موضوع الاحتلال فكرته؛ عدنا إلى الماضي في أفق فهم جيد له، ومن خلاله نتمكن من استيعاب زمن الحاضر والمستقبل معا، ومن هنا وجب الاقتراب المتعدد بلغة الفنون من هذه الحقب التاريخية بقصد تقريبها لجميع الأجيال، في زمن تتنامى فيه ثقافة مسخ ومحو الهويات الوطنية والإنسانية، وفي أفق استخراج العبر والدلالات.

ما فكرة هذا الفيلم الوثائقي؟ وما مكوناته الفنية والجمالية التي راهنت المخرجة على الاتكاء عليهما لتحقيق غايتها من هذا الفيلم، وهي المخرجة المتشبعة بالعمل الفيلمي الوثائقي التي راكمت فيه عشرات السنين، مما جعلها فعلا مؤمنة بقيمة الفيلم الوثائقي في فهم تاريخ بلادها، لا سيما وأنها رحلت بنا إلى جزء من هذه الذاكرة التاريخية المغربية الصحراوية.

بطاقة تقنية مختصرة للفيلم:

– عنوان الفيلم: “بصيري.. المشهد المفقود”.

– كاتبا السيناريو: لبنى اليونسي وسعيد زريبيع.

– إخراج: لبنى اليونسي.

– مدير الإنتاج: خالد يعقوبي.

– إنتاج: سعيد زريبيع.

– سنة الإنتاج: 2020.

– مدته الزمنية: 90 دقيقة.

 

لبنى اليونسي.. ظلال السينما الإنسانية الوارفة

بشكل مختصر يمكن القول إن لبنى اليونسي تمكنت على مدى أكثر من ثلاثين سنة من أن تجد لها أسلوبها الفني في حكي قصصها وأفكارها ورسائلها الفنية والثقافية والاجتماعية في أعمالها الوثائقية وغيرها مما أخرجته من أعمال بصرية متعددة، نذكر منها هنا بعض الأفلام الوثائقية مثل: “نزيف الريف” الذي طرحت فيه موضوع الغازات السامة التي استعملتها إسبانيا في حربها بمنطقة الريف (شمال المغرب)، وذلك في العديد من المعارك التي تبنتها الحركة الوطنية المغربية في هذه المنطقة.

“صوت الصمت” فيلم وثائقي آخر يخص القضية الفلسطينية، وقد بنت فكرته على بعض التفاصيل الحياتية للإنسان الفلسطيني في العديد من المدن الفلسطينية وشرق وغرب القدس.

“ساكسس والآخرون”، فيلم وثائقي تتبعت فيه حياة مهاجر سري نيجيري ومهاجرين آخرين من غينيا ومالي في المغرب، وقد نبشت أيضا في ذاكرة “الصوفية بالمغرب” كفيلم وثائقي سعت من خلاله للقبض على بعض اللحظات الروحية والجمالية لهذه الفئة التي جعلت من المحبة مذهبها الباطني والإنساني.

و”على سكة الزمن” فيلم وثائقي رحلت بنا فيه المخرجة لبنى اليونسي إلى عوالم السفر في القطارات، لمعرفة تفاصيل حياة الركاب خلال سفرهم الذي يجعلهم ينسجون ويبنون علاقات حكائية وإنسانية عديدة يفرضها زمن الرحلة الطويلة.

نفس المتعة من الممكن الاستمتاع بها ونحن نتابع سلستها الوثائقية “أغاني وإيقاعات” ذات الطبيعة البدوية. إذن فلبنى اليونسي مخرجة تنبش بلغة الصورة الوثائقية في موضوعات عديدة قاسمها المشترك البوح الإنساني والجمالي البسيط والعميق.

أعمال عديدة بصمت بها المشهد الفيلمي الوثائقي المغربي والعربي والإنساني بشكل عام حتى في برامج تلفزية ووصلات تحسيسية هادفة وسهرات فنية كانت تتحمل مسؤولية إخراجها حين كانت تعمل بإحدى القنوات التلفزيونية المغربية، كل تراكماتها الفنية هذه، تجعلنا نؤمن فعلا بكونها واحدة من المخرجات المغربيات القلائل اللواتي لهن بصمتهن الفيلمية الوثائقية الباحثة عن ظل إنساني ما، ومن هنا هذا الإصرار على كتابة وإخراج العديد من هذه الأفلام الوثائقية، لتقاسم مجموعة من القضايا والانشغالات والأحاسيس مع المتلقين.

 

بصيري.. إشعاع النور الذي لم يكتمل

بالعودة إلى عنوان الفيلم فهو يتكون من مكونيين أساسيين:

بصيري: اسم مناضل صحراوي مغربي وطني تشبع بالثقافة العربية الإسلامية في دمشق والقاهرة، ومن الأسماء الصحراوية التي رفضت الاحتلال الإسباني إلى درجة أن لا أحد يعرف مصيره كما سنرى في تحليل الفيلم.

يتكون الجذر اللغوي للفظة بصيري من: (ب ص ر)، ومن هذا الجذر اللغوي نستخرج العديد من الألفاظ اللغوية ذات الصلة بموضوعنا مثل: بصر والبصير والمبصر والمبصار والبصيرة. ألفاظ مولدة للعديد من المعاني والدلالات المرتبطة بالبصر(الرؤية). فهل كانت فعلا لبصيري رؤية متكاملة غايتها طرد الاحتلال الإسباني في أفق تحقيق استقلال وطني متكامل من أقصى نقطة في صحراء المغرب الجنوبية إلى أقصى نقطة من شماله؟

المشهد المفقود: ما السر في استعمال هذا المكون اللغوي الدال على لغة المسرح والسينما، هل فعلا بصيري مقاوم لم تكتمل في حياته كافة المشاهد وبقي هذا المشهد المفرد المعرف، وهل من الممكن العثور على هذا المشهد المفقود في ثنايا فيلمها، ثم أو ليس في كل عمل فني -مهما نضج ومهما بلغ ذروته- ذلك المشهد المفقود الذي لن يجده إلا ذلك المتلقي الباحث في ثنايا الأعمال الفنية؟

نلاحظ أن ملصق الفيلم بُني على صورة فوتوغرافية وحيدة وخاصة بهذا المقاوم الصحراوي المغربي، بصيري، وهو يحمل رقم اعتقاله من لدن الاحتلال الإسباني أثناء القبض عليه، والرقم هو “2875”. ونقرأ تحت رقم الاعتقال اسمه بخط بارز وتحته عنوان فرعي وهو المشهد المفقود، مع ذكر اسم المخرجة وكل الفريق التقني والإنتاجي الخاص بهذا الفيلم.

لقطة من الفيلم يتحدث فيها الشيخ محمد سالم دخيل عن بطل الفيلم بصيري

 

مسرحة حياة بصيري.. مخيال إبداعي يثري حكاية نضال

تقوم فكرة الفيلم على تتبع المسار النضالي هذا المقاوم الذي كان هاجسه الأول والأخير طرد المستعمر الإسباني من الصحراء، في أفق تحقيق استقلال كامل للوطن من جنوبه نحو شماله، وهو ما جعل إسبانيا تقوم باعتقاله كما سنرى من خلال بعض مرافقيه الذين ما زالوا على قيد الحياة.

أن تخرج فيلما وثائقيا له صلة بالتاريخ، لا سيما في ظل الاحتلال، وفي فضاء صحراوي بني توثيقه وكل مكوناته الثقافية على المشافهة، فأنت هنا في طريق محفوف بالمخاطر، لكن هل من متعة يمكن تحقيقها دون ركوب قطار المخاطر؟ بل الإبداع في رمته ومنذ بداية هذا الكون، هو مغامرة محفوفة بالمخاطر والجمال والانتصار للحياة والإنسان.

كيف من الممكن أن نكتب ونخرج فيلما وثائقيا، ونحن لا نملك في أيادينا إلا صورة فوتوغرافية وبضعة أشخاص من رفقاء درب بصيري النضالي؟ بكل صدق، فحلاوة الوثائقي من الممكن القبض عليها هنا. كيف؟ لا مجال لبناء أعمالنا في مثل هذه الحالة، إلا من خلال ما نملكه من مخيال إبداعي نروي من خلاله قصتنا التي نرغب في حكيها.

من حسن حظ فريق هذا العمل، أن بعض الشخوص ممن لازموا المقاوم بصيري ما زالوا على قيد الحياة، حتى أن عسكريا إسبانيا ما زال على قيد الحياة وقدم شهادته في الفيلم كما سنرى.

وظفت المخرجة مشاهد مسرحية عديدة في فيلمها لتجعل المتلقي فاهما لحكايتها عن بصيري، فعلى امتداد الفيلم كانت تتنقل بنا في ظل أجواء مسرحية متعلقة بمخرج يريد مسرحة حياة بصيري فوق الخشبة، مثل تدريب أحد الشخوص المشابه لبصيري على إلقاء خطبة في الناس وبلغة جامعة بين ما هو عامي وفصيح، إلى غير ذلك من الأفكار التي قالتها لنا المخرجة بلغة المسرح عن بصيري.

استطاعت لبنى اليونسي بما لديها من إمكانات إبداعية أن تحملنا إلى حياة بصيري، بما فيها كيفية تعذيبه من لدن عسكر إسبانيا لكونه شكل فعلا خطرا على بقائها واحتلالها للصحراء وقبل بروز فكرة المسيرة الخضراء الشعبية التي جاءت كوسيلة لتعميق نضال أهل الجنوب المغربي من أجل استرجاع هذا الجزء من الوطن من قبضة احتلال كانت غايته الأولى والأخيرة استغلال خيرات الوطن، بل إنه ما يزال جاثما على جزء من جسدنا المغربي من خلال الاستمرار في احتلاله لمدينتي سبتة ومليلية إلى يومنا هذا.

الشيخ سيدي أحمد رحال الذي يُعتبر مصدرا حقيقيا لتأريخ كفاح أهل الصحراء من أجل طرد الاستعمار الإسباني

 

فضاء الصحراء الليلي.. شهادات تاريخية على ضوء النار

استعانت المخرجة بشخصيتين من الصحراء لسرد العديد من حكايات التاريخ الصحراوي الشفهي في مجمله وغير المكتوب في الكثير من جوانبه، لا سيما وفضاء الصحراء الليلي وطقوس الشاي وصدق من يحكي ومن يستمع إليه، وما يتميز به ساكن هذا الفضاء الرملي من قدرة على الحفظ والتذكر لا يغري إلا بالحكاية على هامش سمر ليلي دائم. من هنا احتلت الثقافة الشفهية الصحراوية شرعيتها، وكانت دوما تعتمد في التأريخ على الحكاية الشفهية.

شخصيات صحراوية عديدة ساهمت وأدلت بدلوها في هذا الفيلم، من الممكن هنا على سبيل التمثيل لا الحصر الاكتفاء بشخصيتين صحراويتين تعكسان في المجمل ما قاله الآخرون، مع استحضار للشخصية العسكرية الإسبانية الممثلة لطبيعة الحكم العسكري الإسباني خلال هذه المرحلة:

سيدي أحمد رحال: رجل صحراوي مسن حلل وفكك العديد من المحطات والوقائع النضالية التي تخص رفيق دربه بصيري، تفاصيل دقيقة عن العديد من الأمكنة والأزمنة الكفاحية التي خاضها بصيري من أجل الانخراط في سؤال شعبي واحد، ويتلعق الأمر بطرد المستعمر الإسباني، بل دقق في تاريخ 17 يونيو/حزيران كمحطة تاريخية شاهدة على بعد نضالي وطني غايته تحرير الصحراء من قبضة الاحتلال في أفق تحقيق تكامل استقلالي وطني مغربي من جنوبه إلى شماله.

شخصية تتميز بالورع والتمكن من تقاليد وثقافة الصحراء، بل من الممكن اعتبارها فعلا مصدرا حقيقيا للتأريخ للعديد من الجوانب المشرقة لتاريخ كفاح أهل الصحراء من أجل طرد الاستعمار الإسباني الذي كان بالمرصاد لكل المقاومين المغاربة بالمنطقة.

الشيخ خيضر: رجل صحراوي بدوره يملك العديد من الأسرار التاريخية وتفاصيل الكفاح ضد الاحتلال، ويتميز أيضا برؤية وطنية غايتها الانتماء إلى تاريخ وطني هادف إلى التكامل والوحدة لا سيما في زمن إمبريالي غايته تفكيك الدول الصغيرة وجعل أطرافها منفصلة عن بعضها البعض، بينما تتقوى القوى الكبرى بالتكتلات وتقاسم المنافع الآتية في معظم الأحيان مما تركته في مستعمراتها القديمة، مما جعله فعلا يشرح في حواره في هذا الفيلم قيمة المقاومة الهادفة إلى تحقيق الاستقلال للوطن من جنوبه نحو شماله.

العسكري الإسباني ميغيل أورتيز الذي كان شاهدا على رغبة بصيري في تحرير الصحراء من سلطة الاستعمار الإسباني

“ميغيل أورتيز”.. عين أخرى على كفاح بصيري

ميغيل أنخيل أورتيز رجل عسكري إسباني كان بدوره شاهدا على كفاح بصيري، حيث ذكر العديد من تفاصيل حياته الاجتماعية والسياسية، كما سلط الضوء على زمن ومكان وكيفية اعتقاله، وما كان يتميز به فعلا من صمود قوي ضد بلده الإسباني المحتل.

عديدة هي الأساليب السياسية التمردية التي امتاز بها بصيري، سواء تعلق الأمر بكيفية تجميع الناس البسطاء حوله وكيفية المناورة لخلخلة كافة أفكار المستعمر الإسباني مع توظيف الشق الثقافي كأسلوب ضد المحتل، مثل فكرة إعداد مهرجان ثقافي صحراوي ضد المهرجان الإسباني الذي كانت تنظمه إسبانيا بالصحراء ضمن استراتيجيتها الهادفة إلى ترسيخ وإطالة الاستعمار بهذه المنطقة وفي كل الدول التي استعمرتها سواء في أفريقيا أو في غيرها.

خيام صحراوية وتقاليد ثقافية جميلة آتية من رحم الصحراء، كفضاء مغرٍ للحكي عنه، بل تمكنت المخرجة في مشاهد عديدة من القبض على بعض اللحظات الزمنية الصحراوية الجميلة، مما جعلنا فعلا نشعر بقيمة عينها السينماتوغرافية والشاعرية، حتى كدنا ننسى بين الفينة والأخرى هموم وشر ما فعل الآخر المحتل ببلداننا، والراغب دوما في إلهائنا عن خوض القضايا الحقيقية الجاعلة منا مساهمين حقيقيين في بناء هذا العالم علميا وتقنيا وفكريا، عوض البقاء في دائرة البحث عن تصفية تركة هذا الاستعمار وما نصبه لنا من فخاخ عديدة نضيع فيها المال والجهد والإمكانيات.

لقطة من الفيلم تبين بعض شيوخ القبائل الصحراوية خلال فترة الاستعمار الإسباني بلوني الأبيض والأسود

 

ملامح الصحراء الثقافية.. أرشيف في خدمة القضية

يكشف أرشيف وثائقي توثيقي تاريخي متعلق بالصحراء خلال احتلالها من لدن الاستعمار الإسباني، عن طبيعة الموروث الثقافي الصحراوي، من سباق الجمال وألبسة أهل الصحراء وبعض من تقاليدهم ومعيشتهم اليومية.

وقد وُظف هذا الأرشيف لموقعة كافة نضالات بصيري الصحراوية الوطنية ضد المحتل، ولموقعة أيضا المتلقي لهذا العمل الفيلمي الوثائقي الذي يعد الثاني من نوعه على مستوى الأفلام الوثائقية ذات الصلة بهذا الموضوع التاريخي المرتبط بالصحراء، وبعد فيلمها الأول عن هذا الموضوع “معجزة قسم”.

المخرجة لبنى اليونسي تفوز بالجائزة الكبرى في مهرجان الفيلم الوثائقي الصحراوي

 

أصابع المخرجة.. بصمة فنية ذات بعد إنساني

تتميز المخرجة لبنى اليونسي -سواء في فيلمها هذا أو في معظم أفلامها الوثائقية- ببصمتها الفنية ذات البعد المراهن على عمق وجداني وإنساني ومكاني وزمني، فهي مهوسة بتقديم فكرتها بطريقة تراعي فيها ما هو جمالي عبر توظيفات متعددة لسلم اللقطات وفق حاجياتها من قول الشخصيات المشاركة في فيلمها.

فأحيانا تقرب لنا الشخصية لكي نلتقط بعض تفاصيل وجهها، وكأنها تقول لنا بهذا إنها مصدر للحكاية المبحوث عنها، مثلما هو الحال هنا لدى الشخصيات المشار إليها سالفا، وأحيانا تموقع أحداثها ضمن لقطات عامة تقدم فيها تفاصيل زمنية ومكانية وإنسانية عامة، وأحيانا تقبض على لحظات صمت شاعرية ووجدانية، حيث وحده الصمت هو من يبوح ومن يفعل فعله في الجميع.

بوستر فيلم “بصيري.. المشهد المفقود”

 

توظيف المسرح.. قيمة بصرية وسردية رغم انعدام الوثائق

عديدة هي المكونات الفيلمية الوثائقية التي توسلت بها المخرجة لكي توصل رسالتها الفيلمية الوثائقية هنا، في ظل شبه انعدام للوثائق المكتوبة أو البصرية التي من الممكن أن يكون بصيري خطها بيده، لا سيما وهو المتشبع والمكون في مؤسسات تعليمية وعلمية بكل من القاهرة ودمشق، بمعنى أنه كان رجلا مثقفا يمارس نضاله من زاوية منظمة متحكم فيها.

ويبدو المحتل كعادته يعمل ليس فقط على اعتقال من يناضل ضده، بل ويعتقل المناضل وما لديه من وثائق، حتى يتلف رمزيته الكفاحية والنضالية ويبددها، مما جعل فريق هذا الفيلم، ينطلق من أرضية ميدانية وفي أياديهم فكرة وصورة فوتوغرافية واحدة لبصيري وهو واقف يحمل رقم اعتقاله خلال الاحتلال الإسباني للصحراء.

توظيف المسرح ضمن الرؤية الإخراجية لتمرير العديد مما عاشه بصيري ومما رواه رفاقه، والاعتماد على ما قصه بعض من شيوخ الصحراء الذين رافقوه في مسيرته النضالية، كل هذا جعلنا نستمتع بحكي وثائقي له قيمته البصرية والحكائية التي حُكيت في فضاءات الصحراء حيث الرمال والجمال وجماليات إنسانية وتفاصيل عيش غني في عمقه وانتسابه للوطن، الإنسان بمعزل عن أي رؤية تحن إلى خبايا وفخاخ الاستعمار الإسباني الذي كان همه الأول والأخير عرقلة أي استقلال للوطن وللإنسان بشكل عام.