“بقايا امرأة”.. لملمت ما تناثر من شتات الأم الثكلى

عدنان حسين أحمد

لم تكن الموظفة الإدارية “مارثا فايس” تحلم بالعيش في السماء السابعة، فهي امرأة واقعية تريد أن تعيش مثل بقية خلق الله حياة آمنة مُستقرة لا تؤرِّقها تدخّلات الأهل والأقارب والأصدقاء، لذا فقد اختارت بمحض إرادتها “شون كارسون” زوجا لها رغم أنه ينتمي إلى طبقة اجتماعية أدنى تضمّ السواد الأعظم من الناس.

يتمحور فيلم “بقايا امرأة” (Pieces of a Woman) -الذي كتبت قصته “كاتا ويبر” وأخرجهُ “كورنيل موندروتشو”- حول قضايا متعددة من بينها الفوارق الطبقيّة، وخطورة الولادات المنزلية، والبرود العاطفي الناجم عن صدمات نفسية شديدة، والخيانة الزوجية، وإنسانية الإنسان التي تتجلى في المواقف الصعبة وتكشف عن معدنه الأصيل.

 

“فانيسا كيربي”.. براعة التقمص من امرأة لم تلد قط

يُقسّم المُخرج فيلمه إلى ثمانية أقسام زمنية، تبدأ في السابع عشر من سبتمبر/أيلول وتنتهي في الثالث من أبريل/آذار لسنة غير مُحددة. أمّا المكان فهو بوسطن، وثمة جسر قيد الإنشاء يعمل فيه “شون” ويحثُّ بقية العاملين على سرعة الإنجاز، لأنه وعد ابنته التي لم تولد بعد بأنه سيكون أول من يعبر هذا الجسر.

يغيب “شون” عن مكان العمل ويلتحق بزوجته “مارثا” التي يمكن أن تلد في أي لحظة قادمة، فينهمك في مداراة القلق الذي تعاني منه زوجته قبل الإنجاب، فيحاول إلهاءها بالنكات وبعض المواقف الفكاهية التي يحفظها في ذاكرته، لكن انفجار كيس الماء يدعوه للاتصال بممرضتهم “بربارا” التي كانت منهمكة في عملية توليد أخرى، مما دفعها إلى تكليف زميلتها في العمل “إيفا”، وهي قابلة محترفة يُشهَد لها بالكفاءة والخبرة وحُسن التدبير.

ارتأى المخرج أن يكون مشهد الطَلَق والولادة عبارة عن لقطة طويلة واحدة بلغت مدتها 23 دقيقة، وقد أثبتت بواسطتها الفنانة البريطانية “فانيسا كيربي” موهبتها الفائقة في تقمّص دور المرأة الحامل التي يأتيها المخاض العسير، مع العلم أنها لم تنجب حتى الآن، لكنه قُيّض لها أن ترى بعض النسوة اللواتي يُعانين من آلام المخاض وصعوبات الولادة.

القابلة “إيفا” تقدّم نصائحها لـ”مارثا” قبل لحظات الولادة بقليل في المنزل

 

صرخة الجسد الأزرق.. إنعاش مُتأخر

في كل فيلم روائي رصين ثمة انعطافة أو نقطة تحوّل تحدث في الرُبع الأول من القصة السينمائية أو قبل ذلك بقليل، وغالبا ما تكون هذه اللحظة الحرجة على هيئة عُقدة أو معضلة تحتاج إلى حلّ أو تأويل في الأعمّ الأغلب.

فعندما تصل الممرضة البديلة يبدو كل شيء على ما يُرام، خاصة بعد أن توسّع عُنُق الرحم وصار بإمكان الطفلة أن تجد طريقها إلى الخارج، لكن جهاز قياس نبضات القلب يقول إن وضعها غير مشجّع، وإن عدد دقّات القلب قد انخفض عن مستواه الطبيعي، مما يشير إلى حصولها على نسبة قليلة من الأوكسيجين، حيث تضطر القابلة إلى تغيير وضعية الأم إلى الجانب الأيسر.

تبذل “مارثا” جهدا كبيرا في الدفع حتى تخرج الطفلة، وتظل ساكنة للحظات، ثم تُطلق عدة صرخات حادة تشير إلى أنّ صحتها جيدة، فتلتقط الممرضة أنفاسها، ويفرح “شون” و”مارثا” بمولودهما البكر، لكن القابلة “إيفا” تنتبه فجأة وكأنها تذكّرت شيئا مهما، فهي لم تلحظ جسد الطفلة وشكلها الذي تحوّل إلى اللون الأزرق الذي يدل على قلّة كمية الأوكسيجين الذي حصلت عليه الطفلة في اللحظات الأخيرة التي سبقت الولادة، الأمر الذي تطلّب إنعاشها، لكن السكتة القلبية كانت أسرع من محاولات الممرضة التي طلبت من “شون” أن يستدعي الإسعاف لنقلها إلى المستشفى، وحينما وصل المسعفون كانت الطفلة قد فارقت الحياة.

“مارثا” في حالة صدمة بعد وفاة ابنتها خلال ولادتها، بينما تبدو علاقتها مع وزوجها “شون” مُضطربة

 

ثكل وبرود وخيانة.. فوضى ما بعد الصدمة

تنقلب حياة “مارثا” رأسا على عقب إثر الصدمة التي سبّبتها وفاة ابنتها، فلم تعد تلك الزوجة الطبيعية التي كانت تملأ البيت مرحا وصخبا وسعادة، ففضلا عن اليأس والإحباط والشعور بالكآبة؛ أصيبت “مارثا” بالبرود الجنسي، وصارت تنفر من أي مداعبة يقوم بها “شون”، فالفقد واحد والخسارة مشتركة، ورغم كل محاولات “شون” لاستعادة حياته الزوجية إلى طبيعتها الأولى فإنه فشل لأن “مارثا” لم تستجب له، بل تطور نفورها منه إلى ضغينة تتعمّق يوما بعد يوم.

وعلى الرغم من تباعد الزوجين نفسيا وجسديا، فإنهما كانا يذهبان إلى الطبيب الشرعي، ليكتشفا أنّ هذا الطبيب لم يحدد سبب الوفاة رغم أنّ التقارير الطبية تشير إلى أن الطفلة كانت تعاني من نقص الأوكسيجين، وأنّ القابلة طلبت نقلها إلى المستشفى، لكن “مارثا” رفضت ذلك بحجة أن الطفلة قد ولدت للتو، وأن الذهاب إلى المستشفى عبث لا طائل من ورائه.

تتوتر “مارثا” وتقع في دائرة الانفعال كثيرا، مرة بسبب إلغاء غرفة الطفلة وإزالة محتوياتها، ومرة بسبب الخطأ البسيط في كتابة الحرف الأول من اسم الطفلة على شاهد القبر، لكنها تحسم أمرها وتقرّر التبرع بجسد الطفلة لأغراض طبيّة وتعليمية خلافا لرغبة أمها وزوجها اللذين أرادا إقامة جنازة محترمة، ودفن الطفلة الراحلة وفق الشعائر الدينية المتبعة في عموم البلاد.

يُعيد “شون” السيارة التي اشترتها الأم “إليزابيث” هدية لابنتها “مارثا”، كما يحاول استرجاع بعض النقود لأنه حسم الأمر في ذهنه، وقرّر الانفصال عن زوجته، حيث بدأ بعلاقة غرامية مع المحامية “سوزان” ابنة عمّ “مارثا”، ورجع إلى عادته السيئة في تعاطي المخدرات التي أقلع عنها قبل أكثر من ست سنوات. تنصحه المحامية “سوزان” بتشجيع من والدة “مارثا” برفع قضية ضد القابلة “إيفا” وتعِدهُ بكسبها، ويصدر بالفعل قرار أولي بحبسها لمدة خمس سنوات.

خلافات الأم “إليزابيث” مع ابنتها “مارثا” تمثل نموذجا لصراعات الأجيال، فالابنة تودّ أن تعيش حياتها بلا توجيهات والدتها

 

جبهات المعركة.. قصة كفاح في العصر النازي

لا تقتصر الخيانة الزوجية على “شون” فقط، بل تمتد إلى “مارثا” أيضا، فقد ارتبطت بأحد الموظفين وكانت تعود إلى منزلها في ساعة متأخرة من الليل لتجد زوجها منتظرا، وحينما يتشاجران فإنه يصفها بأقذر الألفاظ، فتشعر لحظتها أنها فقدت براءتها، وتحولت إلى بقايا امرأة لم تعد قادرة على جمع شظاياها المتناثرة في غفلة من الزمن.

تقاتل “مارثا” على جبهات متعددة، أبرزها جبهة الزوج “شون” الذي بدأ يفكر بالانتقال النهائي إلى مدينة سياتل بعد أن خسر معركته مع زوجته، وجبهة أمها التي تنظر إلى “شون” نظرة دونية وتعترف له في خاتمة المطاف بأنها لم تكن تحبهُ أبدا، وقد عرضت عليه مبلغا من المال مقابل أن يترك ابنتها ويرحل، شرط أن لا يعود إليها أبدا، وقبل أن يغادر ينفرد مع عشيقته “سوزان” ويخبرها بأنه آسف جدا لأنهما لم يلتقيا من قبل.

أما معركتها مع الأم فهي تُعيدنا عبر الذكريات إلى الأجواء النازية المعقدة التي ولدت فيها “إليزابيث”، لكن أمها لم تتخلَ عنها في أحلك الظروف، حيث أنجبتها في كوخ متهالك وكانت تخبئها تحت ألواح الأرضية، وتذهب كي تسرق الطعام من أجل تغذية نفسها كي تدرّ الحليب لرضيعتها الواهنة.

لقد طلب الطبيب من الأم (جدة “مارثا”) أن تحمل ابنتها “إليزابيث” برجليها كالدجاجة، وإذا استطاعت أن ترفع رأسها فهذا يعني أنها قادرة على المقاومة والحياة، وبالفعل فقد رفعت رأسها ودافعت عن نفسها ووجودها، وهذا ما يجب أن تفعله “مارثا”، أي أن تحارب وتدافع عن نفسها وعن ابنتها في المحكمة، مع أنّ الأم “إليزابيث” تعترف سلفا بأنها تشعر بالعار لأنها لم تربِّ ابنتها بالطريقة الصحيحة التي تضمن لها حقها الشخصي في العيش الكريم من دون خسارات موجعة تظل تتذكرها طيلة حياتها.

تُقِل “مارثا” زوجها إلى المطار كي يغادر إلى سياتل من دون رجعة، وتعود لممارسة حياتها اليومية من جديد، عسى أن يداوي الوقت بعض جراحها.

“مارثا” في زيارة إلى الطبيب الشرعي الذي أخبرها بأن سبب وفاة ابنتها غير معروف

 

“لم تكن تنوي إيذاء طفلتي”.. قنبلة محامي الدفاع

تحظى المحاكمات القضائية باهتمام ملحوظ في الأفلام الأمريكية، وفي فيلم “بقايا امرأة” هناك جلستان قضائيتان، حيث تجيب “مارثا” على أسئلة المحامي الذي تبنّى الدفاع عن قضية موكلته “إيفا” المتهمة بالتقصير الذي أفضى إلى موت الطفلة.

ونستذكر نحن المُشاهدين تفاصيل عملية المخاض وما جرى في أثنائها من نقاشات بين القابلة والزوجين “مارثا” و”شون”، فقد نصحها بضرورة ذهابها إلى المستشفى لكنها رفضت، وقررت الولادة في المنزل رغم الصعوبات التي مرّت بها زوجته، وتسببت في نقص الأوكسيجين الذي أفضى إلى موتها بالسكتة القلبية. وقد ألقى المحامي من خلال أسئلته باللوم على “مارثا” التي لم تنتبه إلى عدد أصابع ابنتها وإلى لون بشرتها، وكثافة شعرها، وهي أمور لا تفوت أي امرأة في أثناء الولادة.

تتأجل المحاكمة إلى موعد لاحق يتيح لـ”مارثا” أن تذهب إلى محل للتصوير، وتطلب من صاحبه أن يعيد طباعة الصور التي التقطها “شون” في أثناء الولادة، فتكتشف صحة الملحوظات التي أبداها محامي الدفاع، وأنها رفضت الذهاب إلى المستشفى رغم إلحاح زوجها والقابلة التي أشرفت على عملية التوليد.

وقد أدلت “مارثا” ببيان إلى المحكمة قالت فيه باقتضاب “هذه المرأة لم تكن تنوي إيذاء طفلتي، ففي تلك الليلة أرادت فقط أن تكون الطفلة بأمان، ولا أعتقد أنه خطؤها، شكرا لكِ”. ثم التفتت إلى أمها الجالسة في القاعة وخاطبتها قائلة “لا المال ولا الكلمات ولا الأحكام بالسجن تستطيع أن تُعيد لنا ما فقدناه”.

 

“إنها تُشبه رائحة التفاح”.. لغة الدلالات الرمزية

يلجأ عدد من المخرجين إلى الرمز أو اللغة المجازية التي تحرّك ذهن المُشاهِد وتحاول إشراكه في صنع الأحداث التي تقع أمام ناظريه، فحينما سألها محامي الدفاع عن رائحة ابنتها أجابت بسرعة خاطفة: إنها تُشبه رائحة التفاح.

وقد رأيناها أكثر من مرة تنظر إلى التفاح في الأسواق العامة وتشمّه، أو تأكل تفاحة وهي في طريقها إلى البيت، كما كانت تزرع بذور التفاح في حواضن قطنية وتضعها في الثلاجة إلى أن تتبرعم، ثم تنقلها إلى التربة، وذلك في إشارة إلى ديمومة الحياة.

وعلى النقيض من التجدد تفقد الأم “إليزابيث” ذاكرتها، فقد نسيت ذات مرة مفاتيح منزلها، ومرة طلبت شطيرة الليمون، وحينما جاء بها النادل قالت بأنها لم تطلب هذا الطعام، في إشارة إلى ضعف الكائن البشري الذي تتراجع قواه البدنية والذهنية كلما تقادمت الأعوام التي سوف تفضي به إلى الرقدة الأبدية.

أما الجسر الذي رأيناه مرات عدة فقد اكتمل الآن، ولم يعبره الأب “شون” كما وعد ابنته وهي في رحم أمها، وإنما وقفت عليه “مارثا” وهي تحمل رماد ابنتها في قارورة خزفية، وقد نثرته من فوق الجسر الذي اكتمل تشييده.

إنّ أي التفاتة من المُشاهد إلى بناية شاهقة أو جسر كبير أو شارع معبّد تكشف عن اهتمام الإدارة الأمريكية بالبنى العمرانية، لكنها تركت الإنسان يتقوّض وينهار كما انهارت أسرة “شون” و”مارثا”، فعاد “شون” للمخدرات، بينما لجأت “مارثا” إلى الخيانة الزوجية.

قبل أن يضع المخرج لمساته الأخيرة على القصة السينمائية، نرى بعد سنوات طفلة صغيرة تتسلق شجرة وتقطف تفاحة وتأكلها، ثم نسمع صوت “مارثا” وهي تنادي: “لوسيانا” أين أنت؟ صغيرتي حان موعد الذهاب للمنزل.

وهذا يعني من بين ما يعنيه أنّ “مارثا” قد رمّمت حياتها من جديد من دون أن تعتمد على أحد، خاصة أمها “إليزابيث” التي تريد أن تصنع من نفسها أيقونة يُقتدى بها من قبل الأقربين عموما، وبشكل أخص ابنتها الوحيدة “مارثا” التي تحولت إلى “بقايا امرأة” تشظّت في جميع الجهات، لكن الزمن كفيل بمداواة جراحنا.

المخرج “كورنيل موندروتشو” يتحاور مع بطلة فيلمه “فانيسا كيربي” خلال تصوير فيلم “بقايا امرأة”

 

مهرجان البندقية السينمائي الدولي.. جائزة أفضل ممثلة

شارك فيلم “بقايا امرأة” في الدورة الـ77 لمهرجان البندقية السينمائي الدولي، وحازت “فانيسا كيربي” على جائزة كأس فولبي لأفضل ممثلة، فقد كان أداؤها في الفيلم متألقا مبهرا، كما تألق بجانبها النجمان “شيا لابوف” و”ألين بيرستين” في دوريهما اللذين منحا الفيلم قوة ورصانة لا تخطئها العين الخبيرة بالسينما. كما أبدع المصور “بنجامين لوب” في رصد الوقائع والأحداث بعدسته الحسّاسة التي التقطت مَشاهد استثنائية لا يمكن أن تغادر ذهن المتلقي بسهولة.

وساهمت موسيقى “هاورد شور” في التناغم مع جميع الأحداث المُفرحة والمفجعة، وتناغمت تماما مع الأنساق البصرية للفيلم الروائي الطويل الذي بلغت مدته 128 دقيقة، بينما لعب المونتاج دورا كبيرا في سلاسة الفيلم وانسيابيته، فلم نشعر بمرور الوقت، وهذا ما عهدناه في المونتير “دافيد يانكسو” الذي صنع مونتاج غالبية أفلام المخرج “كورنيل موندروتشو”، مثل “قمر المشتري” (Jupiter’s Moon) و”إله أبيض” (White God) و”الولد الرقيق” (Tender Son).