“بلد صغير”.. طفولة في أوج الحرب البوروندية

في التسعينيات عاش صغيرا في بوروندي مع والده رجل الأعمال الفرنسي ووالدته الرواندية وأخته الصغيرة، وكان يقضي وقته مع زملائه في الفصل في القيام بحماقات الصغار المراهقين وألعابهم المشاغبة الممتعة، والمزعجة في أغلب الأوقات للكبار. لكن هذه الخفة في العيش وهذا الاستمتاع في الحياة ينقضيان مع اندلاع الحرب الأهلية التي تضع حدا لبراءة الطفولة.

كانت الأخبار -التي تداولت الحرب العرقية في بوروندي مطلع التسعينيات- مذهلة بمدى تعبيرها عن العنف الكامن في النفس البشرية، فالحرب تخرج أسوأ ما في الإنسان وتدفعه لمصير قد يكون هرب منه طويلا، لكنه في لحظة واحدة قد يجد نفسه مندفعا ليكون جزءا من آلة تسحق كل من يقف بوجهها، والحرب لا ترحم الأبرياء بل تسحقهم فرادى وجماعات ليصبحوا أرقاما، لكن السينما تعطي لهذه الأرقام وجوها وهي تصور حياتهم.

الحروب مختلفة الملامح متحدة المصائر، فحتى وإن اختلفت أمكنتها تشابهت طرقها، وإن تنوع ممارسوها تماثلت أفعالهم، وحين يتطرق فيلم ما إلى حرب أهلية -على سبيل المثال- جرت في زمن ما ليس بالبعيد، ولم تصل عبر الأخبار  إلا فظاعاتها، فإن من المدهش ملاحظة هذا التشابه مع حرب أخرى شهدناها أو نشهدها في عصرنا الحالي أينما كانت، وهو تشابه يجعل الفيلم يتجاوز نطاقه المحلي ليصبح معبرا عن حالة عامة تمس الإنسان في كل زمان ومكان.

هذا ما وفق فيه فيلم “بلد صغير” للمخرج الفرنسي “إيريك باربييه”، وهو مأخوذ عن رواية سيرة ذاتية تحمل نفس العنوان وحققت أعلى المبيعات وقت صدورها في فرنسا عام 2016 للكاتب والموسيقي الفرنسي الرواندي “غائيل فاي”، وقد صور الفيلم عام 2019 في رواندا لاستحالة تصويره في بوروندي بسبب الأحداث السياسية.

ابن العاشرة.. عين شاهدة على الحرب الأهلية

يُعد فيلم “بلد صغير” مدهشا في دقة تعبيره عن نظرة طفل صغير حول الطفولة والحرب الأهلية والفوضى والمجازر، كما أنه تعبير بحس مرهف عن الحرب بأصواتها أكثر من مشاهدها، وعن العنف دون الاقتراب منه كثيرا، وعن العواطف الجياشة دون مبالغة في إظهارها، وعن الحيرة بين ثقافتين دون كلام، وعن جنة الطفولة وأجوائها كما هي في أذهان كثيرين.

“غابرييل” (الممثل جبريل فانكوبينول) طفل ذكي يبلغ من العمر عشر سنين، وهو وإن مال للعب والمغامرات والمعارك الصغيرة مع أقرانه؛ فهو في داخله ينفر من العنف. لا يحاول “غابرييل”- أو جبرائيل بالعربية- أن يختار جهته، فهو مشغول للغاية بالمرح مع أصدقائه في زاويتهم المخصصة للعبهم بعيدا عن الأعين في داخل حطام سيارة فولكس فاجن.

هناك يسعى أطفال التوتسي والهوتو بدرجات متفاوتة من النجاح إلى تسوية خلافاتهم دون التركيز على أي فوارق عرقية أو اجتماعية، لكن هذا لن يدوم طويلا حين يُفرض الاختيار مع ارتفاع وتيرة العنف في بلدهم بوروندي.

“نميزهم من شكل الأنف والرأس”.. نظرة ثاقبة لملامح مجتمع متباين

كانت نظرة “غابرييل” حاضرة باستمرار للتعبير عن مشاعره أكثر من الكلمات، وهي نظرة نفاذة مراقبة تنصب على محيطه، وهو صامت لا يعبر كثيرا عن دواخله، إنه توتسي كما يقول له والده مازحا حين يبدأ بالانتباه إلى ما يدور حوله من عنف ويسأل عن الفروق بين قبيلتي التوتسي والهوتو.

يعلق الأب مبتسما: “نُميزهم من شكل الأنف والرأس، وذلك الرأس لا نعرف ما يدور فيه”. ويضيف: “مثل أمك ومثلك أنت أيضا”.

الممثل جبريل فانكوبينول الذي قام بأداء دور الطفل “غابرييل” الذكي الذي يبلغ من العمر عشر سنين

يحاول الفيلم -عبر مواقف كهذه وتصرفات وأقوال سريعة وعابرة أحيانا لكنها مكثّفة ودالة- التعامل مع قضية معقدة غاية التعقيد، فيُلمّح للأحداث من خلال إبراز تأثيرها على حياة العائلة، وهو لا يسرد التاريخ بل يكشفه من منظور الطفولة عبر رؤية الشخصية الرئيسية في الفيلم “غابرييل” الذي يشهد كل ما يجري في يومياته من ضحايا العائلة في التطهير العرقي كالأم الرواندية التي تعتبر نفسها لاجئة في بوروندي لأنها من التوتسي، مرورا بملاحظته لخلافات وعبارات دالة بين الخدم كل حسب انتمائه كان من التوتسي أو الهوتو.

بالإضافة إلى اطلاعه العابر على قتال الشوارع والمجازر في كلا البلدين وسلوك جماعات مسلحة في الطرقات، والتقاطه لما تبثه نشرات الأخبار من راديو والده، وفي كل هذا تلعب الأصوات دورا مؤثرا في الإيحاء بما يجري في الخارج دون مشاهدته، وذلك من خلال ما يتداول من أحاديث من بعيد، وهكذا يكون التأثير أشد في خلق أجواء التوتر وأكثر فعالية في بث القلق.

أب أبيض في أفريقيا.. منغصات الانتماء لثقافتين مختلفتين

توحي يوميات “غابرييل” بطفولة سعيدة على الرغم من منغصات العلاقة المعقدة التي تربط بين والديه وانتمائه إلى ثقافتين مختلفتين، فالأب حاضر غائب، حيث يدير شركة صغيرة في بوروندي كأي مهاجر أوروبي يعيش منذ زمن في بلد أفريقي، وقد اندمج مع الناس وأجواء المكان حتى صار -رغم بياضه- جزءا منه.

الفرنسي “جان بول روف” الذي قام بتمثيل شخصية والد “غابرييل” في الفيلم ، وهو مُهاجر أوروبي أبيض يعيش في بلد أفريقي

تعبر شخصية الأب عن هؤلاء المهاجرين الأوروبيين الذين ارتبطوا ارتباطا عميقا بأفريقيا ولم يعودوا قادرين على العيش خارجها، ليس من الناحية المالية فحسب بل الاجتماعية كذلك، فهو يتعامل ببساطة واهتمام مع مرؤوسيه ويسأل باستمرار عن أحوالهم ويسعى لمراضاتهم، ولكنه يبقى مع كل هذا التمازج ذلك الرجل الأبيض الذي يشعر بتفوقه وتميزه وامتيازاته، وحين يبدأ العنف في بوروندي يعتبر أنه كأوروبي أبيض يحق له المرور أينما كان وعبر كل الحواجز، فهو ليس معنيا بخلافاتهم العرقية.

كان دور هذا الأب -الذي جسده ببراعة فائقة الفرنسي “جان بول روف”- معبرا بالكامل عن الرجل الأبيض في أفريقيا، وهو كممثل أدرك أن شخصيته ليست الرئيسية في الفيلم، فلم يسع لفرض حضوره بوجود الصغير “غابرييل”، ومع تنحيه هذا أعطى الإحساس بأنه أب مستعد دوما ليكون هنا بجانب ولديه يرعاهما بحنان وحب، ويرد على أسئلتهما ويطمئنهما.

صراع الميول النفسية.. انقسام بين العائلة الصغرى والكبرى

لقد وزعت معظم الأدوار بكفاءة عالية في الفيلم إذ تبدت قدرة المخرج “باربييه” -في فيلمه السابع هذا- في إدارة الممثلين حيث إنّ أكثر من 90% ممن شاركوا في الفيلم لم يمثلوا من قبل في حياتهم.

بالإضافة إلى الأب و”غابرييل” وأخته “آنا” وبعض الأدوار الثانوية كشخصية الخال؛ أعطت الأم (الممثلة الرواندية “إيزابيل كابانو”) هذا الإحساس بحيرتها وانقسامها وتمزقها بين انتمائها للتوتسي وبين زواجها من فرنسي يظن في داخله بأنها محظوظة بزوج أوروبي، فهي منقسمة بين أطفالها “نصف الفرنسيين” وأهلها، بين معاناة شعبها وأسرتها ورفضها للنجاة بنفسها بعيدا عنهم وبين بقائها مع ولديها.

الممثلة الرواندية “إيزابيل كابانو” والدة “غابراييل” المتزوجة من فرنسي والتي تعيش صراعا نفسيا يُحيرها

تهرب الأم من الواقع ولا تعترف بما يجري في بلدها الأصلي، وحين تقابل الحقيقة وجها لوجه لا تقوى على الاحتمال، وعندما يصبح الطفل بالغا سيكتشف أن والدته لم تتعافَ أبدا من الحرب، فلقد كانت جذور انتمائها للتوتسي متوغلة في العمق، وستنعكس هذه الفوارق الثقافية التي جسدتها الأم على الطفلين غنى وألما.

من خلال إخراج لا ينحرف أبدا عن الموضوع -أي قصة “غابرييل” حسب الرواية- واستخدام لقطات واسعة؛ يدخلنا الفيلم ببراعة في الصراع في تكثيف زمني للسرد،  وخلق أجواء حافلة بالتوتر والقلق والخوف حتى في أكثر المقاطع بهجة، مثل حفل زفاف الخال الذي تتخلله موسيقى، حيث صاحبه شعور كان أيضا ملازما للمشاهد خلال فترة مشاهدة الفيلم بكامله، فكأن هناك ما هو آت وهو فظيع.

مقتل الرئيس.. الانقلاب الذي أشعل فتيل الحرب

شكلت بوروندي مع رواندا منطقة واحدة تحت حكم ألمانيا ثم بلجيكا، وباتتا دولتين مستقلتين عام 1962، وحينها سيطرت قبائل التوتسي الرعوية والإقطاعية على الحكم في بوروندي  على الرغم من أن الهوتو الذين يعملون بالزراعة كانوا أكبر مجموعة عرقية هناك.
وبعد عقود من الاضطرابات مع الهوتو وثورة فاشلة لهم ومقتل الآلاف ومعظمهم من الهوتو، أعلن عن دستور ديمقراطي جديد عام 1992 (زمن أحداث الفيلم) وأجريت أول انتخابات في أكتوبر 1993 وفاز فيها “نداداي” من الهوتو.

غابرييل مشغول للغاية بالمرح مع أصدقائه في زاويتهم المخصصة للعبهم بعيدا عن الأعين

بعد 100 يوم اغتيل الرئيس من قبل جنود توتسي في محاولة انقلابية فاندلعت بعدها حرب أهلية واسعة عرقية بين التوتسي والهوتو دامت 12 سنة في بوروندي ورواندا، وخلال سبع سنوات -أي حتى الألفين- أبيد 200 ألف بوروندي قبل تقاسم السلطة تحت إشراف دولي وإجراء انتخابات عام 2005 فاز الهوتو بأغلبيتها.