“بلد مين؟”.. البدء من حيث انتهت أفلام الثورة

يتناول فيلم “بلد مين؟” الوثائقي أحداث الثورة المصرية وتبعاتها، وهو من إخراج المصري محمد صيام، وكان عرضه العالمي الأول في مهرجان كندا الدولي للأفلام الوثائقية، وعرضه الأوروبي الأول في المسابقة الدولية للأفلام الوثائقية في الدورة الـ51 لمهرجان كارلوفي فاري السينمائي.

يقدم المخرج الشاب محمد صيام في فيلمه الوثائقي وجهة نظر مغايرة عن الثورة المصرية لم نرها من قبل ولم يلتفت إليها كثيرون، عبر محاولته الصادقة لتجاوز معظم ما قُدّم من أفلام ووجهات نظر عن الثورة المصرية، فقد باتت في أغلبها مُستهلكة، وإلى حد ما مُنفرّة لفرط تكرارها.

يحاول محمد صيام -في فيلمه الذي لا يتجاوز زمن عرضه ساعة وبضع دقائق- تغطية فترة تعتبر طويلة نسبيا في عمر الثورة المصرية، نظرا لأحداثها الكثيرة، وفي نفس الوقت طويلة أيضا في زمن السينما الوثائقية المعتاد، فالفيلم يبدأ مع اندلاع الثورة ويستمر حتى بعد الثورة بثلاث سنوات، أي حين عودة الحكم العسكري إلى السلطة من جديد بعد إزاحته للرئيس المصري الراحل محمد مرسي

عودة العسكر.. أفق مسكون بانقسام طوائف الشعب

إنه رهان كبير دون شك، وينطوي على كثير من التحديات الصعبة، وهو رهان يتعلق من ناحية بالتصدي لما هو جذاب وغير مألوف، وتبني طرح جديد مغاير عن الثورة المصرية، وهو تحدٍّ من ناحية أخرى بدت لنا صعوباته ابتداء من موضوع الفيلم، وليس انتهاء بمدى الصبر والمثابرة والدأَب الذي كان على المخرج التحلي به، من أجل أن يتضمن فيلمه أحداث الثورة وتبعاتها على امتداد ثلاث سنوات لاحقة.

المخرج محمد صيام يقدم في فيلمه وجهة نظر مغايرة عن الثورة المصرية لم نرها من قبل ولم يلتفت إليها الكثير

وقد كان من الحصافة التوقف بزمن الفيلم عند تلك النقطة الفارقة من تاريخ مصر السياسي، فقد عادت الأمور مرة ثانية إلى ما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، إذ عاد الحكم العسكري بقوة إلى السلطة، وبات الشارع مُحَرَّما على المتظاهرين وجموع الناس، وغدا الأفق المصري مسكونا بانقسام المصريين إلى فئات وطوائف، ما بين مؤيد ومعارض ومُهَمَّش ومُنسحب، وغير ذلك من الانقسامات.

ينطلق المخرج محمد صيام في فيلمه “بلد مين؟” من فكرة تسليط الضوء وعقد لقاءات مع رجال الشرطة من ذوي الزي المدني، أو من يطلق عليهم في مصر “أمناء الشرطة”.

أمناء الشرطة.. سمعة ملوثة يخشى رجالها الظهور

يعترف محمد في بداية الفيلم -بصيغة سؤال استفهامي استنكاري- بكونه ابنا لمحقق جنائي سابق، ويبدي اندهاشه من إخفاء والده لأمر عمله عنه. يرصد سريعا سوء سمعة أفراد الأمن والأمناء والعساكر، ومدى تلوثها في الفساد والتعذيب والانتهاكات ضد المدنيين على نطاق واسع، وكيف أنها في النهاية كانت من الأسباب الرئيسية المؤدية لاشتعال أحداث ثورة 25 من يناير.

بعد ذلك الجزء التمهيدي يصف لنا محمد الصعوبات البالغة التي واجهها في حث هؤلاء الأفراد على التحدث عن تجاربهم وما فعلوه وما حدث لهم، وكل تلك الأمور المعروفة عنهم، كان الجميع يخشى تبعات التصوير وإظهار وجهه على الشاشة في فيلم لا يعرف شيئا عن مخرجه أو طاقم عمله أو وجهته.

لكن أحد أفراد الأمن وافق بمنتهى الجرأة والجسارة على الظهور في الفيلم، ويحمل في الفيلم اسم أبو حبيبة دون أن نعرف اسمه الحقيقي، وهو يتحدث في فترة الثورة التي كان يخشى فيها أفراد الأمن الإفصاح عن هوياتهم، ثم لاحقا بعد التنحي وفترة المجلس العسكري وعودة الشرطة تدريجيا، ثم في فترة الرئيس مرسي وحتى رحيله واستلام الجيش لمقاليد الحكم في البلاد.

حياد الفيلم.. سياسة تكسب ثقة المتحدثين للكاميرا

لم يشأ المخرج محمد صيام أن يفرض أي وجهة نظر خاصة به على امتداد الفيلم، بل اكتفى بطرح بعض التساؤلات المشروعة وتركها دون إجابات، بينما ترك شخصيته الرئيسية وبعض الشخصيات الأخرى الهامشية تتحدث من تلقاء نفسها وتعبر عن رؤيتها الخاصة، لكن لا يمكن القول إن المخرج حافظ على حياده هذا بالمطلق، لا سيما مع نهاية الفيلم التي يطرح فيها مجموعة من التساؤلات، يكون مسار أجوبتها النهائي مفضيا دون شك إلى أن مصر تسير بخطوات حثيثة نحو مستقبل غامض وقاتم على جميع المستويات.

استطاع المخرج عبر قدر من الثقة المتبادلة والمُكتسبة على امتداد فترة زمنية طويلة، أن يقنع أبو حبيبة بأن يفتح قلبه، ويتحدث إلى الكاميرا عن انتهاكات الشرطة التي أدت لاندلاع الثورة، والاعتراف بكثير مما كان يحدث، وكيف أنهم في النهاية كانوا مجبرين على تنفيذ هذا، وأنه لا بد لهم من طاعة الأوامر.

محمد يعترف في بداية الفيلم بكونه ابنا لمحقق جنائي سابق

يتحدث أبو حبيبة خلال مقابلات عقدت معه بالقطار أو بمنزله أو بأماكن عمله، عن ما وقع من أحداث عقب اندلاع الثورة على امتداد تلك الفترة التي اختفى فيها أفراد الشرطة، ثم عن العودة التدريجية لأفرادها لاحقا في زي مدني، من أجل القيام بأعمال حراسة على عدة منشآت تابعة للدولة أو دور عبادة وغيرها من الأعمال.

أبو حبيبة.. فوضى التوجهات السياسية للحرباء المتلوِّنة

في البداية، نجد أن أبو حبيبة من الرافضين لتلك الممارسات الفظيعة التي كانت تحدث قبل الثورة، ونرى إلى أي مدى يُعرب عن سعادته باندلاع الثورة ونجاحها، وحتى عدم خشيته من النزول إلى ميدان التحرير في أيام الثورة، رغم أن وجهه المألوف لدى بعض الناس كان من الممكن أن يتسبب له بكثير من المشاكل، سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى العمل.

أما أثناء حكم المجلس العسكري، فنراه يدلي برأيه أثناء نوبات الحراسة أو حتى في مسكنه، عن أحوال البلد وأوضاعها والرضا عن بعض الممارسات والقرارات التي كانت تتخذ آنذاك أو السخط عليها، إلى أن جاءت فترة الانتخابات، فأعرب صراحة عن تشجيعه للتيار الإسلامي بحكم طبيعة البلد باعتباره بلدا إسلاميا محافظا، وأن هذا هو ما كان ينتظره ويتوقعه الناس، وأن الرئيس سوف ينجح فيما فشل فيه البقية.

تمر الأيام ونجد آراء وتوجهات أبو حبيبة تسير مع الرأي العام الساخط الذي كان سائدا في أواخر فترة حكم الرئيس المخلوع محمد مرسي، ونراه يفرح بعد استلام الجيش لمقاليد الحكم، ومع نهاية الفيلم وبعد إصرار وإلحاح من المخرج يوافق على مضض على طلب التصوير مرة أخيرة.

أبو حبيبة أحد الرافضين لتلك الممارسات الفظيعة التي كانت تحدث قبل الثورة

سنوات التيه.. فقدان البوصلة في الوجدان الشعبي

بينما تتتابع الأحداث بالفيلم أمام أعيننا، تجد نفسك تتساءل وتتعاطف أيضا مع أبو حبيبة، ذلك الرجل الطيب البسيط، صاحب العيشة المتواضعة والتفكير العادي، وذلك باعتباره مثل بقية أو أغلبية الشعب المصري الذي مرت عليه أحداث كثيرة خلال فترة زمنية قصيرة جدا في عمر الشعوب، مما جعله يفقد توازنه، فلم يعد يفرق بين الصواب والخطأ، أو يميل لتصديق واعتناق جميع الآراء والدفاع عنها، ثم لا يفتأ ينقلب عليها كلها ويدينها جميعا.

تلك الحالة من الاضطراب والبلبلة وعدم اليقين وفقدان البوصلة، مردّها عائد إلى عوامل كثيرة بالطبع، وكان من الممكن تفهمُّها بالنسبة لشخصية أبو حبيبة والتحولات النفسية التي طرأت على شخصيته، نتيجة للعوامل الخارجية التي مرّ بها المجتمع خلال تلك السنوات.

نشاهد على سبيل المثال عينة من هذا من جانب ابنته حبيبة التي يسألها عن الضابط أو الشرطي، فتخبره أنه سيئ أو غير جيد، أو بالتعبير العامي المصري “وِحِش”، فيخبرها الأب مُصححا أنه ليس كذلك، وأنه يقبض على اللصوص، فكيف يكون كذلك؟

المخرج المصري محمد صيام خلال مشاركته في أحد المهرجانات

كان من الممكن لنا أن نتفهم دوافع تلك الشخصية واضطراباتها، تماما كغيرها من المصريين، فلو جردناها ونظرنا إليها نظرة أخرى محايدة تماما، وهذا مطلوب بالطبع وإن لم يحدث من جانب مخرج الفيلم؛ فسوف نكتشف في النهاية أنها -مثل كثير من المصريين- ما هي إلا شخصية استغلالية نفعية تجيد استغلال جميع الظروف، وتلعب على جميع الحبال لتحقيق أقصى استفادة لها ولمصالحها وأغراضها.

فوفقا لاعترافه شخصيا يطلعنا أبو حبيبة أنه عندما رفض تنفيذ أحد الأوامر الموجهة إليه، نهره الضابط وأهانه، وكان موقوفا عن العمل ومهددا بالفصل نهائيا من الخدمة، لكن بعد استتباب الأمور عاد مرة أخرى إلى مكانه وسُوِّيَت مُشكلته.

لأسباب كثيرة أغلبها متعلق بالشق الأمني، آثر المخرج عدم ذكر اسم أبو حبيبة وغيره ممن ظهروا بالفيلم، وكذلك بقية طاقم العمل، وذلك حفاظا على حرياتهم واحتراما لرغباتهم، وتجنبا لتعريضهم لأي نوع من الأذى مستقبلا.

تقنيات السرد.. لقطات خارج المألوف ومآخذ في صميم الفيلم

شارك المخرج محمد صيام في كتابة السيناريو والتصوير، وأيضا التعليق الصوتي في الفيلم من حين لآخر، وكان قد عمل من قبل مصورا في الفيلم الأمريكي “عواصف الربيع” (The Trials of Spring) الذي تناول أحداث الثورة عبر طرح نسائي، والفيلم المصري الروائي “آخر أيام المدينة” الذي لا يخلو أيضا من تناول للثورة المصرية.

المخرج محمد صيام

لم يستعن محمد صيام في فيلمه -كما جرت العادة- بكثير من اللقطات الأرشيفية المعروفة للثورة والأحداث اللاحقة عليها، وإنما لجأ إليها في حدود ضيقة لإبراز ما هو ضروري، وحتى تلك التي صورها بكاميرته الشخصية فلم تكن بغرض الاستعراض أو لمجرد الحشو والحشر، لأن تركيزه كان مُنصبا بالأساس على شخصيته الرئيسية التي اعتمد في تصويرها على الحوار، أو بصورة أكبر تركها تسرد وتسترسل أمام الكاميرا، ولم يكن يتدخل ليقاطع إلا إذا اقتضت الضرورة.

استطاع المخرج عبر تقنيات سردية بسيطة ومن صميم فنيات العمل الوثائقي، أن يقدم لنا ذلك الطرح المغاير لما عهدناه من قبل في الأفلام المرتبطة بالثورة، وبالرغم من عدم وجود مآخذ كثيرة على المخرج الشاب وتجربته المُبشِّرة التي أتبعها بأخرى تحمل عنوان “أمل”؛ فإن المشكلة بالنسبة لي تكمن في عنوان الفيلم وما يطرحه من مضمون.

نفس الأمر فيما يتعلق بالخوف الشديد من التضييق الأمني والرقابي على الفيلم وشخصياته وطاقم عمله والشخصيات الظاهرة به، في حين أن الشخصية الرئيسية عادت بالفعل إلى عملها الآن، وما قالته أو فعلته وقت أو بعد الثورة لا يشكل أي إدانة أو تهديد لها، بما في ذلك حديثها عن التعذيب وغيره، فكل تلك الانتهاكات معروفة ومعترف بها عند القاصي والداني داخل وخارج مصر.

كذلك عدم تطرق المخرج أو حتى محاولة إلقاء أي ظل من الشك على أن ما فعله أبو حبيبة، لا يعدو كونه حماية لنفسه من البطش في أعقاب الثورة، أو ربما كان جزءا من ممارسته لعمله متخفيا طوال تلك الفترة.