“بلوغ”.. أفلام نسائية تبحر في عوالم المرأة السعودية

أمل ممدوح

يبدأ النضج حين تدرك أنك لم تكن ناضجا من قبل، كتمييز واعٍ لمرورك عبر مرحلتين، تماما كوضوح مرحلة البلوغ التي نبدأ فيها مغادرة الطفولة واجتيازها كأولى خطوات النمو والنضج، وهذا العنوان “بلوغ”، هو العنوان الذي اختاره الفيلم السعودي للتعبير عن حالة عامة تطل من قصصه، فهو يضم خمسة أفلام قصيرة لخمس مخرجات سعوديات وخمس كاتبات أيضا، وقد قدمت بأساليب إخراجية مختلفة تتراوح بين الأسلوب التقليدي، أو محاولات حداثية تفلت منه، ليكون العنوان متناصا كذلك مع التحول المرحلي الحالي في السينما السعودية، وخاصة سينما المرأة كموضوع وكصانعة.

نلاحظ في الأفلام الخمسة على اختلافها أن بطلاتها جميعا من النساء، بل حتى شخصياتها الثانوية، فلا يظهر الرجل إلا كعابر سبيل في أحدها، أو ربما ذكر اسمه غائبا، أو كان في محادثة لم نره فيها، أو طفلا، أو مجرد كنية لإحدى البطلات، فالمرأة متصدرة بينما يتوارى الرجل.

سينما المرأة.. جرأة لم تعهد الصناعة السعودية

تربط البطلات جميعا على اختلاف أعمارهن ومستوياتهن المادية والثقافية نزعة متمردة بدرجات متفاوتة، فكلهن مستقلات ويعلن أنفسهن أو غيرهن في الأغلب، فتقف كل الأفلام على شفا تغيير أو بانتظاره، لتكون بين حالتين، قد يبدأ إحداهما أحيانا العنوان وتكملهما الدراما أو العكس، فعلى سبيل المثال في فيلم “كريمة سمية” يقدم العنوان لحالة العرس، عرس سمية، لكن ينتهي الفيلم بهروبها.

 

كذلك الأمر في فيلم “الصباح”، حيث يشير العنوان لتغيير لحال منتظر، أو يصنع تضادا مثيرا للرثاء حين نرى الصباح منهكا لبطلته بلا جديد، لتنام ليلا بانتظاره من جديد، وفي فيلم “حتى نرى النور” نشاهد مأزقا عابرا لامرأة مع ابنها لكنها تخرج منه، مما يتناص مع وضعها وحالتها الاجتماعية التي قد تكون متأزمة كمطلقة، ويوحي من جهة أخرى بأمل الاجتياز رغم عتمة عابرة، وأما فيلم “المرخ الأخير” فيوحي عنوانه في كلمة “الأخير” بقرب انقضاء حال قديم لبدء آخر، وهو هنا يعني انقضاء الإرث القديم، ثم يأتي فيلم “مجالسة الكون”، وإن كان ذا عنوان غريب نوعا ما، ليدور بوضوح عن حالة بلوغ لفتاة صغيرة.

جاء العنوان الكلي للأفلام الخمسة ليكون بكلمة “بلوغ”،وذلك بما فيها من جرأة نسبية بالنسبة لسينما كانت شديدة المحافظة، ليكون هذا العنوان عنوانا مناسبا وموفقا ومعبرا كذلك عن المنحى والخيار الفني السعودي الحالي بشكل عام، وفيما يلي وقفة أكثر تفصيلا للأفلام الخمسة وفق ترتيبها في الفيلم.

“كريمة سمية”.. نمطية العروس الغائبة في يوم زفافها

“كريمة سمية” هو الفيلم الأول من الأفلام الخمسة، وهو من تأليف وإخراج نور الأمير، ويُعتبر من أقصر أفلام المجموعة بالإضافة للفيلم الأخير “مجالسة الكون”، ونجد أن عنوانه يُنسب إلى “سمية”، بينما لا نراها نهائيا في الفيلم، بل نرى أمها التي ترقص في عرسها متزينة سعيدة وكأنها هي العروس بدلا منها، ونرى أقاربها ومحيطها، بينما هي تظل غائبة حتى نهاية الفيلم، ترفض أن تفتح الباب طوال الوقت فيظنها المحيطون بها تتزين، لكننا لا نرى من أثرها في نهاية المطاف سوى طرحة عرسها مُعلقة، ونافذة مفتوحة تتطاير ستارتها التي تبدو بنفس لون الطرحة البيضاء، وكأنها ترد عليها بتطايرها رامزة لهروبها ولحريتها بشكل شاعري.

بوستر فيلم “كريمة سمية”، حيث تظهر الأم فيه بجوار بوفيه فارغ دون وجود أحد

 

ربما هذه الحبكة الهيكلية لغياب العروس “سمية” طوال الفيلم هي أفضل ما في الفيلم، فهي محور الحدث، والجميع حاضر في ليلتها، لكن كل شيء جاهز إلا هي، وهذا هو أفضل ما في الفيلم، أما السيناريو والفكرة والتناول فهما تقليديان بشكل كبير، ففكرة إجبار العروس أو الابنة على الزواج باتت فكرة دائمة الوجود ومتكررة من أزمان قديمة، لكنها بما أنها ما زالت موجودة وتشكل نوعا قائما من مظاهر قهر المرأة وتكبيل حريتها، فمن الممكن تقديمها، بيد أن المشكلة في عدم وجود زاوية جديدة أو بُعد جديد أو شكل مختلف لتناول هذه الفكرة، فطريقة السرد وبنية السيناريو كانا مباشرين ولم يخرجا عن الحالة التقليدية، مع مونتاج حاد، ربما بعض التعميق والتعبير البصري كانت تحتاجهما هذه اللقطة المُختزلة التقليدية ليخرجاها عن ذلك.

“الصباح”.. حياة مُرهقة لأم مُعيلة وابنة متمردة

في الفيلم الثاني “الصباح” الذي كتبته وأخرجته سارة مسفر، نجد حالة بها كثير من الواقعية في تفاصيل الصورة، وتلقائية في المشاهد، وفي أداء البطلة الأم، خاصة التي تظهر كامرأة مستنفذة في الصباح تنام كيفما أمكن، شعرها مهمل، ترعى ابنتيها، ولا يظهر الأب في المشهد، لنفهم أنها امرأة مُعيلة تحمل هم الإنفاق على هذا البيت، فتعمل في محل لتصفيف الشعر النسائي، وتساعدها ابنتها في إعداد طلباته، لتبدو للابنة أيضا ملامح متمردة، فتسمي أرنبها “أسد”، وذلك في لمحة واضحة لرفض الاستكانة، كما تناقش أمها وتدافع عن رأيها.

لا نجد حدثا واضحا، لكن في تراكمية المشاهد نرى استعراضا لحياتها المرهقة، يبدو أن هناك نوعا من الإرباك، فبينما البيت ومفرداته وطريقته في الحياة تبدو بدائية قديمة،إضافة لصور قديمة لفنانات كن نجمات زمن مضى، حتى معرفتنا بأن الزوج/ الأب في البحر تجعلنا نفهم تلقائيا أنه في رحلة غوص في زمن قديم، وهي من تحل محله في رعاية المنزل والإنفاق في غيابه، ويبدو عليها ثقل العبء.

 

لكن برغم هذه البيئة والبنية القديمة، يلبس السيناريو المرأة وابنتها إحساسا حديثا مُتحررا وجريئا، كما في بعض الجمل، والتدخين ومشهد للأم في الحمام، تبدو هذه الجزئيات الموحية بالجرأة والمتناثرة في السيناريو،كلها مُفتعلة لتصدير قصدي لحالة جريئة، لكنها يجب أن تكون نابعة من بيئة الفيلم وزمنه أو ستكون مجانية، فمبدئيا شخصية المرأة الأم لا تناسب هذا الزمن الذي كانت النساء فيه أكثر خجلا، كما أن تعبير “ماسك” ونوعية ماسكات البشرة المذكورة لا أظنها كانت موجودة قديما.

هناك تخبط في السيناريو وحبكته، إذ يريد قول شيء من خلال ظروف لم يعد مُعبرا عنها الآن، ومن خلال شخصية لا تتسق مع شخصيات الماضي، رغم أن التفاصيل الواقعية البصرية والأدائية جيدة جدا، وكذلك حركة الكاميرا.

هو فيلم كان بحاجة لتماسك الحبكة وتناسب الشخصيات مع محيطها، لكنه جيد إخراجيا وتمثيليا، ومن الأفلام الجيدة في المجموعة.

“حتى نرى النور”.. مواقف عفوية في سيارة عالقة

في الفيلم الثالث “حتى نرى النور” الذي كتبته وأخرجته فاطمة البنوي، تغلب الروح الحيّة من كل شيء، من خلال لقطة بسيطة في أحد الأيام، تبدأ بسماعنا لبرنامج حواري من برامح الصباح الإذاعية، ونفهم منه أن اليوم هو أول أيام الدراسة، كما يتأكد ذلك في الحوار فيما بعد، يبدو الحس الواقعي الحيّ في كل شيء حتى حركة الطفل المنتظر في خلفية إحدى السيارات، حتى تأتيه أمه بطلة الفيلم وصاحبة السيارة ومن تقودها، كفعل ثوري جديد على الحياة السعودية في حد ذاته.

يسرب لنا الفيلم بشكل غير مباشر -وإن كنت أراه مباشرا بشكل ما- معلومات عن الأم من خلال ملف تلتقطه من درج السيارة، فيه اسمها ومؤهلها ووظيفتها وعمرها، ونعرف منه أنها مطلقة، ثم نعرف أنها معيلة من خلال وجود إيصالات إيجار في الدرج نفسه، وهو ما كان يمكن الاستغناء عنه واستنتاجه أو إدراجه في كلمة بسيطة في أي حوار منها.

صورة لمخرجات الفيلم هند الفهاد وسارة مسفر وفاطمة البنوي وجواهر العامري

 

تجلس الأم  في السيارة ومعها ابنها في المقعد الخلفي، لا تستطيع التحرك بسبب سيارة خلفها تسدّ الطريق، فترسل حارس العمارة لصاحب السيارة، فيغيب كثيرا ولا يأتي صاحب السيارة ولا الحارس، هذه الفترة من الانتظار تُشكّل معظم الفيلم، وقد ملئت جيدا بتصرفات بها كثير من التلقائية، خاصة بحركة الطفل وحضوره بشكل مرتاح بسيط، ومن خلال بعض المكالمات التي تتسرب منها معلومات بسيطة أخرى، لكنها في الحقيقة لا تُضيف كثيرا.

كذلك نستطيع تبين العلاقة اللطيفة بين الأم وابنها، وتبين أي نوع من الأمهات أو النساء هي، تبدو مشرقة الطاقة، مستقلة قادرة على تحمل مسؤولية حياتها وطفلها دون تصدير نوع من المعاناة، ومن حوار بسيط مع ابنها تشركه في التفكير في حل لهذا الموقف، فيقول لها “تحركي حتى نرى النور”.

هذا ببساطة هو عنوان الفيلم المحفز بالإضافة لمحتوى كلمات مذيع الراديو التي تبدو كنوع من “الدردشة” البسيطة مع الجمهور بأسلوب حيوي يتناغم ويتوازى مع المحتوى الدرامي لهذه اللقطة البسيطة، فما إن بدأت البطلة التي ارتفع توترها في الهدوء ومحاولة الضحك، حتى وجدت مخرجا بشكل لم يبدُ واضحا كثيرا، لكنها وجدت النور.

الفيلم على بساطته وعلى انحصاره في مكان تقريبا واحد، بيّن عالم هذه المرأة وعلاقتها بابنها، وكيف يضيفان لبعضهما لتلطيف مفاجآت الحياة، برمزية انسداد طريق خروج السيارة، في سياق داعم للتفاؤل والطاقة الإيجابية، حيث قدّم بإيقاع جيد بشكل حيوي تميز بمونتاج جيد وبزوايا الكاميرا وحركتها التي ساهمت في سرد بصري جذّاب أعطى للفيلم روحه ومذاقه، وكان أداء البطلة سوزان عبد القوي والطفل سهل فارسي جيدا ومتناغما، لكن السيناريو كان بحاجة لمزيد من التعميق والربط الدرامي بين الموقف العارض وحياة هذه المرأة.

“المرخ الأخير”.. تحيز سينمائي في لقاء العلم والموروث

“المرخ الأخير” هو رابع الأفلام، وهو من كتابة منال العويبيل وإخراج هند الفهاد، ويربط بين عالم الماضي التراثي الفطري، متمثلا في أم إبراهيم المرأة المسنة المداوية بالطب العربي والأعشاب، وعالم الحاضر المتطور حضاريا وعلميا من خلال الصيدلانية مها الحاصلة على الماجستير في الأعشاب، فحين يتأخر حملها تلجأ للتعامل بتشكك مع أم إبراهيم، وذلك بدافع من زوجها، وكأنه لقاء بين الحداثة والعالم القديم، بين العلم والموروث.

أم إبراهيم المرأة المسنة المداوية بالطب العربي والأعشاب

 

تصبح المرأتان في حالة تفاعلية، فأم إبراهيم تقدم العلاج حين لجأت مها إليها، وأما مها فتحاول مساعدتها بطريقتها فيما بعد، فتدريجيا نكتشف عالما خاصا قديما لأم إبراهيم، فموت ابنتها سبّب لها صدمة نكران، فهي تعيش بوهم بقاء ابنتها على قيد الحياة ووجودها معها، تتطور العلاقة بينهما إنسانيا إلى حد ما، ونلاحظ تفتيش مها وراء أم إبراهيم، وعدم أخذها لعلاجها، فقد أتت لتكشف جهلها حتى تتواجها، وتواجهها مها برفضها للعلاج، كما تواجهها بموت ابنتها واحتياجها للعلاج، مما يتسبب في صدمة كبيرة لها.

الفكرة الأساسية للفيلم جيدة في تلاقي المنطقين، لكن يعيبها تحيز واضح لجهة العلم الحديث بشكل بدا متعسفا غير نابع من المحتوى الدرامي، بل من منطق الكاتبة على لسان البطلة، فأم إبراهيم بدت أمامنا امرأة حكيمة عالمة بالفعل، فهي تعلم أن مها لم تأخذ العلاج، وتبدو عالمة في مجالها، فلماذا رفض عالمها بشكل قطعي؟

ورغم أن مها بدت ممثلة للعلم ومن منطلقه صارحت أم إبراهيم بموت ابنتها وحاجتها للعلاج، فإنها أبرزت نوعا من الجهل في استخدام المنطق العلمي، فما فعلته لا يتفق مع العلم، وما قدمته الدراما وطريقة تقديم الشخصيات أمامنا كان يوجب اتحاد العالمين، لكن التحيز أفسد الدراما المقدمة رغم جودة الفكرة والكتابة لا المعالجة، وسبّب لها تخبطا وشعورا بالافتعال، لكنه يظل من أكثر الأفلام تماسكا مع الفيلم السابق، وبه قطعات مونتاجية جيدة وسرد شاعري جيّد وموفق، وأداء ملفت زاده جودة الماكياج من سناء بكر يونس التي أدت دور أم إبراهيم.

“مجالسة الكون”..هروب من الإزعاج لطفلة بين مرحلتين

تحت عنوان “مجالسة الكون” جاء الفيلم الخامس آخر أفلام المجموعة، وهو من كتابة نورة المولد وإخراج جواهر العامري، ويدور من خلال لقاء بين فتاة صغيرة وخالتها التي تستضيفها في بيتها، حيث توجه الخالة التي تبدو متمردة ومتحررة حديثا متشعبا ساخرا يوجه نقدا لا ينقطع لها ولأمها ولكل شيء، وأما الفتاة فنراها صامتة دوما، وقد بدأ الفيلم بتقديم عالمها الحالم أمام المرآة.

الخالة التي تبدو متمردة ومتحررة تتحدث مع ابنة أختها التي تبدو دوما صامتة

 

تبدو كلمات الخالة -وإن كانت خارجة عن الموروث- مصدر إزعاج مستمر في حد ذاته يخرق سكون عالم الفتاة التي تفاجئها لحظة تحولها من الطفولة للأنوثة ببلوغها لديها، تتعامل مع سنها وتطلعها الأنثوي كالتزين والمكياج بطفولة كالحلم، بينما تبدو عبارات الخالة والمشاهدة المتخيلة للأم معا عاملين يسببان لها خوفا من هذه المرحلة، وتشويشا حولها كالكوابيس، سواء كان ذلك من خلال طريقة تقليدية تمثلها الأم التي تنقل لها إحساسا بأن أخطاءها صارت محسوبة الآن، أو كانت من خالتها المتمردة بكلمات مناقضة للأم لكنها زاعقة، فكلاهما أخافتاها من هذه المرحلة وتداعياتها بشكل ما، كلاهما يفقدانها السلام والعفوية، لكنها تظل كما بدأت في لعبتها الحالمة أمام المرآة التي تمثل ذاتها.

الفيلم جيد الفكرة لولا مبالغة رسم الشخصيات لتبدو جميعا افتراضية، مسخّرة لموقف مقرر مسبقا، خاصة الخالة التي لا تتضح جيدا معالم شخصيتها ولا تبدو مقنعة، فهي تبدو في خلاف مع كل شيء، كارهة ومحبة دون فهم الأسباب، بحوار عير مترابط جيدا، لكن الفكرة الإجمالية وهروب الفتاة إلى الحلم كتعبير عن روحها الخاصة كان خيارا جيدا.