المهاجرون غير الشرعيين.. ضياع بين المغرب وإسبانيا

“هناك سلسلة من الاتفاقيات الدولية بين المغرب وإسبانيا، من بينها وضع خط حدودي بحري وهمي”.

“إذا لم يتجاوز الغريق الخط؛ خمسة وثلاثين درجة، خمسين شمالا، فإن القوات الإسبانية لن تنقذه”.

“إن هذا الاتفاق بذلك التقسيم الحدودي في كثير من اللحظات الحرجة يتعارض مع الالتزامات الأساسية لقانون البحار، مثل تقديم المساعدة لأي شخص مُعَرَّض للخطر”.

هكذا نجد رجال الإنقاذ البحري والأصوات المنتقدة لتلك السياسات البحرية المُتبعة مع المهاجرين غير الشرعيين، جميعهم يؤكدون على أنه “لا تُوجد حدود في البحر، يمكن لإسبانيا والمغرب أن يضعا خط إنقاذ، لكن هذا لا يعفيهما من الوفاء بالتزامات الإنقاذ”. وذلك ضمن أحداث الفيلم الوثائقي الطويل “موازي لخمسة وثلاثين، خمسين” أو”بمحاذاة 35 50″ (Paralelo 35 50)، وهو من إخراج الإسباني “سيرخيو رودريغو”، ويبلغ 74 دقيقة، وقد أنتج عام 2021.

بيانات الإنقاذ.. تاريخ مدفون بين ضفتي البحر الأبيض

يعتمد الفيلم على كشف النقاب عن حقائق مزعجة جدا بل مرعبة، فقد قام فريق عمل الوثائقي بالتحقيق فيها على مدار عام ونصف لجمع المادة التي تصنع العمود الفقري للفيلم، إنها مقاطع صوتية لمحادثات لا سلكية تكشف التاريخ الخفي أو المدفون عمدا حول الأسوار والجدران التي يستمر بناؤها أمام مَنْ يعبرون تلك الحدود غير المرئية بين إسبانيا والمغرب في البحر الأبيض المتوسط، التي تُعد برأي صناع الفيلم الأكثر غموضا وفتكا في أوروبا.

إنها تسجيلات لاسلكية متبادلة بين أطراف مختلفة رسمية وأخرى غير حكومية، أو دولية تكشف معضلة أساسية هي أن البيانات الرسمية المُعلنة الخاصة بإنقاذ المهاجرين في بحر البوران (بين إسبانيا والمغرب) كانت تُشير إلى “انخفاض ملحوظ في تدفق الهجرة غير الشرعية بدءا منذ عام 2018، وأن ذلك الانخفاض تزايد في عام 2019”.

لكن المخرج “سيرخيو رودريغو” وفريق عمل فيلمه كشفوا أن تفسير هذا الانخفاض لم يكن أبدا بسبب انخفاض أو قلة عدد القوارب الصغيرة التي يعتليها المهاجرون، لكن السبب الحقيقي الكامن وراء ذلك الانخفاض هو الصمت أو التجاهل الإعلامي المتعمد، لأن هذه المقاطع المُسجلة أرسلت لجميع وسائل الإعلام فتجاهلتها، بينما اكتفى بعضها بنشر خبر صغير.

نداء الاستغاثة المتجاهل.. فضيحة وسائل الإعلام الأوروبية

تكشف المعلومات المُوثقة صوتيا بالفيلم، والتي تُقدمها مؤسسات غير حكومية، وكذلك المؤسسة المنتجة للفيلم “إنتري فرونتراس” (Entre Fronteras) (أي بين الحدود بالإسبانية) أنه في صيف عام 2019 ، وتحديدا نهاية شهر أغسطس/آب وصلت مقاطع صوتية رُفض نشرها، وتسمع فيها حالات تشي بالممارسات السيئة وإهمال الإنقاذ للقوارب التي أرسلت إشارات استغاثة، كما تشي تلك المقاطع بتعاون إسبانيا مع المغرب لتجنب الإنقاذ على السواحل الإسبانية.

وتؤكد مؤسسة “بين الحدود” أن هذه التسجيلات الصوتية تُشكل نموذجا لبعض التسجيلات التي لم ترغب وسائل الإعلام الأوروبية في الاستماع إليها، لتكشف حقيقة ما يحدث في البحر الأبيض المتوسط.

الشابة المسؤولة في شركة “بين الحدود”، وهي التي أنتجت فيلم “بمحاذاة 35، 50”

لم يكشف الفيلم عن هوية الجهات غير الحكومية التي سرّبت تلك التسجيلات حماية لهم،لكن الأهم هو ما تفضحه تلك التسجيلات وتصريحات عمال الإنقاذ والجهات المختلفة والمتقاطعة مع تصريحات السياسيين والمكاتب الصحفية المختلفة، إضافة لوزارة الداخلية وممثلي الحكومة التي تصل لحد التضارب. مع ذلك، فإن المتلقي للعمل سيُميز جيدا الحقيقة من الكذب، خصوصا في ظل شهادات المنقذين من جهات مدنية، وعمال الإنقاذ البحري الذين يتحدثون لأول مرة عن عملهم، وشهادات بعض الأشخاص الذين أنقذوا، ومنهم قصة الشاب السنغالي “مامادو سيمون بامبا” الذي أُعيد إلى المغرب مرتين بعد أن أنقذه الحرس المدني في أعالي البحار.

أموال المتطوعين.. فيلم من إنتاج الضمائر الحية

إنه فيلم صادم ومؤلم وكاشف لكثير من الجهات المتواطئة ضد المهاجرين غير الشرعيين، سواء كانت الحكومة الإسبانية ونظيرتها المغربية أو السياسيين، إضافة إلى الصحافة.

عدد من المهاجرين غير الشرعيين بعد عملية إنقاذهم وسط البحر

ومع ذلك، يشير الفيلم في الوقت ذاته إلى أنه في هذا العالم البائس لايزال هناك أناس لديهم احترام كامل لإنسانية الإنسان، وهم يسعون بكل جهودهم لإنقاذ روحه مهما كان هذا الإنسان، سواء كان أبيض أو أسود، لاجئا شرعيا أو حتى غير شرعي، وهم يقومون بواجبهم من منطلق المسؤولية مهما كلفهم ذلك من ثمن فادح، سواء خسروا وظائفهم أو لحق بهم عقاب، أو من خلال المساهمة في تمويل تلك الأعمال الفنية الكاشفة، فقد أُنتج هذا الفيلم الوثائقي من خلال الإعلان عن المشروع، وتبرع 210 من الرعاة والأشخاص المهتمين بالقضية والراغبين في دعم الأرواح البشرية الهالكة، فهؤلاء الرعاة اختاروا كسر الصمت بشأن ما يحدث في هذا المضيق، وذلك للمساهمة في فضح تواطؤ الصحافة مع السياسيين والحكومات.

صراخ الضوء.. ستون شخصا في رحمة القارب المطاطي

يُشير العنوان “بمحاذاة 35 50” إلى الخط الوهمي الذي يفصل بين المغرب وإسبانيا في بحر البوران، والذي تسبح فيه القوارب الصغيرة التي يركبها المهاجرون غير الشرعيين في محاولة للوصول إلى مالقة، ومنها للشواطئ الأوروبية، وكيف أن وجود المهاجرين على أحد جانبي هذا الخط الوهمي قد يُحدد مصيرهم، فقيمة الحياة قد تكون أكثر أهمية في أحد جوانبه، لأن موقع المهاجر من هذا الخط ربما يحسم مصيره، إما بالنجاة أو الغرق، فإذا كان القارب بالجانب الذي ينتمي للحدود المغربية، فلا يحق لقوات الإنقاذ الإسبانية اختراق هذا الخط الوهمي مهما كانت حالة القارب، وإلا تعرضت للعقاب.

ينطلق الفيلم من تلك اللحظة، يوم 29 أغسطس/آب 2019، الساعة الثانية عشرة والنصف بعد الظهر، إذ تظهر أولى اللقطات للكاميرا العلوية جدا بنظرة الطائر، حيث نرى تدافع الأمواج بشكلها المفزع، ثم نسمع صوت امرأة يتردد عبر اللاسلكي مُوجها الحديث إلى وحدات الإنقاذ المسائية لقناة الاتصال رقم 72 قائلة “سأعطيك المعلومات إذا لم تكن متاحة لديك، ثم تشير إلى وجود قارب رمادي مطاطي بالبحر على متنه 61 شخصا، بينهم نساء وأطفال رضع قادمون من بوليفارد المغرب، وبينما تواصل تقديم المعلومات تواصل الكاميرا مسح البحر من موقع عيون رجال الإنقاذ الذين لانراهم.

أحد قوارب المهاجرين غير الشرعين وسط البحر بين إسبانيا والمغرب في انتظار أحد المنقذين لمساعدتهم

ثم يُعاود الصوت الأنثوي السابق تساؤله عن النتيجة عبر اللاسلكي في حدود الساعة الرابعة والربع بعد الظهر من نفس ذات اليوم، ومرة ثالثة في العاشرة مساء بتوقيت غرينتش، ثم عدة مرات أخرى بعد منتصف الليل وحتى صباح اليوم التالي، وبين تلك المقاطع معلومات تؤكد تحديد موقع القارب الذي يجري البحث عنه.

إنه يقع عند 35 درجة 48 شمالا، ومن ثم فلا يمكن لقوات الإنقاذ الإسبانية فعل شيء، بل إن عليها أن تترك القارب حتى يأتيه الحرس المغربي الذي لن يأتي غالبا، كما أننا خلال الاتصالات اللاسلكية بين الطرفين نُدرك أن القارب كان يُرسل إشارات مضيئة في منطقة مورس، بينما تُشير رسائل أخرى إلى أنه لا يمكن تجاوز الموقع الحدودي 35 50، فيجب أن تظل القوات بمحاذاة هذا الخط.

هجرات النساء.. بؤس المستجيرات من الرمضاء بالنار

لا يكتفي الفيلم بالسير في خط متسلسل، إذ يعود إلى الوراء (فلاش باك) إلى عام 2018، ثم يُراوح بينه وبين ما بعده وصولا إلى عام 2021 لتقديم تسجيلات لا سلكية أخرى على فترات متفاوتة خلال تلك الأعوام، مثلما يُؤكد على أن هذه الحدود البحرية قد رسمت في نهاية عام 2018، وفي ذلك العام وصل حوالي 64 ألف شخص إلى الساحل الإسباني، ونتيجة لتشدد السياسات ضد المهاجرين لُجئ إلى طرق أخرى أشد خطورة، حيث غالبا ما يقضي المهاجرون نحبهم عبرها.

الأمر اللافت أيضا من خلال تلك التسجيلات الصوتية، وكذلك من تصريحات وشهادات أبطال العمل؛ هو تزايد عدد النساء العازمات بإصرار لا يلين على السير في هذه الطرق غير الآمنة بل الخطرة، فلا يوجد قارب واحد من تلك التي أشارت إليها التسجيلات الصوتية إلا وكان بين ركابه عدد من النساء، فمثلا عندما أنقذ اثنان من القوارب التي احتوت 119 شخصا إلى ملقة، بينما كان لا يزال البحث مستمرا عن قارب آخر في بحر البوران، وكان في القارب الأول 59 شخصا، 45 رجلاً وعشر نساء وأربعة من القُصر، بينما كان القارب الثاني يحتوي على 60 شخصا، بينهم 16 امرأة وطفل رضيع.

عدد النساء العازمات على الهجرة غير الشرعية في تزايد، فلا يوجد قارب واحد من تلك التي أشارت إليها التسجيلات الصوتية إلا وكان بين ركابه عدد من النساء

الأمر المثير للدهشة هو أن الاتصالات اللاسلكية تشير إلى وصول إشعار يُنبه أن قاربا كان سيغادر عند الفجر من ساحل بوليفارد بالمغرب، بهدف الوصول إلى شبه الجزيرة الإسبانية، مما يجعلنا نتساءل: وأين كانت السلطات المغربية من ذلك، لماذا لم تمنعهم من الانطلاق، هل هو لأجل تركهم يواجهون حتفهم في عرض البحر؟

تؤكد الشخصيات المنتقدة لتلك السياسات أن النساء المهاجرات ضحايا، فلا ينبغي تجريمهن. هناك العديد من النساء يتخذن قرار الهجرة بأنفسهن، صحيح أن أعدادهن لا تزال أقل مقارنة بالرجال لأنهن مَنْ يحافظن على الحياة في بلدانهن وفي مجتمعاتهن، لكن لا بد من الاعتراف بأن هجرة النساء لعبور الحدود الجنوبية لإسبانيا ليس بالأمر السهل أبدا، فالطرق محفوفة بالأخطار، وهناك عدد من القصص تكشف سوء المعاملة والعنف الجنسي والاستغلال في العمل، وإذا كانت المهاجرات أمهات يُضاف إلى هذا العنف المعاناة من تفريق الأبناء والبنات.

عقاب المنقذين.. حين تنتصر السياسة على الإنسانية

البطل الثاني بالفيلم يمثله رجال الإنقاذ الذين خالفوا القوانين، وتجاوزوا هذا الخط الوهمي الفاصل بين الحدود المغربية ونظيرتها الإسبانية من أجل إنقاذ المهاجرين. ولعلها أحد مناطق القوة بالفيلم، أن العمل يُظهر الوجه الإنساني لرجال الإنقاذ بمركب “سالفامنتو ماريتيمو” (هيئة مدنية مثيرة للفخر)، بل إنه يطرح تساؤلا، وهو مَنْ يُنقذ المنقذ؟

فالفيلم يروي قصص هؤلاء الأشخاص الموجودين في البحر يوميا لإنقاذ اليائسين الذين ألقوا بأنفسهم بالبحر، فمثلا هناك حالة النقيب “ميغيل” الذي خفضت رتبته ثم عزل من منصبه لاحقا بسبب إنقاذه لتلك الأرواح الهائمة الباحثة عن فرصة أفضل في الحياة، لقد كان أحد الأشخاص الذين أنقذوا معظم الأرواح عام 2018، وعندما عانت الأندلس من أزمة الهجرة أعفي من منصبه، ثم لُجئ إلى عسكرة الحدود.

مركبة الإنقاذ التي خالف رجالها القوانين وتجاوزا الخط الوهمي الفاصل بين الحدود المغربية ونظيرتها الإسبانية من أجل إنقاذ المهاجرين

يُشير الفيلم إلى أنه ربما تكون سياسة الهجرة الجديدة قد ساهمت في تقليل وصول عدد الوافدين عبر البحر الأبيض المتوسط، لكنها تركت أيضا ضحايا، فقد توفي ما لا يقل عن 1885 شخصا أثناء محاولتهم عبور المتوسط ​​عام 2019، وفي عام 2021 لقي ما لا يقل عن 1369 مهاجرا حتفهم أثناء عبورهم​​، إضافة إلى حطام السفن غير المرئي، والوفيات غير المسجلة، لأنه لا يوجد سجل رسمي لها.

جمالية الفن.. ضوء سينمائي في عتمة الصحافة

لا شك أن فيلم “بمحاذاة 35 50” للمخرج الإسباني “سيرخيو رودريغو” هو نموذج يُحتذى به كمثال للصحافة السينمائية الاستقصائية الموسومة بأنها صحافة أكثر شجاعة واستنارة، مثلما تُؤكد احتياجنا إليها لأنها الأكثر تعمقا وضرورة في عصرنا، خصوصا في ظل الهشاشة المميزة للصحافة المسيطرة التي لا تسمح بتنفيذ مشاريع بحثية معمقة.

مع ذلك لم يتخل هذا الفيلم الجميل فنيا رغم قسوة موضوعه عن لغته السينمائية، ومعادله البصري القوي الشاعري المنسوج برقة وانسجام مع مؤثراته السمعية، وفي مقدمتها الموسيقى.