“بوري”.. مغامرات طفلة تسعى إلى الصمم في عائلة صماء

عدنان حسين أحمد

حين وعت “بوري” اكتشفت أنها الوحيدة التي أغدق الله عليها بنعمة السمع والقدرة على الكلام في عائلة صمّاء بكماء يتحدث فيها الأب والأم والشقيق الأصغر “جونغ وو” بلغة الإشارة، وعلى الرغم من الجو الأسري الحميم الذي يلف العائلة برمتها فإنّ “بوري” تشعر بالوحدة وكأنها تعيش في جزيرة معزولة، وتسعى بكل ما أوتيت من حيلة لأن تُصبح صمّاء بكماء مثل بقية أفراد عائلتها الذين ينهمكون في العمل، ويشعرون بالسعادة في حياتهم اليومية من دون أي منغصات.

غير أن هذه الصبية الصغيرة البالغة من العمر 11 عاما لم تضع في حسابها أنها مترجمة عائلتها الوحيدة، وهي تقوم مقام آذانهم التي لا تسمع، وأفواههم التي لا تنطق، وإذا فقدت هاتين النعمتين فإن صلتهم بالعالم المحيط بهم ستنقطع أو تُصبح معقدة جدا في أفضل الأحوال.

 

سليمة تسعى لتصبح صماء.. بساطة المقاربة الفيلمية

لا تكمن الإثارة في هذا الفيلم العائلي في الانعطافة الدرامية المهمة، بل في مقاربة كاتب السيناريو ومُخرج الفيلم “كيم جين يو” الذي لم يركز كثيرا على الشخصيات الثلاث من ذوي الاحتياجات الخاصة، وإنما انصب تركيزه على شخصية “بوري” السليمة التي تسعى لأن تكون مُعاقة كي تتخلص من وحدتها وتحطم جدران عزلتها الموحشة وتلج إلى صدَفَة العائلة بعد أن تتجرد من ثنائية السمع والكلام.

ليس بالضرورة أن تكون الأفلام المعقدة والعسيرة ناجحة فنيا، فثمة مئات من الأفلام البسيطة تنجح وتخطف الأبصار، خصوصا إذا ما اقترنت البساطة بالعمق واعتمدت على السلاسة والتدفق البصري الذي يروي قصة مكتملة الأركان يتلاقح فيها الواقع بالخيال، وتتوشى بنيتها السردية ببعض الإشارات واللمسات الحكائية التراثية سواء أكانت محلية أم عالمية.

هذا ما حدث في فيلم “بوري” (Bori) إذا ما دققنا في الإحالات والتفاصيل الصغيرة المُوحية التي تشي بالعذوبة والثراء والاكتناز.

والد “بوري” يأخذ عائلته الصمّاء إلى مهرجان “دانو” الشعبي في مدينة “غانغننغ”

 

مهرجان “دانو” الشعبي.. روائع التراث الشفهي غير المادي للبشرية

يُرصع المخرج وكاتب النص قصته السينمائية بعدة إحالات أسطورية إلى حكايات تختزنها الذاكرة الجمعية للشعب الكوري المتعدد الأعراق والديانات، وبما أن الطلاب مقبلون على عطلة مدرسية قريبة فيتوجب على الآباء أن يصطحبوهم إلى بعض الأماكن السياحية سواء في مدينة “غانغننغ” التي يسكنون في مضاربها أو غيرها من أماكن اللهو والجذب السياحي.

ولا بد من الإشارة  إلى أن “بوري” هو فيلم مكاني بامتياز فمدينة “غانغننغ” معروفة بالعديد من المهرجانات الشهيرة مثل مهرجان “دانو” ذائع الصيت الذي صنفته اليونسكو كواحد من روائع التراث الشفهي وغير المادي للبشرية.

تُحيى في المهرجان المسرحيات التقليدية وبعض الرقصات القديمة مثل “رقصة القناع” وغيرها من الفعاليات الثقافية والفنية التي تلبي الحاجات الذهنية والبصرية للمواطنين الكوريين الجنوبيين من مختلف الأعمار والثقافات.

كما تُعد مدينة “غانغننغ” -الواقعة على الساحل الشرقي للبلاد- مركز جذب قوي للسياح الذين يستمتعون بمشاهدة شروق الشمس.

“بوري” تبكي لأنها أضاعت أسرتها في الاحتفالات، بينما تحاول الشرطية أخذ المعلومات الأساسية عن أهلها

 

“عين الشيطان”.. ضياع العائلة الصماء في زحمة المهرجان

يتضمن هذا الفيلم الدرامي إحالات وتعالقات كثيرة سنأتي عليها تباعا أثناء تناولنا لأحداث القصة السينمائية المحبوكة بشكل جيد، على الرغم من بساطة رسالتها التي يبتغي المُخرج إيصالها إلى مُشاهديه، فأثناء الذهاب إلى مهرجان “دانو” تتأخر “بوري” عندما تحاول اقتناء تعويذة تركية تُدعى “نزر بونجو”، وبحسب البائع التركي -الذي يجيد الكلام بالكورية- فإنها تعني “عين الشيطان”، وهي تحمي حاملها من الغيرة والحسد الموجودين في هذا العالم.

خلال المساومة على سعر التميمة انتبهت “بوري” لغياب أسرتها، وراحت تركض في السوق على أمل اللحاق بهم، لكنها تضيع في زحمة البشر المحتفلين بهذه المناسبة الشعبية، وينتهي بها المطاف على مقربة من أحد مراكز الشرطة الذي تتردد في الدخول إليه، لكن شرطية شابة تنتبه لها وتدخلها إلى المركز وتحاول تهدئتها من نوبات البكاء التي انخرطت فيها.

تأخذ الشرطية من “بوري” بعض المعلومات الأساسية عن الملابس التي يرتديها كل فرد في أسرتها، وتطلب لها معكرونة الصويا الحلوة، وتمنحها هاتفها النقال لكي تتصل بعمتها وتخبرها بما حدث، وتبعث لها عنوان المركز الذي توجد فيه.

ترسل العمة بدورها إلى والد “بوري” على هاتف مرئي مخصص للصم، فتأتي العائلة على وجه السرعة وتأخذ ابنتها الضائعة بالأحضان، ثم تواصل العائلة مشاركتها ببعض الألعاب الشعبية وتقفل راجعة إلى البيت بعد أن قضت نهارا مليئا بالبهجة والحبور.

والد “بوري” يقلع سن ابنه الاصغر “جونغ وو” بواسطة الخيط، وهي عادة عالمية خلعه وقذفه باتجاه الشمس

 

“خُذي سن الحمار وأعطني سنّ الغزال”

لا بد من الإشارة إلى أن المخرج قد تعالق مع عادة عالمية حين ركز على وجع السنّ الذي يعاني منه الابن الأصغر “جونغ وو”، وكأنه يريد منا الانتباه إلى هذه العادة العالمية وهي خلع السن وقذْفه باتجاه الشمس، وهناك طرق متعددة لخلع السن من بينها -كما رأينا في الفيلم- ربط السن بخيط وشده قليلا، ثم دفع الصبي بصورة مباغتة بالاتجاه المعاكس.

وكالعادة المُتبعة في كل مكان يضع “جونغ وو” سنه بين السَّبابة والإبهام ويرميه باتجاه الشمس ويطلب منها أن تأخذ منه سنّ الحمار وتعطيه سنّ الغزال.

“بوري” مع صديقتها الحميمة “أون جونغ” التي نصحتها أن تستعمل سماعات الموسيقى المعدنية الصاخبة التي تمزق طبلتي الأذن

 

رحلة صلة الرحم.. أحاديث العائلة المعبرة إلى الجد

تركز فكرة الفيلم في جانب منها على صلة الرحم، حيث تصطحب الأم ولديها “بوري” و”جونغ وو” لزيارة جدهما في مدينة “يانغيانغ” للاطمئنان على صحته وإحاطته علما بالتطورات الأسرية مثل قلع سن “جونغ وو” وبأنه سوف يلعب مباراة مهمة في كرة القدم، وأنه الأفضل بين طلاب الصف الثاني، ويتمنى أن يحضرها جده الطاعن في السن.

تسأل “بوري” جدها عن السبب الذي منعه من تعلم لغة الإشارة فيختلق لها الأعذار غير المقنعة، ويدعي بأنها كانت تلعب مع خالتها، وعندما كانت تغضب تخبره خالتها عن سبب غضبها أو سقوطها في الانفعال المؤقت.

تتواصل البنية السردية المنسابة ونجد “بوري” وهي واقفة تصلي بخشوع أمام المعبد وتتمنى أمنيتها المستحيلة في أن تكون صماء، لكنها لا تُفصح عنها خشية أن تُصاب بالشؤم، بينما تسخر منها صديقتها الحميمة “أون جونغ” التي نصحتها أن تستعمل سماعات الموسيقى المعدنية الصاخبة التي تمزق طبَلَتي الأذن، لكنها لم تجد نفعا فتخلت عنها وتركتها جانبا لتجرب طريقة أخرى.

والد “بوري” يصطاد السمك مع ابنته “بوري” ويروي لها قصة زواجه من أمها حين كان عمره 25 عاما

 

“التقت أعيننا فجأة فتسارعت دقات قلبي”

إنّ سلاسة الفيلم متأتية من تنوع الأحداث وتخصيبها بالشذرات واللُمع الحكائية المتداخلة، فمن الحديث عن الأمنيات وأسنان الأطفال المخلوعة تنقلنا الطفلة الذكية “بوري” إلى ذكريات والدها وماضيه القريب الذي لم يتوار بعد حين تسأله عن الطريقة التي تعرف بها إلى أمها فيسترسل بلغة الإشارة قائلا:

“كنت ابن 25 سنة، وقتها كنت أصطاد السمك في هذا المكان فجاءت والدتك من مكان بعيد، واقتربت مني ببطء شديد، وكانت باهرة الجمال مثلك تماما، وبينما أنا أصطاد كنت أختلس النظر إليها، ثم التقت أعيننا فجأة فتسارعت دقات قلبي؛ الأمر الذي دفعني لإلقاء التحية وسألتها إن كانت ترغب في تعلم الصيد، وقد أفضى هذا اللقاء إلى الزواج”.

تسأل “بوري” والدها أيضا عن سبب عدم تعلمه الكتابة فيعود بها إلى الوراء كثيرا ليوضح لها الفرق بين زمنين أو جيلين على الأقل فيقول: “عندما كنت طفلا أردت الذهاب إلى المدرسة لكن جدك وجدتك لم يسمحا لي بذلك لأنني عندما أسير في الطرقات كنت أتعرض للتهكم والسخرية وأعود باكيا إلى المنزل، وصرت أكره مغادرة البيت، لكن جدي علمني صيد السمك فوجدته ممتعا وصار الصيد صديقي الوحيد”.

عائلة “بوري” تبدو مندهشة في المستشفى، حيث تتظاهر ابنتهم “بوري” بفقدان حساسة السمع

 

ساحل البحر الصخري.. قفزة للعبور إلى ضفة العائلة

تنتبه “بوري” مصادفة إلى أحد الإعلاميين وهو يلتقي بسيدة غواصة مُسنة تعيش في منطقة “جومونجين”، وهذه ثالث إشارة مكانية في هذا الفيلم، وبما أن السكان المحليين قد نسجوا حول هذه السيدة أسطورة تقول إنها “تستطيع التحدث مع المخلوقات البحرية”، فإن الإعلام المرئي يلتقي بها ويسألها: أيتها الجدة ماذا اصطدت هذا اليوم؟ وبما أنها لا تسمع جيدا فقد طلبت منه أن يرفع صوته، ثم تضيف قائلة: “لأنني أغوص في الماء كثيرا أصبح سمعي ضعيفا جدا حتى لا أكاد أسمع”.

تلتقط “بوري” هذه الملاحظة وتملأ حوض المغسلة بالماء وتدس وجهها فيه أكثر من مرة، ولكن من دون جدوى، وعندما تذهب في إجازة إلى ساحل البحر الصخري تقفز إلى الماء وتفقد الوعي لتجد نفسها في المستشفى وتتظاهر أمام الطبيب بأنها لا تسمع شيئا، بينما تصاب العائلة كلها بالذهول، وخاصة الوالد الذي أخرجها من الماء من دون أن يعرف السبب الذي دفعها لإلقاء نفسها في البحر.

تستمر “بوري” في تمثيل دور الفتاة الصمّاء على عائلتها وصديقتها الوحيدة “أون جونغ”، وكل الناس الذين يعرفونها في الحي السكني.

والدة “بوري” تشتري قميصا جديدا من إحدى محلات الألبسة الجاهزة وتتعرض للتمييز والاستغلال من قبل البائعة

 

“لقد جاءت الخرساء”.. تمييز سلبي ضد ذوي الاحتياجات الخاصة

انتبهت “بوري” بعد محاولاتها الثلاث إلى دورها المهم الذي كانت تلعبه في حياة الأسرة، فهي تقوم بكل الاتصالات لطلب الوجبات السريعة، وتذهب مع أمها للبنك أو لشراء الحاجيات المنزلية أو للسفر من مدينة إلى أخرى، لكنه ما إن أشيع أمر إعاقتها السمعية والكلامية حتى اكتشفت المعاملة السيئة التي تعاني منها الأسرة.

عندما اشترت الأم لنفسها قميصا من محل للألبسة الجاهزة كان ثمنه 22 دولارا إلا أن البائعة أضافت للسعر 5 دولارات وأخذت منها 27 دولارا، وعندما دخلتا البنك لسحب بعض النقود قالت إحدى الموظفتين: لقد جاءت الخرساء. إنها مزعجة جدا.

كما اكتشفت أنّ شقيقها “جونغ وو” يتعرض هو الآخر للتمييز، فرغم سرعته ومهارته الواضحة في لعبة كرة القدم فإنّ المدرب يضعه غالبا على قائمة الاحتياط، وحينما تدخلت العمة واستفسرت من الطبيب عن إمكانية إجراء عملية جراحية للطفل “جونغ وو” أجابها الطبيب بوضوح: إذا خضع لعملية زرع قوقعة في كل أذن فلن يتمكن من لعب كرة القدم، ولن يستطيع السباحة أيضا لأنها تجعله يصاب بالدُوار.

تسمع “بوري” هذا الحوار وتحفظه عن ظهر قلب، وحينما تعيده لأمها بلغة الإشارة تكتشف الأم أن ابنتها كانت تتظاهر بفقدان السمع وعدم القدرة على الكلام، لكي تنتصر على وحدتها القاسية وتخرج من اختلافها وتندمج معهم كطفلة صمّاء بكماء مثل بقية أفراد الأسرة.

شقيق “بوري” الأصغر “جونغ وو” يتدرب لوحده قبل أن يشتهر ويصبح نجما كرويا معروفا رغم حداثة سنه

 

“جونغ وو فعل ذلك بنفسه”.. إنقاذ الفريق في مباراة حماسية

تتوفر القصة السينمائية على ترقب وإثارة وتوترات درامية عديدة من بينها ضياع “بوري” في مهرجان “دانو” وغرقها المزعوم في البحر، وادعاؤها فقدان حاسة السمع وعدم القدرة على الكلام، لكن هناك توتر من نوع آخر وهو التصعيد الدرامي الذي نشهده في مباريات كرة القدم، فثمة مباراة نهائي الدوري الخامس لكرة الصالات برعاية التنّين الأزرق بين فريق جومون ونادي سيئول.

كانت المباراة حماسية بين الفريقين، لكن هذا الحماس تضاعف حينما قرر المدرب إشراك “جونغ وو” الذي أحرز هدفا وحقق التعادل الإيجابي بين الفريقين، وأنقذ فريقه من خسارة أكيدة.

كان السيد “لي” -والد “أون جونغ”- موجودا أثناء مشاهدة المباراة فشكرته “بوري” لأنه طلب من المدرب أن يساعد شقيقها في استعادة مكانته كلاعب رئيسي لا أن يبقى منتظرا على مصاطب الاحتياط، فقال السيد “لي”: “جونغ وو” فعل ذلك بنفسه، لقد فكر المدرب في الأمر كثيرا واستبعده لأنه أصم، لكنه أعاد حساباته وأسند إليه مهمة الهجوم، فأنقذ الفريق من الهزيمة.

أيقنت “بوري” عندها أن صديقتها “أون جونغ” قد كذبت عليها، وأنّ مهارة أخيها وخبراته المتراكمة رغم صغر سنه كانت السبب وراء تألقه.

تضييع هدف الفوز.. ميدالية في العنق وصور في الصحف

لم يقف التصعيد عند حدود المباراة التنافسية بل امتد إلى ركلات الترجيح، وقد وصل الفريقان إلى التعادل الإيجابي بواقع هدفين لكل فريق، وكانت النتيجة النهائية قد توقفت على الضربة الأخيرة التي ينفذها “جونغ وو” الذي بدا متوترا جدا رغم أنه أخذ نفسا عميقا وغيّر وضعيته ليسدد بقدمه اليسرى، لكن الكرة ذهبت خارج المرمى.

بكى “جونغ وو” كثيرا لأنه أضاع هذه الفرصة الذهبية للفوز، ومع ذلك فقد ظهر في عدة صحف وأصبح نجما مشهورا رغم حداثة سنه، كما حصل على جائزة أفضل لاعب، وصار الأطفال الذين كانوا يهملونه ويتفادون وجوده يتقاطرون عليه ويغبطونه على الميدالية الجميلة التي تزين عنقه.

جدير بالذكر أن المُخرج “كيم جين يو” هو كاتب سيناريو أيضا، وسبق له أن أخرج فيلما بعنوان: “هل تسمع ما سمعته أنا؟” سنة 2014، و”بوري” هو فيلمه الروائي الطويل الأول الذي قُوبل باستحسان كبير من قِبل النُقاد والمشاهدين على حد سواء.