“بولينا”.. الفارق بين موهبة تضِل وأخرى تظَل

إسراء إمام

في الفيلم الألماني “فكتوريا” (Victoria) (2015) تُفني البطلة فكتوريا عمرها بأكمله كي تحقق حلمها بأن تكون عازفة بيانو محترفة، فتتكبد من أجل ذلك مشقّة هائلة تحرمها من العيش تقريبا.

مواعيد تدريب مقدسة تأتي على أكثر من نصف اليوم منذ الطفولة، إذ لا وقت لديها للهو الصغار، ولم يختلف الأمر كثيرا في طور المراهقة، فلا سهر مع الرفاق ولا سمر مع الأصدقاء، بل ليس ثمة وجود للأصحاب أصلا، الكل معارف وزملاء.

إذن لا سبيل للملاطفات العاطفية أيضا، وبالتالي فإن دافِع العناية بمظاهر الأنوثة مفقود. فمثلا ثمة قاعدة أساسية تُلزم عازف -أو عازفة -البيانو بحَفّ أظافره كاملة أولا بأول، وهذه واحدة من قائمة طويلة من مُحرمات لم تقربها البطلة سعيا لمنالها، حتى بلغت العشرين وتجاوزت جوهر هويتها كفتاة وكإنسانة من حقها أن تحيا ولو بعضا من المتعة الخالصة المنزهة عن التضحيات.

ورغم ما سبق، وفي لمح البصر، يخبرها أساتذة معنيون بحسم مدى كفاءتها، أنها لا ولن تصلح أبدا أن تكون عازفة بيانو محترفة.

من هنا نلتمس المدخل للحديث عن أزمة بولينا التي جسّدها بتميز الفيلم الفرنسي إنتاج عام 2016، والذي يحمل نفس اسم شخصيته الرئيسية، تلك الفتاة التي حذت حذو فكتوريا ونذرت نفسها لفن الباليه، ولم تلق سوى الامتعاضات المتكررة من معلميها.

في فيلم فيكتوريا لم نرافق الفتاة في مشوارها المزعوم منذ الصغر، وإنما هنا في بولينا نشهد على تلك الخيبات المتكررة التي حاولت بولينا أن تغضّ عنها الطرف مصممة على استكمال المسير، إلى أن أحاط بها فكّ الهاوية، واتسع ليبتلع محيطها، فلاحت لها تلك اللحظة السوداوية التي دفعتها للتفكير في الانتحار.

ولكن ثمة فارق بين بولينا وفكتوريا، فالأخيرة أطرقت ونظرت إلى الأرض وجلاً، وأدرات رأسها ومضت لتلحق متخبطة بما فاتها من الحياة، ولكن بولينا تراجعت لتوها عن قرار قتل نفسها، واتجهت لتقتل تلك المغالطة السيئة التي يعتمدها الجميع عن مفهوم الاحترافية من أساسه.

ولهذا فإننا نرى في فيلم فكتوريا دراما خاصة –جيدة جدا- عن فتاة تحاول استعادة حياتها بعدما خذلتها موهبتها، ولكن في فيلم بولينا نتعرض لدراما أكثر عمومية، فنجد الفتاة هنا تمردت متخذة الطريق الأصح لموهبتها في الرقص بعيدا عن حتمية الباليه، ورغما عن أنف الجميع، في فيلم بولينا نشهد قصة فتاة بذلت كل ما في وسعها كي لا تخذل موهبتها، ونجحت في ذلك بجدارة.

خارطة تراكمية لتحوّل غير آمن

ثمة عاملا ضغط أنهكا قوى بولينا؛ أولهما قد نعتبره عاملا خاصا يرتبط بحالة الحدوتة، وهو ما تعانيه من إرهاب دائم نظرا لتورط والدها في أعمال غامضة مع حفنة من المجرمين.

هذا الرعب الذي تحياه ليل نهار، ينتهي بها عند ذهن مشتت، لا يستجمع كامل طاقته لخدمة الرقص، فنراها دوما منقسمة بين خيال مُجهَض لراقصة، وتوتر دائم لابنة تخشى مصير أبيها.

وقد عبّر المخرجان فاليري مولر وأنجيلين بريلوكاج “بصرياً” عن هذا الإحساس المخيف في التقطيع بالتوازي بين لقطات مسرح البولشوي الروسي المهيب بكل فخامته وجلاله، وبين لقطات قلق بولينا على والدها حينما كان يصطحبها معه لإجراء أحد مشاوير عمله المريب، لتَقفِز من مطرحها الآمن بالسيارة مخالفة أوامره، وتدلف إلى عمق المكان الذي دخله لتطمئن عليه.

كل هذه اللقطات المتنافرة تتتابع من خلال خلفية صوت السيدة التي تستعرض قيمة البولشوي وقامته التاريخية، بينما يتجلى وجه بولينا في نهاية المشهد ساهما لا يفقه من تلك الكلمات شيئا.

ولكن هل هذا هو السبب الوحيد لإخفاق بولينا في احتراف الباليه؟

يمكننا الجزم بالنفي، لأنه فقط أحد المنغصات التي كانت لتبدو هينة أمام العامل الضاغط الثاني، والذي أراه نموذجا مثاليا لمعضلة عامة لا تخص قصة بولينا وحدها، وإنما تمس كل من يحمل هوية غير متفق عليها من الفن، لا مدارس لها ولا قوالب، نغمة حرة قد يراها الكثيرون نشازا خالصا، وقد ينبذون صاحبها بغير إدراك، وهذا بالضبط ما حدث مع بولينا.

في بداية الفيلم، يستخدم المخرجان أداتهما المفضلة في تكثيف المعنى، ويُقَطّعان بالتوازي بين لقطات بولينا الطفلة وهي ترقص بجدية داخل قاعة الباليه، وبين لقطاتها في باحة الغابة الثلجية التي كانت تنطلق فيها خفيفة منتشيةً بحركات حرة وهي تراقص ذاتها.

هذا التضاد البصري الرائع لخص منذ الدقائق الأولى أزمة بولينا التي تظل تتفاقم طوال سنوات لاحقة، فالفتاة لا تنتمي لذلك التصنيف الأكثر تبجيلا في الرقص، فجسدها يلفظ حركات الباليه وينفر منها، ولهذا السبب بعينه توالت نظرات الخيبة بل والاشمئزاز في أعين معلميها على التوالي، كلهم يتفقون على أنها موهوبة لكنها تفتقر إلى الحقيقة، وكأنها أقرب لمانيكان (دُمية) مُصمَتة كانت تُجيد الحركة، لكنها تُثقِلها، ولا  يتسرب إلى الجمهور منها إلا المجهود والعناء، لدرجة أن أحدهم قد يلهث على المسرح وهو يشاهدها، لأنه لا يطير معها، بل يبلغه ما تعانيه من مشقة.

تعليقات مثل تلك اتسعت أفواه المعلمين على مر سنوات لترمي بولينا بها، بدلا من محاولتهم فهم أبعاد مشكلتها واقتراح حلول تلائمها، لقد اكتفوا بتعنيفها داخل إطار إدراكهم الضيق لمعاناتها وكفى.

ومع الوقت تحول الموضوع مع الفتاة لرهاب حقيقي، حولها تقريبا إلى مسخ يقطع دائرة مفرغة، فمع كل حرص جنوني من جانبها على التدريب لدرجة التخلي عن أيام عطلاتها وعدم التسكع مع رفاقها، تزيد إيماءات عدم الرضا وتأففات نفاد الصبر.

تتحول الفتاة إلى كائن مرعوب فاقد الثقة في قدراته، منفلت الأعصاب مائل إلى العنف، بل قادها هذا التشوه إلى مستوى ملحوظ من الإيثار نظرا للشعور الدائم بالنقص، فنراها باتت لا تهتم بشريك رقصتها، وتركز بنرجسية مفرطة على أدائها، وقد غضت الطرف عن كل شيء، وأضحت مغشية البصر والبصيرة، ولهذا كانت آخر كلمات تلقتها من أستاذتها في باريس” بالله عليك، انظري حولك، لاحظي، فالفنان هو الشخص الذي يُلاحِظ”.

نجحت بولينا في أداء رقصتها البديعة المزعومة عقب وفاة والدها مباشرة
نجحت بولينا في أداء رقصتها البديعة المزعومة عقب وفاة والدها مباشرة

مُقوِّمات الموت والموهبة

حاولت بولينا الانتحار مباشرة إثر الكلمات السابقة، ولكنها سرعان ما تراجعت لسبب غامض هي نفسها لم تفهمه، ولكنها أحسنت القرار بتجاهل كافة الآراء التي مضت، حتى وإن حملت في نفسها وصمة آثارها، فإنها همست لحالها بحسم أن بولينا راقصة البولشوي قد انتهت، المهم أنها تجاوزت حلم الباليرينا، حتى وإن ظلت متشبثة بالرقص دون أن تحدد ما الذي تريده منه.

يلوح في الأفق هدف آخر، يتعلق بحقيقة أهواء جسد بولينا الراقصة، فراحت تصمم رقصة عبثية ارتجالية مع شريك منحته هذه المرة جل اهتمامها، بل وقادت هي عملية تأليف حركات الرقصة، لاحظت جيدا كل ما حولها، خفة يد كانت في شجار، تشابك أذرع كان في تحية، حركة إيحائية لمحتها في زحفة متشرد على بلاط المترو، أبدعت بحق، وبسريالية تامية، وصَممت رقصة تسلب الأنفاس.

صحيح أنه في وقت من الأوقات أحاطتها مُقَوّمات الموت، ولكنها قاومت بمقومات موهبتها التي لم تدحضها الانطباعات المؤسفة من أساتذتها.

نجحت بولينا في أداء رقصتها البديعة المزعومة عقب وفاة والدها مباشرة، بل وكانت متأججة كمعجزة متجسدة، وهذا أكبر دليل على أن جسد بولينا لم يكن عصيا باردا بسبب ملابسات مشكلات والدها، وما كانت تعكسه روحها من أرق.

تكمن عظمة هذا الفيلم في منهجية إخراجه بالمقام أول
تكمن عظمة هذا الفيلم في منهجية إخراجه بالمقام أول

إبداع متكامل

تكمن عظمة هذا الفيلم في منهجية إخراجه بالمقام أول، فالبصريات وخطة توظيف الموسيقى إضافة إلى خيارات المونتاج، اختزلت الكثير من الكلام، وآثرت أن تعيره تجسيدا أشد وطأة، على المستوى الفني أو الفلسفي أو الشعوري البحت.

نجد تنوعا غنيا قَرّب المعنى في أسلوب التقطيع الأثير لدى المخرجين وأضفى عليه انطباعا فنيا غير مألوف، وكان وقع غرابته في بعض المواضع كفيلا بمضاعفة الشعور المراد تمريره. فمثلا في التقطيع السريع بين لقطات عمل بولينا في الحانة الصاخبة، ثم عودتها لغرفتها منهكة مرتمية على الفراش في صمت تام، والإلحاح على إبراز هذا التناقض في الصوت، والتكوين الحركي في الصورة، قد يضخم بلا شك من حالة الضياع التي تحياها بولينا وقتها.

بل وزاد المخرجان الذكيان على جمالية وقيمة هذا التقطيع حينما أضافا إلى متوالية اللقطات ما بين الحانة والمنزل؛ لقطة ساكنة في المنتصف، تصور معلم بولينا الأول، وأكثرهم عليها تأثيرا، وهو يقف في وسط قاعة التدريس الخالية وقفةً سائمة خاوية تعزز انطباعه الدائم الذي كان بخصوص رقص بولينا، فمن الطبيعي للغاية أن تراودها خيالات بصرية مماثلة وهي بداخل تلك المتاهة النفسية الجسدية الملعونة.

استند المخرجان على رمزيات ذكية في تضمين معان خفية ولم يُصَرح بها أبدا، ففي بداية الفيلم ترى بولينا كغزالة شاردة تتبخر تماما بسرعة البرق وكأنها لم تكن، حينما يضغط والد بولينا على زناد البندقية ليصطاد أرنبا، مُحدثا صوتا مروعا يعكر صفو حالة استقرار هذه الغزالة، ويحيل بينها وبين لبثها في مكانها آمنةً.

نعود لنرى تلك الغزالة في هيئة مستكينة، حينما تنتهي بولينا من رقصتها الأخيرة بنجاح، إذا فمن حق تلك الغزالة -التي ترمز إلى بولينا- الآن أن تهنأ في جلستها، معبرة عن نفسها وعن أحقية وجودها، طالما لم يعد ثمة تهديد بالرصاص (والذي من الممكن أن نفترض أنه كان يرمز إلى مخاوفها الدائمة من ورطات الأب المستمرة مع أناس مريبيين). وطالما أضحت بولينا الآن راضية عن أدائها متصالحة مع هويتها وعلى يقين من أنها خلبت لب معظم من شاهدها.

يظهر معلم بولينا الأهم في موضع آخر من هذه الرقصة البديعة التي ينتهي عليها الفيلم، ينظر إليها مباشرة في شيء من الفخرِ والثقة، بل ونرى في الصور المعلقة على الجدار خلفه صورة بولينا وهي بملابس رقصتها الحالية، وكأنها متأكدة تماما من أنه لو كان مطلعا على رقصتها اليوم لرمقها بتلك النظرة، بل وعلق صورتها حالاً على جدار قريب منه.

تقع تلك الرقصة المدهشة على أرض الغابة الثلجية، تلك الغابة التي بدت فيها بولينا الطفلة ترقص وفقا لسجيتها، حرة طليقة، تشبه ذاتها. في ذلك دلالة على الافتراض الإخراجي النبيه.

ما يتبع هذا الخيار من سحر جمالي بحت يتلخص في مدى انسجام الحركات الرائعة لبولينا وشريكها مع حبيبات الثلج المتساقطة بوداعة على الأرض المغطاة بالثلج، بين عمدان الأشجار السامقة عاليا. كل هذا معجون بموسيقى أسطورية يصعب توصيف عذوبتها ووقعِها المُدوِخ.

إن مشهد النهاية الواقع بين فكي هذه الرقصة، كان ملحمة تكاد تكون متكاملة تقريبا.

إن فيلم "بولينا" عن المغتالين الذين فقدوا موهبتهم إلى الأبد لأن قوالب الفن المعتادة لم تناسب مقاساتهم
إن فيلم “بولينا” عن المغتالين الذين فقدوا موهبتهم إلى الأبد لأن قوالب الفن المعتادة لم تناسب مقاساتهم

بولينا.. دليل المنتصرين

يُمكن اعتبار فيلم بولينا انتصارا حقيقيا لهؤلاء الذين ضلوا عن موهبتهم بيد القدر وغشامة معلميهم، فتملصوا منها قاطعين كل الأواصر التي تجمعهم بها، لهؤلاء الذين استسلموا ومضوا، ولهؤلاء الذين أصروا على الفهم وعادوا ليلتقوا بأنفسهم الحقيقية وبوجه موهبتهم تارة أخرى.

إنه فيلم عن المغتالين الذين فقدوا موهبتهم إلى الأبد لأن قوالب الفن المعتادة لم تناسب مقاساتهم، وهو أيضا فيلم عن المحاربين الذين استبسلوا وعرفوا سر موهبتهم، فأبوا ألا يُكيفوها إلا لتلائم حجم أجسادهم؛ هم وحدهم دون غيرهم.