“بيروت في عين العاصفة”.. قصة أربع فتيات ثائرات في العاصمة المنكوبة

“لما بدأت الثورة كنا نشعر بحالة إهانة، كأن هناك شخصا يُهينك منذ استيقاظك وحتى لحظة نومك. لم نأت هنا بالصدفة، وصلنا هنا بعد عملية نهب منظمة. كلنا عندنا أهداف واحدة رغم أننا جئنا من مناطق مختلفة عندما نتخرج من كلياتنا لن نجد وظيفة، ولن نجد لنا مكانا في لبنان، ولن نستطيع السفر أيضا، نحن سجناء في هذا البلد”.

هكذا يتحدث عدد من الثوار في ميدان الشهداء ببيروت عن الأسباب والأمور التي قادتهم لتلك الانتفاضة، ومنها ارتفاع مستويات البطالة وتزايد أسعار الخبز والبنزين، عدا عن البنوك التي أعلنت إفلاسها وضيعت أموال الشعب، وذلك ضمن الفيلم الوثائقي “بيروت في عين العاصفة” (Beirut: Eye Of The Storm) (75 دقيقة إنتاج 2021) للمخرجة الفلسطينية مي المصري.

عُرض الفيلم من بين ثمانية أعمال ضمن مسابقة الفيلم الوثائقي في مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط في دورته الـ27 التي عقدت خلال الفترة ما بين 10 وحتى 17 يونيو/حزيران الماضي، ورغم أنه خرج من دون جوائز، فإن الجمهور استقبله بشكل جيد، وتفاعل مع بطلاته بكل حيويتهن وصدقهن وانفعالهن.

 

من الثورة المتفجرة بميدان الشهداء في بيروت يبدأ الفيلم، إنها لحظة قوية جدا، مفعمة بالحيوية والدلالات الرمزية والأمل في التغيير، لحظة لن يتفوق عليها في الأثر النفسي سوى مشهد الختام، حيث انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب 2020، وحزن الفتيات الأربع الذي تختتم به المخرجة مي المصري فيلمها، وكأنه نتيجة حتمية لكل الفساد الذي غرقت فيه لبنان بسبب رجال السياسة.

تداخل العام والخاص.. وثيقة سينمائية تؤرخ لفترة مفصلية

منذ اللحظة الأولى بالفيلم تُحدد مي المصري أن ما حدث في لبنان لم يكن ثورة، بل تتعامل معه على أنه انتفاضة، إذ تكتب في مقدمة الفيلم “في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 اندلعت انتفاضة شعبية واسعة النطاق في لبنان”. ومع ذلك فإن بطلاتها الأربع في متن الفيلم ونسيجه يتحدثن عن ما وقع باعتباره “ثورة”، بينما تصف إحداهن -وهي المخرجة العراقية لُجين جو- الأمر بأنه “ميني ثورة”.

تقدم المخرجة طوال الفيلم نموذجا قويا للعلاقة المتينة المعقدة بين العام والخاص وتُراوح بينهما، وذلك من خلال قراءة تجارب أربع شابات تترك لهن المساحة للتعبير عن قناعتهن ومشاعرهن وأحلامهن، فتجعل صوتهن مسموعا، بينما تُنقّب في حياتهن وعلاقتهن بأسرهن وأسلوب التربية، ومقدار الحرية المتاحة لكل منهن، وأثر الموروث عليهن.

إذن فالمخرجة لا تقدم فقط فيلما عن لبنان المأزوم، بل أيضا عن العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية التي تقود للتمرد، ليصبح الفيلم بأكمله شهادة، بل وثيقة تؤرخ لمسار بلد يمر بفترة مفصلية في تاريخه.

بنات التربية الليبرالية.. ثورة الأغاني السياسية الساخرة

بعيون أربع فتيات نتابع أحداث فيلم مي المصري، إنهن العصب والمتن الأساسي لهذا الفيلم الوثائقي المُطرَز بالشجن. أربع فتيات من فئات مختلفة وطبقات متباينة، لكنه تمثيل جيد ومُعبِر عن وضعية لبنان، وتنوع الجنسيات بداخل أراضيه.

بطلات الفيلم وكفاحهن من أحل التغيير والثورة

أما الفتيات فهن الشقيقتان نويل وميشيل كسرواني، وهما فنانتان اختارتا الغناء كوسيلة للتعبير والرفض والنقد اللاذع، فصارتا تكتبان الأغنيات السياسية الساخرة، وتقومان بتلحينها وغنائها، وتُتيح لنا مي المصري أن نعيش معهما كواليس صناعة هذه الأغاني، وجرأتهما في التجديد، والتفاف الشارع من حولهما.

هاتان الأختان هما نتاج التربية الليبرالية، فوالدهما كان ينتمي لأحد الأحزاب ثم فقد إيمانه بهذا النشاط الحزبي، وأما الأم فهي مناضلة تكتب وتجد صعوبة في نشر ما تكتب لصدقه ونقدها اللاذع، لكنها لم تستسلم. هكذا ندرك مصدر صلابة الشقيقتين، ونفهم سر شغفهما بالفن والسخرية والهجاء والتمرد، مثلما غرس فيهما الأب فكرة الرفض وعدم الاستسلام وضرورة فعل شيء، أي شيء بدلا من الصمت والاستكانة.

حنين.. صحفية محجبة تشعر بالغربة في بيروت

الفتاة الثالثة هي الصحفية المحجبة حنين التي اختارت التصوير وصناعة الأفلام الوثائقية، ومنها أفلام عن العشائر والبقاع، وأخرى عن المهاجرين الفلسطينيين من لبنان، والهجرة غير الشرعية، والمآسي الموجودة في المخيم.

حنين لها حكاية كاشفة، لأنها تتحدث عن والدها الذي وفر لها ولأخواتها مناخ الحرية في البيت، فعرفت قيمة الاختلاف ومارسته، فهي محجبة، بينما شقيقتها الكبرى غير محجبة.

الصحفية المحجبة حنين التي تعاني من عدم تقبل البعض في بيروت لاختلافها

تنطلق حنين من هذا الخاص إلى العام بحديثها عن عدم تقبل الآخر لها، بزيها المحتشم وحجابها اللافت، تتحدث عن علاقتها المعقدة والمرتبكة مع بيروت، فهي تعشقها وتكرهها في آن واحد، أما العشق فقد لا يحتاج إلى تفسير أحيانا، وأما الكراهية فيرجع سببها إلى رفض أهل بيروت فكرة الاختلاف، وتحكي حنين عن معاناتها من ذلك، ثم تقدم نماذجا من أيام الانتفاضة لتدلل على ذلك، ونظرة الآخرين لها كأنهم كانوا يتساءلون “لماذا توجد هذه الفتاة هنا؟”، وكأن الحجاب أو الزي يسلبها حقها في التظاهر والرفض، وهي تشرح لماذا قررت أن تشارك في تلك الانتفاضة، لا كصحفية فحسب، بل لأنها لم تجد بين الموجودين مَنْ يعبر عن حالها وفكرها وهويتها، فقررت أن تفعل ذلك بنفسها.

لجين.. أحلام عراقية تمردت على الموروث العائلي

الفتاة الرابعة بفيلم “بيروت في عين العاصفة” هي العراقية لُجين جو، وهي مخرجة ومصورة أقامت في لبنان لمدة سبع سنوات، بعد أن تمردت على موروث عائلتها، فقد عاشت الخوف لسنوات، وحُرمت من مواصلة تعليمها فقط لأنها وُلدت أنثى، لكن في تلك اللحظة التي فقدت فيها أختها للأبد تلاشى هذا الخوف، أو بالأحرى ربما لم يتلاش تماما، لكن لجين نجحت في كسره وتجاوزه، وانطلقت لتحقيق حلمها في التصوير والإخراج.

العراقية لُجين جو، وهي مخرجة ومصورة أقامت في لبنان لمدة سبع سنوات، بعد أن تمردت على موروث عائلتها

مزج الأغاني والوثائقيات.. انعكاس بصري سمعي لحياة الشخصيات

يتميز السرد السينمائي بالفيلم بأنه انعكاس بصري سمعي لشخصياته الأربع، فهو يناسب حالتهن النفسية والمعرفية والفنية، لذلك فنحن لا نرى فقط صورة الفتيات أو نسمع أصواتهن، لكننا نكاد نشعر برائحة الأشياء، ونتفاعل بصدق الفتيات وحماسهن.

وقد ساهم في صناعة ذلك ذكاء وإحساس المخرجة مي المصري التي اقتبست تفاصيل من أعمال الفتيات، فمنها الأعمال الغنائية الساخرة الأقرب لفن “الراب” أو “الفيديو آرت” (Video Art)، ولقطات من وثائقيات قدمتها حنين أو لقطات العنف المُمارس ضد المتظاهرين، خصوصا ضد النساء أثناء الانتفاضة، وقد قامت بتصويرها لُجين جو أو بعض صديقاتها.

وقد استطاعت مزج كل هذه الأنواع الفيلمية بكثير من الانسجام في هذا الفيلم البديع.

مي المصري.. فنانة حقيقية تحوّل الأخبار إلى عمل يُخلّد

لقد أثبتت المخرجة مي المصري بهذا الفيلم أن الفنان الحقيقي قادر على تحويل اللقطات الإخبارية -التي شاهدناها عشرات المرات ضمن نشرات الأخبار، أو الكلام المنطوق الذي سمعناه آلاف المرات- إلى عمل فني رقيق مؤثر يعيش في ذاكرتنا للأبد.

المخرجة الفلسطينية مي مصري التي نقلت لنا قصص فتيات الثورة

صحيح أنها قدمت في الدقائق السبع الأولى من الفيلم لقطات بصرية وسمعية مشتعلة بالثورة ربما نكون شاهدنا كثيرا منها بالأخبار أو على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها غرست بينها مفاصل شديدة الشاعرية، ولقطات أخرى للفتيات الأربع بطلات الفيلم، وكأنهن جزء فاعل من نسيج هذه الانتفاضة، فقد قدمتهن جنبا إلى جنب مع الرجل دون انفصال أو تمييز، وجميعها كانت لقطات معبرة عن البهجة والإرادة والحيوية، والأعلام ترفرف عاليا، وذلك رغم قنابل الغاز التي لم تمنع المحتجين من مواصلة التظاهر، حتى جاء إعلان استقالة الحريري يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول، لتعم البهجة من جديد بين المتظاهرين.

نشوة الانتصار.. لحظة تفسدها مفاجآت بيروت الثقيلة

تتجاوز مي المصري حدود البهجة، لتتعمق أكثر وتكشف التناقض في الشعور بين حالتين، ما قبل الانتفاضة وأثناءها، فتقول إحداهن “أجمل أيام عشتها، لأنه أول مرة يحدث تغيير سياسي بسبب الشارع”.

هنا، ومن خلال تقنية المونتاج -الذي لعب دورا جوهريا بديعا في بناء تراكم سينمائي حيوي للخبرات والمشاعر بالفيلم- تعود المخرجة لتترك مساحة للبنات يتحدثن عن مشاعر ما قبل اندلاع الثورة، حيث “الخوف من الموت والجمود”.

وما بين ذلك الخوف وفرحة الانتفاضة والأمل في التغيير، يأتي فجأة وباء كورونا (كوفيد 19)، ليُصيب الانتفاضة في مقتل، لكن المخرجة لا تتوقف، بل تواصل التوثيق للحظة سينمائية بامتياز، لترصد الموت الذي خيّم على المدينة بعد أن تحوّلت إلى كتل حجرية تسكنها الأشباح، وذلك في مشهد مؤلم بصريا وحسّيا، ثم تتابع أخبار بطلاتها ومحاولاتهن في النجاة وفي الصمود أمام كورونا.

هكذا، ما بين اليأس والأمل تمر الأيام، لكن قبل المشهد المفجع في الختام تُمهّد المخرجة بلقطة بديعة ذات دلالة رمزية، وذلك حين تتابع كاميرتها رحلة سير لجين جو المصابة بكسر في كاحلها، فقد أصابتها قنبلة غاز أثناء الانتفاضة.

الآن تسير لجين في المدينة الخاوية، نرى ظلها الضخم على الأرض وهي تستند على عكازها، وكأنه تعبير عن حال المدينة التي سرعان ما سيضربها انفجار المرفأ المأساوي الشهير، ولنرى الفجيعة والحزن العميق يكسو وجوه وقلوب الفتيات الأربع.

إن “بيروت في عين العاصفة” ليس فقط شهادة سينمائية، لكنه مرثية يصعب نسيانها.