“بين الجنة والأرض”.. رحلة إلى الطلاق في الأراضي المحتلة

د. أمــل الجمل

يبدأ فيلم “بين الجنة والأرض” من لقطة تمثيلية لقصة حب تُوشك على أن تُغلق صفحاتها وتكتب نهايتها، إنها لبطلي القصة الزوجين “تامر” و”سلمى”، وهما في الثلاثينيات من العمر. أما تامر فما يزال مغرما بحبيبته، لكنها تُصرّ على الانفصال فيرضخ لطلبها، حيث يخرج من حمّام السباحة في بيته ليرتدي ملابسه، وذلك استعدادا للذهاب معها لإتمام إجراءات الطلاق، لكن سلمى لا تطيق الانتظار في المنزل فتجلس في سيارتها.

يُصرّ تامر على قيادة السيارة رغم عدم امتلاكه رخصة قيادة، فهو عنيد فيما يخصّ مظهره الخارجي أمام الناس، لكن في الداخل وبعيدا عن الناس يبدو الأمر مختلفا، فهو إنسان رقيق رومانسي حالم وانعزالي، فأشباح الماضي لم ترحل تماماً، بل لا تزال سجناً قابضاً على روحه.

تنطلق السيارة بهما على وقع موسيقى شديدة البهجة والفرح، وكأن الاثنين في طريقهما إلى الزفاف، وليس من أجل توقيع أوراق الطلاق، فهل تُولد الحرية من الانفصال؟ أم أن الرحلة التالية ستحمل مفاجآت أخرى ستساعد على تحرّر العاشقين من ماضيهما الذي كبّل علاقتهما بقيود نفسية مُريعة؟

بطلا القصة “تامر” و”سلمى”

 

فلسطين.. محطّ إلهام لقصص الحب

التساؤلات السابقة يُجيب عنها تتابع المَشاهد بفيلم “بين الجنة والأرض”، إنه ثالث فيلم روائي للمخرجة نجوى نجار المولودة بالعاصمة الأمريكية واشنطن لأب أردني وأم فلسطينية، حيث درست نجوى السينما في أمريكا، وبدأت حياتها بالأفلام الوثائقية، ثم عادت لتعيش في فلسطين، فهناك تكتب أفلامها وتُخرجها وأحيانا تُنتجها، لتتناول بها قضايا تمسّ عالمها وهويتها كامرأة فلسطينية، لكن عبر قصص الحب.

تنتمي إذن أفلام نجوى نجار إلى سينما المؤلف، فهل يُعد هذا أمرا مفيدا لها؟ أم أنه من الأفضل لها أن تُشرِك آخرين معها في الكتابة لتوسيع وتعميق الرؤية؟ فإذا كانت نجوى حققت نجاحا متفاوتا في تجربتيها الروائيتين السابقتين، ففي تقديري أن للأمر علاقة بكتابة السيناريو، حيث لقيت تجربتها الأولى “المُرّ والرمان” (2010) صدى واسعا وترحيبا نقديا وجماهيريا، ثم جاءت التجربة الثانية “عيون الحرامية” (2014) لتشهد تراجعا في الألق واقترابا من التجارية، مفتقدة كثيرا من وهج وبكارة التجربة الأولى، كما أن الاستعانة بالنجم المصري خالد أبو النجا أضر بالتجربة وأفقدها مصداقيتها.

المخرجة نجوى نجار

 

رحلة لاكتشاف الأعماق.. الشخصيات المرتبكة

في تجربتها الروائية الثالثة “بين الجنة والأرض” تصنع نجوى نجار فيلما سينمائيا ينتمي لأفلام الطريق، إنه فيلم يأخذنا معه في رحلة إنسانية محاولا استكشاف خبايا الأعماق، فهل ينجح؟

رغم حصول الفيلم على جائزة نجيب محفوظ لأحسن سيناريو بالمسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الـ41، ورغم الشراكة الدولية في التمويل (فلسطين وآيسلندا ولوكسمبورج)، فإن السيناريو فيه ارتباك فيما يخص البطلين الرئيسيين، فشخصية تامر تحظى بالنصيب الأكبر من هذا الارتباك وعدم البناء المنطقي، إذ تفتقد للتحليل النفسي المُعمّق.

الأجمل في الفيلم أنه أثناء تلك الرحلة يُتيح لنا التعرف على أناس آخرين، ومطالعة جغرافية لمكان قد لا نعرفه أو لم نسمع عنه من قبل، فالبطَلان يعيشان في الأراضي الفلسطينية، ولكي يُنهيا عملية الانفصال بشكل قانوني كان لزاما عليهما عبور نقاط التفتيش الإسرائيلية، والذهاب إلى مدينة الناصرة لاستكمال إجراءات الطلاق في إحدى المحاكم هناك.

سلمى وتامر في الناصرة

 

استحضار الماضي.. سرّ غير متوقع

ينجح الزوجان في الحصول على تصريح لمدة ثلاثة أيام، ثم ينجحان أيضا في اجتياز نقطة التفتيش الإسرائيلية، لكن مشكلة أخرى تبدأ في المحكمة عندما يُفاجِئ الموظف الزوجين بسرّ يقلب الأمور تماما، ويجعلهما يُواصلان الرحلة على مدار زمن الفيلم لفهم حقيقة هذا الاكتشاف غير المتوقع الذي يخصّ ماضي والد تامر.

يكتشف تامر أن اسمه في الأوراق الرسمية على جهاز الحاسوب تمير وليس تامر، فيبدو الأمر أكبر من مجرد خطأ في كتابة الأسماء، ومن ثم يرفض الموظف إتمام الإجراءات حتى يُحضر تامر أوراقا تُثبت تحركات والده، وآخر مكان أقام به قبل وفاته.

هنا يتردد الزوج الشاب في مواصلة البحث عن أوراق تخص والده وعنوان إقامته، ويُفكر في رفض فكرة الطلاق، فالتنقيب بالنسبة له يُعيد إليه ذكريات استشهاد والديه، والتي تتكرر مراراً بالفيلم بشكل مبالغ فيه، وكأن المخرجة تبتز مشاعر المتلقي.

 

استراحة في السجن

تُصرّ سلمى على البحث، وتبدأ الرحلة حتى تشتبك مع شخص ما، ليتم القبض عليهما ويحتجزا في غرفة حجز أحد السجون الإسرائيلية، ويكون المُنقذ والدا سلمى.

لكن عندما يخرج الزوجان لا يتحدثان عن مشروع الطلاق الذي هو الغرض الحقيقي من وجودهما في الناصرة، فسلمى تخاف على والديها، خصوصاً أن الأم حالمة بوجود حفيد، والأب المناضل والشيوعي السابق يُعاني الآن من آثار الزمن والمرض والعجز عن فعل أي شيء.

التفاصيل البصرية بكل ما تحمله من الإيماءات الجسدية ونظرات العيون تشي بقوة العلاقة الإنسانية بين سلمى ووالدها، لكنها لم تعد تتحمل ضعفه الحالي، مثلما ترفض تدخل والدتها في إدارة شؤون حياتها، لذلك تُفضل الابتعاد عنهما.

موسيقى المقابر.. لحظات تصوف على الطريق

يفتح الأب للزوجين مجالا للبحث، ويدلهما على شخصيات كانت تعرف والد تامر، والمرأة التي قِيل إنه ارتبط بها. تلك المرأة قيل إنها كانت شيوعية عراقية يهودية، ثم جاءت إلى فلسطين، وأنها كانت متعددة العلاقات.

وعلى الطريق بحثاً عن عنوانها يلتقي الزوجان بعدد من الشخصيات التي قد توحي بإضافات ذات دلالة، وتخلق تنوعا بصريا وسمعيا على مشهدية الفيلم، فهناك شاب صوفي يلتقي بهم عند المقابر يحب الغناء والموسيقى، حيث نشعر بالتواصل الإنساني بينه وبين سلمى، وفي ذات الوقت عبْر هذا التواصل نستوعب جزءا من الفجوة بين الزوجين التي جعلت سلمى تُصر على الانفصال لشعورها بأنها وحيدة، وأن تامر بالفعل منفصل عنها، ويقبع في عالمه الضيق.

حتى عندما يحاول الزوجان النقاش وتبادل أطراف الحديث فإن سلمى سرعان ما تغضب، لأن تامر يأخذ كل شيء تحكيه عن نفسها ويُحوّله للحديث عن ماضيه وشخصيته هو، وكأنه يغبطها على وجود والديها أحياء، بينما هي ناقمة على والديها وعلى زوجها غير المتفهم لمشاعرها.

تامر وسلمى

 

افتقاد التلقائية.. مشكلة تُحل بقُبلة

فنيا وفيما يخص السيناريو وبناء تفاصيل هذه الجزئية من العلاقة المرتبكة بين الزوجين؛ لم يكن البناء وتحليل الشخصيات مقنعا، وبدا مُفتعلا بعض الشيء، وذلك رغم جمال مشهد المقابر ورحلتهما مع الشاب الصوفي، وسبب هذه الثغرة الفنية أساسا هو بناء شخصية تامر، وذلك لما بها من عدم الصدق وافتقاد التلقائية.

على الطريق أيضا يلتقي الشابان بزوجين فرنسيين من اليهود تعطلت سيارتهما بينما كانا في الطريق. وللدقة فإن الفرنسيين كادا يتسببان في حادث مع سلمى وتامر بسبب تهوّر القيادة، لكنهما لا يمانعان بجرأة متناهية في أن يركبا سيارة الشابين دون أن يعتذرا لهما على الحادث الذي كادا أن يتسببا لهما به، ثم يطلبان منهما توصيلهما إلى المطار دون مراعاة لأي شيء غير تحقيق غاياتهما، وأثناء الطريق يتحدثان بأسلوب فظ عن تامر وسلمى، كل ذلك في رمزية متكررة في الفيلم تُلمّح لاغتصاب الأرض الفلسطينية وعقلية اليهود في تسخير العباد والبلاد في تحقيق غاياتهم.

أثناء الطريق يثرثر الزوج الفرنسي وتعاتبه زوجته لأنه آمن بهذين الفلسطينيين لإيصالهما إلى المطار، فنتابع بهدوء سلمى وهي تتأمل علاقة الزوجين الفرنسيين، والتي تكشف بوضوح غياب التفاهم والتواصل بينهما وخلافهما الشديد، لكنهما مع ذلك مستمران في الحياة سويا، ويحلّان مشكلاتهما بقُبلة.

 

“لقد تمت التضحية بي لكي تعيش أنت”.. الهوية اليهودية أولا

يصل الزوجان الشابان إلى بيت المرأة المقصودة، فتصعد سلمى أولا، حيث نراها باللونين الأبيض والأسود من خلال كاميرا المراقبة، وهناك تلتقي بشاب في عمر زوجها تقريبا، إنه تمير الذي يُعاملها بعنف وعجرفة شديدة، كما تجد سلمى على أحد الأركان صورة لجدة تامر، فتقوم بسرقتها فتُطرد.

لكن بعد أن تُدرك أن تمير هو الأخ غير الشقيق لتامر، والذي من أجله ومن أجل بقائه على قيد الحياة، ومن أجل حصوله على الهوية اليهودية والحصانة والأمان؛ كان على الأم العراقية أن تبيع زوجها -والد تامر- وتشي به هو ورفاقه المناضلين الذين تم اغتيالهم في واقعة مشهودة.

إذن في النهاية وإن بشكل ملتبس وغير واضح؛ نكتشف أن المناضلة الشيوعية العراقية انتصرت لهويتها اليهودية ووشت بالرفاق، فضحَّت بالزوج أيضا لأجل ابنها الذي كان يحمل هوية مزدوجة، فنصفه فلسطيني ونصفه عراقي يهودي، لذلك يقول أخوه تامر له: لقد تمت التضحية بي لكي تعيش أنت.

فريق عمل فيلم “بين الجنة والأرض” في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي

 

إنساني خفيف لطيف.. لكنه غير مُبهر

يبدو الفيلم بالمجمل جيدا وإنسانيا ومتنوعا، فيه مشاهد لطيفة خفيفة الظل وإيقاعه متوازن، لكنه لا ينتمي للأعمال الرائعة أو المبهرة، كما أن الخطوط السياسية به مرتبكة بعض الشيء وغير واضحة، وتحتاج من المرء أن يكون مُدركا لما حدث في أرض الواقع حتى يستوعب تفاصيل مشهد المواجهة بين تامر وتمير.

في المسابقة الدولية في مهرجان القاهرة السينمائي كانت هناك أفلام أخرى أجود سينمائيا وفنيا، وأهم من فيلم “بين السماء والأرض”، وتستحق جائزة السيناريو، لكن كالمعتاد تقفز قضية فلسطين وتقتنص الجوائز في أغلب الأحوال، فقط لأنها تتحدث عن فلسطين وأهلها، بينما القليل جدا منها هو ما يستحق الجوائز بالفعل، ومنها تحفة إيليا سليمان الأخيرة “إن شئت كما في السماء”.