تجارة الدم

قيس قاسم

من دون حماسة زائدة يمكن وصف “تجارة الدم” بالوثائقي العنيد والمعاند لقبول الظواهر كما هي، الميّال للبحث من داخلها، حتى لو أحدث زعزعة غير مريحة لقناعات طيبة يريد البشر التشبث بها ولا يميلون إلى خدشها. وداعة لا يتوافق معها عمل السينمائي الاستقصائي المعني بهزها وصولاً إلى الحقيقة، مثل تلك المتعلقة بفعل إنساني رائع كالتبرع بالدم. فهل ينظر إليه الناس وفي كل مكان كعمل خير تُنقذ بفضله أرواحاً، لكن الكثير منهم ربما لا يعرفون أن الدم المُتبرَع به يذهب أكثره ـ لا إلى المرضى ـ بل إلى شركات صناعة الأدوية لتصنع منه عقاقير غالية الثمن، الأغنياء هم من يستطيع دفع أثمانها ليتحول “الدم” بذلك إلى تجارة يجني منها قلة أرباحاً هائلة، ويُسبب طلبهم المتزايد عليه في مخاطر صحية ومعاناة لفقراء يضطرون لبيع دمائهم مقابل مبالغ بسيطة تمنع موتهم جوعاً وبذلك يخلقون معادلة جديدة منطوقها التالي؛ على حساب صحتهم، دماء الفقراء تُنقل إلى عروق الأغنياء ليعيشوا أطول! تلك المعادلة كتبها وأعاد صياغتها سينمائيا المخرج السويسري Pierre Monnard، بعد بحث وتقصي أوصلاه إلى نتائج مذهلة، رغم محاصرة الشركات وأصحابها له وعدم تعاونها معه، تمكن بعناده من الإحاطة بـ “تجارة” غير منظورة خامتها الأساس: بلازما الدم.

أن الدم المُتبرَع به يذهب أكثره ـ لا إلى المرضى ـ بل إلى شركات صناعة الأدوية لتصنع منه عقاقير غالية الثمن.

مع إدراكه أهمية تجنب الغور في المسائل العلمية المحضة، إلا أنه كان مجبرا على الدخول فيها بحكم الموضوع الذي اختار بحثه، الشديد الصلة بالمعارف الطبية، حاول صانعه خلق توازن بينها وبين بقية العناصر البشرية المتنوعة التأثير فيه. تجاربهم ومعارفهم وقوة تعاونهم معه أغنت الجانب الاستقصائي في فيلمه وصار مُشاهده على دراية بتفاصيل ما يقدم على الشاشة. أراد بالتوازن بينها كشف ما حاول أصحاب شركات الأدوية العملاقة التستر والتغطية عليه لعقود، وفضح أسباب نجاحهم في إبعاد الشكوك حول استغلالهم كرم البشر وتحويله ربحاً مادياً لهم دون درايتهم. للتأكد من غفلتهم وطيب نواياهم يلتقي الوثائقي في مفتتحه بمجموعة من المتبرعين السويسريين. بعضهم صار معروفاً لعيادات “التبرع بالدم” لكثرة وانتظام منحهم مجاناً أغلى سائل يجري في عروقهم. على الجانب الثاني يُعَرف الوثائقي مفهوم “الدم” علمياً ويعرض مكوناته مركزاً كثيراً على المادة البروتينية فيه؛ البلازما، بوصفها الناقل الحيوي لمحتوياته إلى بقية أعضاء جسم الإنسان ولأن شركات الأدوية تريده وتريد المزيد منه، لندرته ولدخوله في تركيب أغلى أدويتها على الإطلاق!

يُعَرف الوثائقي مفهوم "الدم" علمياً ويعرض مكوناته مركزاً كثيراً على المادة البروتينية فيه؛ البلازما.

على صحفيين اثنين اعتمد “مونار” في جلب المعلومات إليه وفي إجراء المقابلات وإليهم أوكلت مهمة الدخول إلى العيادات والمستشفيات والشركات. خبرتهما كبيرة في حقل الإستقصاء وقدرتهما على المراوغة والانسحاب في الوقت المناسب من المواقف غير المرغوب التعرض اليها جيدة، لهذا ورغم فشلهما في مقابلة أي من أصحاب شركات الأدوية العملاقة المتجارة بالبلازما إلا أنهما تمكنا من فضحهم بطريقة لبقة، غير مباشرة عبر تسجيلهما طريقة الرفض الخشنة والخوف الشديد من أسئلتهم الذكية. عليها بنى الوثائقي جزء مهم من معماره ومنها انطلق لمعرفة الأساليب، التي يحصل عبرها أصحاب الشركات على الدم. واحدة من الحقائق المحزنة؛ إن المتبرعين لا يكترثون بالسؤال عن تفاصيل ما ستؤول إليه عطاياهم. فهم على قناعة كاملة من ذهابها الى المرضى ومن إنقاذها أرواحاً. حتى الاستمارة التي يملأونها لا يقرأونها جيداً ولا يدققوا في الفقرة الخبيثة المبهمة فيها، التي تمنح ضمناً الجهات المستلمة دمهم حق “استخدامه لأغراض أخرى”. عبارة شديدة الخطورة تفتح الباب واسعاً أمام إمكانية نقل الدم من أجسادهم إلى مواقع أخرى لا يعرفون عنها شيئاً. الحقائق تقول: ثمانون بالمئة من مجموع ما يُنقل من بلازما الدم إلى المستشفيات وهيئة الصليب الأحمر وغيره من المؤسسات والمنظمات الصحية، يباع إلى شركات الأدوية والنسبة القليلة المتبقية منه تذهب إلى المرضى، أما ما تشتريه الشركات مباشرة من باعة الدم فيصبح بأكمله ملكاً لها.

على صحفيين اثنين اعتمد "مونار" في جلب المعلومات إليه وفي إجراء المقابلات وإليهم أوكلت مهمة الدخول إلى العيادات والمستشفيات والشركات.

ستقود زياراته المتكررة لمختبرات المستشفيات السويسرية إلى اكتشاف شكلانية التدقيق في مصادر الدم الواصل إليها، وكيف أن الشركات وبتعمد تدخلت في وضع آلية تسجيل “هلامية” تُبقي تدفقه مستمرا وتُبعد أي شكوك حول طريقة الحصول عليه. المختبرات بدورها تكتفي بالإشارة إلى المكان الذي جاء منه الدم، وهي على قناعة بأنه وصل إليها عبر التبرعات، في حين ��حلة الوثائقي إلى مدينة كليفلاند الأمريكية تقول العكس تماماً. من بين المفارقات الصارخة في المشهد الأمريكي؛ الظهور العلني لشركات أوربية عملاقة في المدينة مثل؛ “سي أس أل”، “غريفولز” و”أوكتوفارما”. كل واحدة منها تقدر حجم مبيعاتها السنوية بالمليارات. تدفق بائعو الدم من فقراء المدينة عليها لا يتوقف والطوابير لدخولها تمتد مئات الأمتار. الولاية الأمريكية المتأثرة سلباً بالأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨ وارتفاع نسبة البطالة فيها يدفع الكثير من سكانها لبيع دمائهم للشركة مقابل مبلغ بسيط من المال وهو وحده من يمنع تشردهم، وعليه تحولت الجهة الماصة لدمائهم إلى معين لهم في ظلّ غياب الدولة وقلة رعاياتها لهم. على مستوى الخصوصية المشجعة للمتجارة بالدم؛ سماح القوانين الأمريكية ـ عكس أوروبا، باستثناء ألمانيا ـ بحصول المتبرع بالدم على مبلغ مالي مقابل. كُلُ من التقوا بهم سخروا من كلمة “تبرع” واستبدلوها بكلمة “بيع”. فهم يبيعون حقاً ما يجري في عروقهم ومنهم ينتقل إلى أوروبا وبقية الدول الغنية. لا تكتفي الشركات بشراء الدم بل بتحويله إلى عملية تجارية بنكية صرفة، عبر تأسيسها مصرفاً مالياً خاصاً بها، يصدر “بطاقة ائتمانية” تتم عمليات تحويل مبالغ بيع البلازما عبرها، مثلها مثل بقية البطاقات البنكية المعروفة! تسهيلات جعلت أمريكا البلد المصدر الأول للبلازما، حيث تشكل صادراتها منه ما يقارب ٧٠٪ من المجموع العالمي.  

المختبرات بدورها تكتفي بالإشارة إلى المكان الذي جاء منه الدم، وهي على قناعة بأنه وصل إليها عبر التبرعات.

تفتح مراكز الشركات العملاقة وطريقة عملها الطريق أمام  قصص وموضوعات فرعية جديدة، يتمسك بها الوثائقي ويذهب لعرضها بأسلوب سهل، يقبل الانفتاح على ما يظهر وسط الطريق بروح تتناسب مع طبيعته المعاندة والفضولية. من حال المواطن الأمريكي الفقير المعتمد على بيع دمه رصد ارتباطا بينه وبين انتشار تجارة المخدرات في محيط شركات الأدوية. فالتجار وجدوا في آلية البيع والشراء مبتغاهم فراحوا يبيعون المخدرات للمدمنين عليها مقابل تشجيعهم لبيع دمائهم لتسديد أثمانها، عملية سهلة أغوت الكثير من الشباب على شراء المخدرات، حتى لو كانوا لا يملكون مالاً لشرائها. فالدم الرخيص يعوض ما ينقصهم. سهولة المقايضة جلبت معها مخاطر جدية مثل؛ نقل أمراض خطيرة عبر الدم مثل؛ التهاب الكبد الفيروسي ونقص المناعة المكتسبة “أيدز”. كل ما قيل لهم عن الرقابة كذّبه الوثائقي، يوم راح يصور من بعيد، بعد منعه الدخول إلى المراكز، اجراءاتها الوقائية المتخذة عند أخذ الدم. ظهر أن كل ما كان يقوم به موظفوها لا يتعدى قياس ضغط دم “المتبرع” خوفا من سقوطه مغميا عليه وبالتالي يؤثر على آلية سحب دمه.

ذهب الوثائقي ليراجع أسباب فضيحة نقل الدم المحمل بفيروسات مرض نقص المناعة المكتسبة، التي شهدتها البلاد عام ١٩٩٠ وأدت إلى موت العشرات من سكانها.

من ذلك الإهمال تقرب أكثر، بعد مقابلته علماء وبيولوجيين وأطباء، من مشكلة كونية محتمل ظهورها ارتباطا بنقل الدم دون رقابة حكومية من مواطني دول بعيدة إلى أخرى تستقبله وتنقله إلى مختبراتها مباشرة. إلى فرنسا ذهب الوثائقي ليراجع أسباب فضيحة نقل الدم المحمل بفيروسات مرض نقص المناعة المكتسبة، التي شهدتها البلاد عام ١٩٩٠ وأدت إلى موت العشرات من سكانها. أكد مختصوها حقيقة كون الدم الملوث كان منقولاً من خارج فرنسا واليوم في ظل ما شاهدوه من تسجيلات عرضها الوثائقي عليهم أكدوا احتمال تكرارها وربما بحجم أكبر إذا ظلت آلية بيع وشراء الدم تجري وفق مصالح شركات لا دول ومؤسسات رعاية اجتماعية مسؤولة. من بين ما نبهوا إليه احتمال نقل فيروسات جديدة غير معروفة للعلماء، يصعب التخلص منها أثناء عمليات “التنظيف” العادية. تلك المخاوف دفعت الصحفيان إلى زيارة شركة “أوكتافارما”. لم تفتح لهما أبوابها ونادت الشرطة لإبعادهما عنها. لم يستسلما وقررا الذهاب إلى صاحبها الساكن في أرقى أحياء العاصمة السويسرية. نفس الشيء تتكرر معهما؛ جاءت الشرطة ثانية لتبعدهما منه. أسئلتهما ظلت قائمة وبحثهما استمر لمعرفة السر وراء سكوت الحكومات الأوروبية عما يجري رغم جدية المخاطر التي تحملها عملية شراء البلازما الرخيصة من أسواق غير محلية وعبر أطراف مستفيدة منها تجارياً؟

على الحكومات الأوروبية بخاصة، كونها المستورد الأكبر للبلازما الرخيصة اخضاع عملية نقلها محلياً وخارجياً لرقابة حكومية مشددة.

في فضيحة “مصاص الدماء” الاسم، الذي أطلقته الصحافة البرازيلية على رئيس الوزراء البرتغالي السابق “خوسه سقراط”، وجد الجواب. فقد كشفت تحقيقات أجهزة الشرطة عن استلامه، يوم كان يعمل مستشارا في العاصمة البرازيلية، من شركة “أوكتافارما” رشاوى مقابل تسهيله عملية نقلها البلازما الرخيصة من البرازيل إلى البرتغال، ودون خضوعها لرقابة صحية كافية. مع كل الحقائق الداعمة إدانته بالجرم فلت من التهمة والشركة نفسها ما زالت تعمل في البرازيل. أما عقوبة صاحبها المليونير فكانت: دفع تكاليف المحاكمة والمعاملات القضائية المرتبطة بها. بعد اتضاح ذلك الجانب من المعادلة عاد الوثائقي الشجاع ليتابع ما ينبغي عمله: على الحكومات الأوروبية بخاصة، كونها المستورد الأكبر للبلازما الرخيصة اخضاع عملية نقلها محلياً وخارجياً لرقابة حكومية مشددة وفي المنظور البعيد عليها منع خصصتها وحصرها بالمستشفيات الرسمية! هل سيتحقق ذلك؟ أمر تركه الوثائقي مفتوحاً للملاحقة والتدقيق!