تدفق بشري: ملحمة اللاجئين

أمير العمري

صور الفيلم في 23 دولة، وشمل أكثر من 40 معسكرا من معسكرات اللاجئين في العالم.

عرض بمسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي الفيلم الوثائقي الطويل “تدفق بشري” Human Flow (140 دقيقة) الذي أخرجه فنان الفيديو والمصمم الفني الصيني “أي وي وي” المعروف على المستوى العالمي، ليس فقط بسبب مشاركاته ومعارضه الفنية المتميزة بل وأيضا لمواقفه الكاشفة المعارضة ضد تجاوزات حقوق الإنسان في الصين، فهو إلى جانب نشاطه الفني، ناشط سياسي، سبق اعتقاله من قبل السلطات الصينية وظل لفترة ممنوعا من مغادرة البلاد.

أي وي ويِ Ai Wei Wei يتجه مدفوعا باهتمامه بالقضايا الإنسانية المعاصرة كما تبدى في أفلامه السابقة، لصنع هذا الفيلم الكبير عن أكبر مشكلة تواجه العالم في وقتنا الحالي وهي مشكلة اللاجئين والهجرة التي توصف بأنها “غير شرعية” من بلاد الجنوب إلى بلاد الشمال، ومن الشرق إلى الغرب. والنتيجة أننا أمام عمل شديد الطموح، صوره مخرجه في 23 دولة، وشمل أكثر من 40 معسكرا من معسكرات اللاجئين في العالم.

بلحيته المشعثة التي خطها الشيب، ومظهره الذي يجعله يبدو ككهل في الستين من عمره، يتجول الفنان الصيني، يسافر وينتقل ويكافح ويتغلب على ضعف صحته، من أجل بلوغ المناطق الصعبة، يختلط باللاجئين أثناء محاولاتهم التسلل عبر الحدود، يقف في انتظار قواربهم على شاطئ لامبيدوسا الإيطالية يقدم العون للناجين، رجال الإسعاف ينتشلون من تمكنوا من النجاة من الغرق من أحد القوارب، يسير بين جموع اللاجئين السوريين في جزيرة ليسبوس اليونانية، يتجول وسط أولئك الذين يقيمون في الخيام في معسكر اندوميني على الحدود بين اليونان ومقدونيا، لا يعرفون إلى أين سيذهبون بعد ذلك، يصور تصدي الشرطة لمحاولاتهم الفرار من ذلك “المعتقل” المهين، يصور ثورات غضبهم واحتجاجهم على سوء المعاملة وقلة الطعام وما يتعرضون له من تهديدات بالترحيل القسري، يتوجه إلى لبنان والأردن (حيث يعيش مليونا فلسطيني ومثلهم من العراقيين والسوريين) ثم إلى غزة المكتظة والعراق (حيث يوجد أربعة ملايين لاجئ مشرد في الداخل)، يرصد تدمير الشرطة الفرنسية لما عرف بـ”الغابة” في معسكر ميناء كاليه الفرنسي، ثم يصور ما أصبح عليه معسكر آخر للاجئين قرب برلين، ثم يسبر أغوار العيش الصعب والحياة القاسية التي يعيشها اللاجئون من مسلمي الروهينغا في بنغلاديش، ثم ينتقل إلى معسكر في كينيا يزدحم بالمشردين الفارين من الصومال، ثم إلى الحدود الأمريكية- المكسيكية حيث يرصد وجود الآلاف الذين دمرت منازلهم وانتهكت كرامتهم. يرحل وي وي أيضا إلى تركيا حيث يوجد نحو نصف مليون لاجئ كردي مشرد، يتوقف أمام من أجبروا على ترك منازلهم في العراق بعد سيطرة مقاتلي تنظيم الدولة واستيلائه على منازلهم. إنها رحلة هائلة تصور “أبوكاليبس” القرن العشرين.

أي وي ويِ Ai Wei Wei يتجه مدفوعا باهتمامه بالقضايا الإنسانية المعاصرة كما تبدى في أفلامه السابقة

فوضى الأماكن في العالم جعلت اللاجئين الأفغان الذين يعودون في شاحنات إلى ما يسمى بـ”المناطق المحررة” في بلادهم، لا يعثرون على منازلهم وأراضيهم التي استولى عليها آخرون. فتيات غزة اللاتي يضحكن رغم المأساة، تتحدثن عن رغبتهن في التمتع بما يتمتع به الأحرار في العالم، من حرية في السفر والانتقال، ورؤية العالم الخارجي، وكيف أنهن يعشن داخل “سجن كبير”.

يظهر الفنان الصيني الكبير بنفسه في الفيلم، لا كنوع من تأكيد الحضور في المشهد، بل من أجل أن يقترب من الموضوع، من البشر، يصادق الأطفال يلعب معهم، يلتقط صور “السيلفي” مع الشباب، يبادل جواز سفره الصيني بجواز سفر شاب من اللاجئين السوريين في ليسبوس، ويتصور ماذا يمكن أن يحدث له بعد ذلك.. يلتقط الصدف مع الأطفال من على شاطئ الجزيرة، يصبح تدريجيا في قلب الموضوع، فهو يريد أن يعيش ولو لأيام، مع فريق تصويره، حياة اللاجئين، يشعر بما يشعرون ويتعرض لما يتعرضون له. إنه بالتالي جزء عضوي من الفيلم.

ينقسم فيلم “تدفق بشري” إلى أقسام عدة، حيث تظهر عناوين مكتوبة تشير إلى الأماكن المختلفة التي ينتقل إليها فريق التصوير، ثم تظهر على الشاشة، على كل فصول الفيلم، أبيات لشعراء من بلدان ولغات مختلفة.. يتخذ الفيلم أسلوبا تعليميا، فتظهر بين آونة وأخرى، بعض المعلومات والبيانات والإحصاءات على الجزء الأسفل من الصورة، تعويضا عن غياب التعليق الصوتي التقليدي.. يلتقي المخرج ويجري لقاءات مصورة مع عشرات الشخصيات سواء من اللاجئين أنفسهم أو من المسؤولين والنشطاء والعاملين في منظمات الإغاثة الدولية وغيرهم. يرى أي وي وي أن مشكلة المشردين الذين تركوا ديارهم هربا من الحروب والمجاعات والاضطهاد العرقي والديني والسياسي في بلدان عديدة، هي المشكلة الأكبر من نوعها منذ مأساة المشردين في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، فقد بلغ عدد المشردين على المستوى العالمي حاليا 65 مليون شخص.

في فيلم من هذا النوع، تم تصويره تحت ظروف بالغة القسوة والخطورة، لا تكون الصورة دائما على المستوى الاحترافي المطلوب، فالمخرج يستخدم اللقطات التي صورت بكاميرا الهاتف المحمول أحيانا لأنها كانت الوسيلة الوحيدة لاقتناص الصور وقت وقوع الحدث، كما يستخدم الكثير من المقاطع المأخوذة من برامج ونشرات الأخبار التليفزيونية الأميركية والبريطانية وغيرها.

إلى جانب نشاطه الفني، يصنف المخرج على أنه ناشط سياسي، سبق اعتقاله من قبل السلطات الصينية وظل لفترة ممنوعا من مغادرة البلاد.

وهو يستخدم أيضا الحركة الحرة للكاميرا، في التجول بين التجمعات البشرية داخل المخيمات، يجوس بين تضاريس الطبيعة القاسية في بعض المناطق، ولكنه يلجأ كثيرا إلى التصوير من الجو، من طائرة من دون طيار، يتطلع من زاوية عين الطائر العمودية إلى ما يحدث في الأسفل، أي في الأرض، وكأنه يجرد الصورة ويجعل محتواها يبدو كما لو كانت نتيجة للقدر نفسه، لقوى أكبر منها، تراقب وتتطلع من بعيد، من خارج المحيط، في صمت. لكنه من جهة أخرى يبدو مستندا لما يقوله عالم الفضاء السوري محمد فارس الذي يظهر في بداية الفيلم بعد أن أصبح لاجئا في تركيا، فهو يخبره كيف أنه عندما كان يتطلع من الفضاء إلى كوكب الأرض كان يرى في كل كائن إنساني كيانا فريدا متميزا، أما الآن ومن على سطح الأرض، فلم يعد هناك سوى كتلة لا اعتبار لها.

على الرغم من قتامة الموضوع وما يشعر به المشاهد من حزن نبيل وهو يشاهد تعاقب الصور، وتغير الأماكن، ويدرك مدى ما وصلت إليه المأساة، هناك بعض لحظات المرح في الفيلم، حينما يتشارك اللاجئون المشردون في اللهو واللعب ومشاهدة المناظر الفريدة من خلال الهواتف المحمولة. لكن المأساة الإنسانية لا تغيب عن البال، وسرعان ما يحل الشعور بالسجن الكبير الذي أصبح يضيق بالبشر في العالم.

على الرغم من كل القيود فقد أصبح أمامنا عالم جديد يتشكل.. لم تعد هناك حدود فقد تم تحطيمها بالخروج الكبير، بالتدفق البشري الهائل، ولم يعد ممكنا أن يعود العالم إلى ما كان عليه من قبل. ولكن الفيلم يؤكد أيضا أن من يحاربون اللاجئين ويحاولون صدهم ولو بالقوة هم أول من تسببوا في وقوع هذه المشكلة وبهذا الحجم.

يظهر الفنان الصيني الكبير بنفسه في الفيلم، لا كنوع من تأكيد الحضور في المشهد، بل من أجل أن يقترب من الموضوع.

هدف الفيلم ليس دفع المشاهدين إلى الاحتجاج على المعاملة غير الإنسانية التي يلقاها عشرات الآلاف من البشر: الأمهات والأطفال، الشيوخ والشباب والرجال والفتيات. إنه يدعوهم بالطبع إلى المعرفة والبحث والتأمل، وفهم طبيعة ومستوى الأزمة لعل نظرتهم تتغير إلى هؤلاء. ويتردد في الفيلم نقاش حول دلالة كلمة “اللاجئ” وما يمكن أن يؤدي إليه الإلحاح من أجل ترسيخ هذا المفهوم، أي وصم كيان إنساني كامل بأنه مجرد “لاجئ” أي تجريده من صورته الإنسانية، من تاريخه وذاكرته، وحرمانه من ماضيه والمصادرة على مستقبله.

لا يسير فيلم “تدفق بشري” ضمن خطة بناء واضحة المعالم، تنتقل منطقيا بين التنوع البشري الكبير الذي يضمه الفيلم، بل يصنع المكان وحدة المشهد، وما التنوع في الأماكن سوى وسيلة لعرض الصورة من كل زواياها وجوانبها، والتأكيد على فكرة أن العالم واحد، وأن الانسان أيضا واحد مهما اختلفت الأماكن، واختلفت السحن واللغات، فالمطلب الإنساني واحد على هذه الأرض التي نشترك في العيش عليها جميعا.

إننا أمام ملحمة كبيرة للهجرة، للانتقال، لتكسير الحدود، لخلق عالم جديد، يجب أن يقوم على الفهم المشترك والتعايش المشترك، والاستيعاب لا الحرمان، والتفهم لا المصادرة والحظر. ترتبط هذه النظرة بمنظور المخرج صانع الفيلم نفسه، الذي يتجاوز حدود بلاده، وكان دائما يتطلع لمخاطبة الإنسان والتعبير عن همومه ومشاغله وآلامه ونقلها للعالم. لقد سبق أن صور أي وي وي في 2004 فيلما شهيرا عن أطول شارع في بكين يقطعه بالعرض، وهو شارع شانغان الذي يبلغ طوله 45 كيلومترا، وكان يتوقف أثناء التصوير بعد كل خمسين مترا ليلتقط لقطة ثابتة لمدة دقيقة. وكان الفيلم الذي يبلغ زمن عرضه أكثر من عشر ساعات، يرصد كل ما يقع على جانبي الطريق من أعمال وورش ومساكن وتجمعات بشرية وفوضى اجتماعية.

تقول المعلومات المنشورة إن نحو ألفي فني وتقني اشتركوا في العمل في فيلم “تدفق بشري”، ويقول المخرج- الفنان في تصريحات لمجلة “فاريتي” إن اهتمامه بموضوع اللاجئين جاء بسبب إدراكه كيف أسيئت معاملة هؤلاء الناس، وأهملوا وأصبحوا مشردين في العالم. وأضاف “أنا أعرف معنى أن يتم تصنيفك كخارج عن القانون. إن تشريد البشر الحادث الآن هو الأكبر من نوعه منذ الحرب العالمية الثانية، إنه مشكلة كونية، وهي مشكلة تختبر قدرة البلدان النامية على الالتزام بحقوق الانسان. إنني أود أن أفهم كيف تتم حماية هذه القيم التي تعتبر من أسس الديمقراطية والحرية، وكيف تنتهك”.