“تربية مُطلق النار في المدرسة”.. عزلة الخوف من العار تحاصر آباء القتلة

انقلبت حيواتهم في لحظة وتحولت إلى كوابيس لم يخرجوا منها حتى اليوم، هم آباء وأمهات مراهقين أمريكيين أطلقوا النار في مدارسهم، وقتلوا وجرحوا زملاء ومُدرّسين لهم في حوادث من التي نسمع عنها بين الحين والآخر في الولايات المتحدة الامريكية، والتي لا يبدو أنها ستتوقف قريبا.

الفيلم التسجيلي “تربية مطلق النار في المدرسة” (Raising a School Shooter) هو للمخرجتين “لاسي باركفورز” و”فريدا باركفورز”، وقد عرض ضمن الدورة الماضية من مهرجان إدفا للسينما التسجيلية في العاصمة الهولندية أمستردام، وهو يحقق سبقا مهما في إقناع ثلاثة من والدي مطلقي النار للحديث للفيلم، فقد كان من الصعب والمعقد دائما إقناع هؤلاء الحديث للإعلام، إذ اختاروا الانعزال والابتعاد بسبب العار والخوف من ردود أفعال المجتمع على ما اقترف أبناؤهم.

قبل أن يبدأ الزمن الفعلي لهذا الفيلم التسجيلي تضعنا مخرجتاه أمام أرقام صادمة تخص حوادث إطلاق النار في المدارس الأمريكية، فهناك 1677 حادثة منذ عام 1970 ذهب ضحيتها 598 شخصا، وجرح 1628 آخرون.

ما يفعله الفيلم بجودة كبيرة هو انتقاء ثلاثة من هذه الحوادث ويوجه عليها عدسته، وبالخصوص على والدي المراهقين الذين أطلقوا النار (كلهم من الذكور)، ويحاول عبر مقابلات مع عوائلهم سبر أغوار ذهنيات مطلقي النار لمحاولة فهم هذا التصرف الشاذ المأساوي الذي ما زال يحيطه الكثير من الغموض.

تغطية الوجوه.. دخول حذر إلى عوالم الشخصيات

بهدوء وحذر يدخل الفيلم إلى عوالم شخصياته الثلاث (أبوين وأم)، وكأن الكاميرا التي لا تُظهر وجوه هذه الشخصيات مباشرة تحاول أن تراعي مشاعرهم ورغبتهم في المحافظة على خصوصياتهم التي انتهكت إعلاميا بعد الحوادث الدموية.

تلتزم الكاميرا بمسافة مع أُمّ الفتى “ديلان” (أطلق النار في مدرسته في عام 1999 وقتل 12 وجرح 24 طالبا في حادثة تُعد هي الأعنف في تاريخ هذه الحوادث)، فيما يأتي صوتها المتعب وهي تستعيد الدقائق الأولى لسماعها خبر إطلاق النار في مدرسة ابنها القريبة من بيتها، وبعدها الخبر الصاعق بأن ابنها وصديقا له يقفان خلف الحادثة.

تقول أم “ديلان” عندما سمعت بأن “ديلان” هو الفاعل، وشاهدتُ سيارات الإسعاف تنقل القتلى والجرحى” من أمام المدرسة تمنيت في سرّي بأن يكون “ديلان” قُتل أيضا في الحادثة. هكذا تكشف أم “ديلان” للفيلم التسجيلي، وكيف أن الدقائق الأولى لسماعها بالخبر كانت جحيما لا يمكن وصف قسوته.

أُمّ الفتى “ديلان” الذي أطلق النار في مدرسته عام 1999 تمنت حين سمعت الخبر أن يكون ديلان قد قُتل أيضا

لا تختلف كثيرا تجربة والد “آندي” عن والدة “ديلان”، فهو أيضا سمع بإطلاق النار في مدرسة ابنه، وذهب إلى هناك ليستطلع لأنه كان قلقا كثيرا على ابنه، ليكتشف بعدها أن “آندي” هو الذي أطلق النار (قتل ثلاثة طلاب وجرح 13 في مدرسته عام 2001)، بل إنه سرق مسدس والده الشخصي من أجل خطته، وهو المسدس الذي كان يحتفظ به والده من أجل حماية بيته المنعزل.

أما والد “نيكولاس” (قتل في عام 1988 مدرسا في مدرسته وجرح آخر)، فقد شاهد عملية القبض على ابنه على شاشة التلفزيون بالصدفة، واتصل حينها بطليقته والدة “نيكولاس”، ليخبرها بأن ابنهما ربما يكون مشتركا في حادثة إطلاق نار.

استرجاع لذكريات تعيسة.. كابوس الحادثة يُسيطر على الإعلام

ينتقل الفيلم من مشاعر الصدمة الأولى لشخصياته إلى استعادة الأيام والأشهر الأولى من الحوادث، وبالخصوص الهوس الإعلامي بقصصهم، والذي بدأ بعد الحادثة مباشرة واستمر لسنوات.

يتذكر والد “آندي” تلك الأيام بحزن كبير قائلا: أخبرني الشرطي الذي كان يحقق معي بخصوص سلاحي الذي استخدمه “آندي” بأن أغطي وجهي حال خروجي من مركز الشرطة، إذ أن هناك عشرات الكاميرات بانتظاري.

أُمّ “ديلان” تسترجع ذكريات الحادث الأليم الذي أضحى كابوسا على حياتها، فقد خسرت ابنتها الذي انتحر كذلك

أما أُمّ “ديلان” فتسترجع ذكريات تلك الأيام بتعاسة بدت واضحة على وجهها، فقد تواصل الكابوس الذي شكلته الحادثة لسنوات، كما خسرت فيها ابنها الذي انتحر بعد أن أطلق النار على زملائه، إذ ساد الغضب المجتمع الصغير الذي كانت تعيش فيه، وكان من أولياء الطلاب الذين قتلوا من يبحثون عن مسؤول عن الحادثة، ورفعوا دعوات قضائية على المدرسة ووالدي “ديلان” أنفسهم، ويتهمونهم فيها بشتى التهم.

لا تختلف كثيرا تجارب والد “آندي” بعد حادثة ابنه، إذ كانت النظرات الغاضبة تلاحقه في كل مكان يذهب إليه، وواجه عنفا جسديا من شباب في المتجر الذي يتسوق فيه.

لم يتحمل الأمريكي المطلق الذي كان يعتني بابنه بمفرده بعد طلاقه من زوجته عداء الناس والجيران من حوله، وقرر الانتقال إلى مدينة وولاية جديدة والبدء مجددا من هناك.

صراع الندم والغضب.. هواجس الشخصيات الذاتية

في ثلث الفيلم التسجيلي يركز الإخراج على مشاعر شخصياته وهي تستذكر حياة أبنائها قبل الحوادث، وكيف كانت، وإذا كان الأبوان والأُمّ قد غفلوا عن إشارات توحي بسلوك عدواني سيتطور إلى ما وصل إليه.

لا تخفي أُمّ “ديلان” ندمها لأنها ربما أهملت إشارات خاصة عن ابنها وعن انعزاله في السنوات الأخيرة قبل الحادثة. أما والد “آندي” فهو نادم أيضا لأنه لم يتعامل بحزم مع التنمر الذي عانى منه ابنه في المدرسة، وكان السبب الذي جعله يطلق النار على المتنمرين منه (التنمر هو أحد الأسباب المهمة لحوادث إطلاق النار في المدارس الأمريكية).

أبو نيكولاس يحمل في وجهه الندم والغضب على ما حدث مع ابنه

لم يكن باستطاعة والد “نيكولاس” عمل الكثير، إذ انتقل ابنه مع والدته إلى ولاية أخرى بعد طلاقهم، وحتى عندما كان يسمع شكاوى ابنه عن طريق الهاتف من إدارة المدرسة الدينية التي كان يدرس فيها، لم يكن باستطاعته عمل الكثير، إذ كان بعيدا جغرافيا، وكان قرار اختيار المدرسة بيد طليقته.

يتنقل الفيلم دون جهد كبير بين هواجس الشخصيات الذاتية وما تحمله من ندم وغضب على ما حدث، فحياة هذه الشخصيات تغيرت وانقلب بعضها بالكامل، إذ تطلقت أم “ديلان” من زوجها، ولأنهما كانا في مكانين مختلفين نفسيا لجهة العلاقة بالحادثة ومقتل ابنهما.

أما والد آندي فبدأ بمراجعة نفسه وعلاقته بالحياة وابنه الذي يقضي عقوبة السجن حتى اليوم، حاله حال “نيكولاس” الذي يقضي ابنه عقوبة السجن مدى الحياة.

“كل شيء مات في عالمي”.. أهوال الحوادث

بدا الفيلم التسجيلي في كثير من وقته وكأنه حلقة من حلقات العلاج النفسي للشخصيات وما مرَّ بها من أهوال منذ زمن الحوادث، إذ تستذكر والدة “ديلان” الزمن الصعب عندما فقدت إيمانها بكل شيء، وبعد أن تكشف السلوك العدواني والعنصري لابنها (سجل بعضه على شرائط فيديو).

فكرت أم “ديلان” أن تنتقل من مدينتها، لكنها عادت وغيرت رأيها، واختارت مواجهة الواقع وعدم الهرب منه، وتصف تلك الفترة قائلة: كل شيء مات في عالمي، الإله مات أيضا في قلبي، الشخص الذي كنت أظن أنني كنته لم يعد موجودا.

أم “ديلان” حاولت لسنوات الاعتذار من عوائل الذين قتلهم ابنها وقد نجحت في مسعاها

حاولت أم “ديلان” لسنوات الاعتذار من عوائل الذين قتلهم ابنها وقد نجحت في مسعاها، بل إن الفيلم يظهرها تشرب القهوة مع والدة أحد ضحايا حادثة إطلاق النار.

ورغم أن المرأة الأمريكية تشعر بالسعادة اليوم، فإن الطريق إلى هذه السعادة والرضا كان صعبا للغاية، وهي حتى اليوم تشعر بالذنب على مشاعر السعادة التي تحس بها، عندما تتذكر الحادثة وما خلفته من تعاسات على عوائل كثيرة.

وإذا كان الفيلم يبدأ بشهادة لوالدة “ديلان” تعترف بأنها تمنت موت ابنها في الزمن القصير الذي لم تكن تعرف فيه بمصيره، فإنها نادمة اليوم على تلك المشاعر، وتتمنى لو أن ابنها لم يقتل نفسه، وأنه حتى لو كان في السجن فسيكون من الممكن زيارته هناك والاستمتاع بوجوده.

أما أبو “آندي” فقد وجد الحب عند امرأة طيبة لم تبال بما حصل للأب، بل نظرت في قلبه، وعرفت أنه بذل جهودا كبيرة لتربية ابنه على مثل أخلاقية كبيرة.

حيازة الأسلحة.. غياب النقاش المُحتدم في الساحة الأمريكية

ينجح الفيلم في تقديم بوتريه حميمي عن شخصيات مرت بأصعب محن حياتها، وما زالت تعاني كثيرا مما اقترفه أبناؤها، لكنها قررت أن تواجه الواقع والحياة، وتتحمل تبعات ما حدث بشجاعة كبيرة.

لعل ما يغيب عن الفيلم هو غياب النقاش العام بخصوص حوادث إطلاق النار في المدارس الأمريكية، وبالتحديد الجزء الذي يتعلق بحيازة الأسلحة في الولايات المتحدة، وهو نقاش محتدم كثيرا، ويأخذ أوجها عدة، منها مهاجمة شركات بيع الأسلحة، والمسؤولية الجماعية عن قرارات حيازة الأسلحة.

هذا النقاش أبقاه الفيلم بعيدا، ربما لأنه لا ينسجم مع المناخ الحميمي العام الذي أسسه الفيلم.

يحافظ الفيلم على إيقاع خاص يعكس الحالات النفسية لشخصياته ويقترب منها بالتدريج، ويكشف ألمها الكبير وأزماتها الكبيرة منذ الحوادث التي هزت حياتها، كما يصل مع شخصياته إلى خواتيم مرضية مهمة، ويدفع بالنهاية في التفكير بالأوجه المختلفة للكوارث وضحاياها المتنوعين وآثارها الطويلة المدمرة.