تقييد الفنانين المصريين.. لماذا تقتل مصر تاريخها الفني الطويل؟

الفنان المصري هشام عبد الحميد

تضعك التناقضات في حيرة من أمرك أمام ما تُصرّح به الدولة من مشاريعها الطموحة في دعم الفنون والثقافة بوجه عام، والسينما والمسرح بوجه خاص، الأمر الذي يقابله من ناحية أخرى ما تسنّه الدولة ممثلة بوزارة الثقافة من تعديلات تتضمن القوانين المُقيّدة للسينما والمسرح؛ نقف عند هذا التناقض ونتأمله مليا في هذا المقال.

ذكرنا بالمقال السابق “السينما المصرية.. مسلسل الاحتكار والكساد والتعفن” أن الاحتكار قضى على صناعة السينما، باستثناء مجموعة تجارب صغيرة جيدة أو قد تكون واعدة، وهي تنتمي للسينما المستقلة؛ فمن المُفترض منطقياً أيضاً أن هذه الأعمال تهدف لأن تكون خارج قوانين السوق القائم على المكسب والخسارة، ونتيجة لذلك يُفترض أنها لا تخضع لأيّ توجّه مُسبق أو سلطة ما، بل إن تمويلها المحدود والضعيف جدا يأتي من أصحاب المشروع أنفسهم وفي أضيق الحدود.

وبناء عليه ينطلق أصحاب التجربة الفنية المستقلة بطموحهم الذي قد يكون غير محدود، ووجهات نظرهم الجريئة لتقديم عمل مُدهش بفقر إمكاناته الإنتاجية وغنى منتوجه الإبداعي على نحو عام، وغالبا ما ينطلق هذا النوع من السينما إلى مهرجانات محلية وإقليمية ودولية، ويثير في كثير من الأحيان جدلاً واسعاً، وهي ظاهرة صحيّة على أية حال.

لكن يبدو أن المعنيين بالأمر لم يرُق لهم حتى هذا الهامش من حرية الإبداع، لأن بعض هذه الأعمال شكّلت لهم صُداعاً وخوفاً من تأثير الفن، وسبّبت لهم حرجاً كبيراً على المستويين المحلي والدولي، لذلك لجأت الدولة إلى سنّ قرارات مُعرقِلة وشروط رقابية مُجحفة.

 

شروط رقابية مُجحفة.. تدمير القوة الناعمة

من ضمن قرارات وزارة الثقافة التي لا مُبرر لها سوى تقييد حرية الإبداع؛ فرض قيود جديدة على الفنانين، حيث لا يستطيعون الفكاك من قدرهم المحتوم، ألا وهو الاستسلام التام أو الموت البطيء. فهل يُعقل من أجل ترخيص معالجة فيلم أو مسلسل تلفزيوني برقابة “المصنفات الفنية” أن يدفع الفنان للقراءة عشرين ألف جنيه؟ كما يدفع المنتج عشرين ألف جنيه لتصريح تصوير السيناريو؟ ثم يدفع عشرين ألف جنيه لنسخة العرض، ثم خمسين ألف جنية لتصريحات أخرى؟ وبالتالي تكون النتيجة أن مصاريف الرقابة وحدها تتجاوز مئة ألف جنيه.

ويتكرر المثال بالنسبة لرسوم التلفزيون ورسوم المسرح، لتكتمل الدائرة وتنغلق وتزداد إحكاما في وجه المبدع الفنان، الذي لن يجد في نهاية المطاف ما يقوم به سوى الجلوس في المنزل منتظراً بجانب الهاتف، على أمل أن يختار له أي عمل، وتحت أي ظرف وأي تنازلات، حاسباً ألف حساب لفخامة من يحاول أن يُجهض جهده، ولم يعد يملك سوى الانتظار. لكن أليس هذا تحطيما لمنظومة الفن الحقيقي في بلدنا الحبيب؟ أليس هذا تدميرا لقدرات مبدعينا؟ أليس هذا تجريفا للفن ولقوانا الناعمة في ضربة واحدة موجعة للنفس والقلب والعقل؟

 

أفلام بلا سينما.. غياب مصر عن المحافل الدولية

نقلب الصفحة لنجد أن وزارة الثقافة معنية بدعم المهرجانات الفنية، وأولها المهرجانات السينمائية كمهرجان القاهرة السينمائي، مرورا بمهرجان الإسكندرية الدولي، إلى مهرجان الأقصر، لكنه دعم بدون إنتاج أفلام أو مسرح، أو المساعدة لإيجاد حالة رواج حقيقية لسينما مصرية.

لقد أصبحت مصر بلا سينما، وقد توجد أفلام لكن لا توجد سينما، وأصبح اسم مصر غائبا عن كل المهرجانات والتظاهرات السينمائية الكبرى، مثل مهرجان كان وبرلين والبندقية، بينما نجد في الوقت ذاته أفلاماً تتنافس على الأوسكار من دول مثل السنغال، في حين لا يوجد أي فيلم مصري، وعندما نقول فيلم مصري نقصد إنتاجاً مصرياً خالصا، لا إنتاجا مشتركا.

لعل من اللافت للنظر أن هناك حركة إنتاج من قبل شركات خاصة للفيلم المصري، لكنها أفلام منزوعة الفكر والإبداع، أفلام تُسوّق للبلطجة والكراهية والقبح بشكل فني متدنٍّ لكي يتلقفها جمهورنا -مع الأسف- وتعمل إطلالتها على خلق حالة رواج وهمية، وتفريغ مواهب متواضعة، لتعطي إحساساً بأن هناك حالة حيوية ونشاط في طرح الجديد، وتبدأ عملية تلميع وهمية لكل عناصر الفيلم.

 

الأعمال الهابطة.. قبح سائد وتسطيح للذوق العام

في ظل هذا المشهد الكارثي لا يدرك المسؤولون مغزى “أنك قد تستطيع أن تخدع الناس بعض الوقت، وأن تُقدم لهم تخديراً مناسباً، من خلال ترويج أعمال فنية تُساهم في تسطيح الذوق العام، لكن على المدى البعيد سيعمّ الجهل ويستشري، بسبب السياسة العمياء التي من شأنها أن تزيد الإضرابات في البنى المجتمعية”. المشكلة الأكبر أن ذوق الرأي العام بدأ يتأثر بتلك الأعمال الهابطة، وبدأ القبح يسود الساحة، إلى درجة أننا لو أعدنا لهم عرض بعض التحف السينمائية القديمة لعزف الناس عن مشاهدتها، ولفشلت فشلا مُروّعا.

إن وزارة الثقافة -مع الأسف- ما تنفك تُثقل كاهل المنتج الصغير الطموح، بدلا من التعاون مع وزارة التعليم لعقد الندوات السينمائية بالصفوف التعليمية المختلفة، والعمل على تنشيط مشاهدة الأفلام ذات القيمة الفنية الرفيعة، وبالتوازي دعم نوادي السينما وإعادتها مرة أخرى إلى الحياة، وعلى رأسها نادي السينما بجمعية الفيلم الذي ساهم في النهوض بالوعي السينمائي لجيل الستينيات والسبعينيات تحديداً، وبالتوازي أيضا مع كل ذلك تقديم المساعدات المختلفة للسينما المستقلة، وإعفائها من الرسوم المختلفة.

 

مشي القهقرى.. خطط طموحة بلا طموح

أليس عجيبا أن تكون الفترة الناصرية التي كانت واعية بدقة لسلاح الفن كأداة للسيطرة، اهتمت بالفن ودعمته، حيث نجد أن الوزير ثروت عكاشة أنشأ أكاديمية الفنون التي ضمت معاهد فنية، من ضمنها المعهد العالي للسينما الذي استُقدم له أساتذة كبار من الخارج، إضافة للكفاءات المصرية، وكذلك اهتم نظام السادات بالفن والسينما بوجه خاص، حتى أن النظام المباركي استطاع من خلال الوزيرين صفوت الشريف الذي كان وزيراً للإعلام، وفاروق حسني الذي كان وزيراً للثقافة وقتها؛ أن يقدم توازنا ما حتى لو كان ظاهرياً، لكنه استمر 30 عاما.

نسمع حالياً ويومياً عن خطط طموحة لوزارة الثقافة، لكننا لا نسمع عن دعم أفلام، ولا عن إنشاء إستوديو خاص للسينما المستقلة يُقدم به المبدعون إبداعاتهم غير مقيدين بالتكلفة، كما لم نسمع عن وزارة الثقافة أنها أنتجت فيلماً كبيرا كفيلم “المومياء” العظيم لشادي عبد السلام، ولا نسمع عن تبني وزارة الثقافة لمجموعة أعمال سينمائية وتقدم لها الدعم والعون اللازم. لا نسمع، ويبدو أننا لن نسمع طويلا.