تلفزيون رمضان.. مخابرات تتحكم بالدراما وتنافسٌ حاد مع الإنترنت

محمد موسى

لقطة من المسلسل السوري عندما تشيخ الذئاب

“لم يتفق العرب يوما على شيء، فلماذا يجب أن يتفقوا على حال قنواتهم التلفزيونية؟”.. لعل هذا الانطباع يراود كثيرين وهم يتابعون الظواهر الغريبة والخلافات التي تُهمين على الموسم التلفزيوني الرمضاني العربي لهذا العام.

وسيتذكر مؤرخو الدراما هذا الموسم كانتكاسة فارقة وربما مفصلية لجهة الأحداث التي وقعت فيه، والمفاعيل المُترتبة على هذه الأحداث وأثرها في تسيير دفة هذه الدراما في السنوات القادمة، ودفعها إلى ضفاف جديدة أو تكريس تراجعها الحاد، ليتواصل أثناء ذلك دفع الجمهور العربي الشاب بعيدا عن القنوات التي تتكلم لغته، وهو الجمهور الذي لا تعوزه الخيارات، ولم يعد غريبا عن المشهد التلفزيوني الغربي بفضل الشركات العالمية لتزويد المحتوى الفني عن طريق الإنترنت، والتي وصلت إلى الجمهور في العالم العربي، وتحجز مكانة مُهمة كثيرا عند فئات واسعة من هذا الجمهور.

 

مشهد تلفزيوني ملتبس

يتراوح حال المشهد التلفزيوني الرمضاني لهذا العام من مسلسلات أشرفت عليها شركة إنتاج تابعة للمخابرات المصرية في بلد الدراما العربية في مصر، إلى منصة إلكترونية على غرار نتفليكس أطلقتها الشركة المصرية ذاتها على شبكة الإنترنت، والتي أصابها العطل بعد يوم من إطلاقها بسبب بدائيتها وتخلفها التكنولوجي.

وإذا كان هذا الموسم قد شهد عودة المسلسلات السورية لفضائيات دول عربية عديدة، وبعد سنوات من حصار فرضته بعض القنوات التلفزيونية عليها، فإن عرض بعض المسلسلات السورية الحديثة لم يمرّ دون تجاوزات على المحتوى الأصلي لهذه الأعمال، حيث قُطّعت وشوهت هذه الأعمال على هوى الرقابات الحكومية في الدول التي عرضت عليها.

وفي الوقت نفسه تسبب عرض مسلسلات عراقية جديدة في شهر رمضان بنقد وغضب شعبيين غير مسبوقين، وذلك لما تتضمنه هذه المسلسلات من ثيمات ومشاهد يعتبرها عراقيون ناشزة ومُسيئة لبلدهم وتقاليده الاجتماعية.

لقطة من المسلسل السعودي يلا نسوق

استطلاعات تستفز المنافسين

ولم تقتصر الاختلافات أو النزاعات هذا العام بين الإعلام والجمهور والتلفزيونات العربية كما هي العادة، بل بين الفضائيات العربية نفسها التي تنتج وتعرض هذه الدراما، إذ سبقت الفضائيات المصرية موسم شهر رمضان بخلافات علنية على طبيعة الجهات التي تقف وراء الإحصائيات التلفزيونية التي تنشر بين الفترة والأخرى، وذلك بعد أن كشفت نتائج استفتاءات أخيرة تَصَدُّر قنوات بعينها المشهد التلفزيوني في مصر لجهة أعداد المشاهدة، والذي لم يُعجب قنوات منافسة.

وقد شككت بعض الفضائيات المصرية بنتائج هذه الإحصائيات، وزعمت بأن الذين يقفون وراءها لهم أجنداتهم الخاصة التي تخدم هذه القناة التلفزيونية أو تلك، الأمر الذي حدا بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر في أبريل/نيسان الماضي إلى إصدار قوانين جديدة تخص آليات عمل شركات الاستطلاع في مصر، ومن بينها اشتراط الهوية المصرية لهذه الشركات، وهناك قوانين أخرى تخص إدارة الشركات، منها إلزام الأخيرة بأن يكون المديرون فيها يملكون خبرات لا تقل عن عشر سنوات في مجال الاستطلاعات عن أرقام المشاهدة.

يعرف مالكو ومديرو الفضائيات الأهمية المعنوية للاستطلاعات التلفزيونية، فبغياب الطرق التقنية التي تحسب أرقام المشاهدة للبرامج التلفزيونية -كما يحدث في الغرب- تنعدم بشكل كبير الوسائل لمعرفة شعبية البرامج التلفزيونية على الفضائيات العربية، وهو الأمر الأساسي الذي تستند إليه القنوات التلفزيونية لجذب المُعلن التجاري.

لقطة من المسلسل التونسي أولاد مفيدة

شعبية الفضائيات.. غياب آليات القياس

وعلى الرغم من وجود شركات عالمية تقوم بين الفينة والأخرى بإجراء استطلاعات مُوسعة للبحث عما يشاهده العرب على شاشاتهم، فإن هذه الاستطلاعات تُتهم غالبا بمحاباة هذا الطرف أو ذاك، ويتم الربط بين الجهة التي تدفع الأموال لإجرائها وبين نتائجها، كما تغيب المعايير الواضحة أو الأسس البحثية المعروفة لما يُعلن من استطلاعات عن أرقام المشاهدة للفضائيات العربية، ويغدو من السهل للمتخصصين التشكيك بنتائجها أو عدم أخذها بجدية كبيرة.

يشكّل غياب آليات واضحة لقياس شعبية الفضائيات العربية إلى جانب تصاعد شعبية مشاهدة برامج القنوات الفضائية ذاتها على شبكة الإنترنت؛ مصدر قلق متواصل للنموذج الاقتصادي الذي يقوم عليه معظم الفضائيات العربية، أي الحصول على عائدات مالية مقابل بث إعلانات تجارية على قنواتها التي تبث بشكل مجاني عبر الأقمار الاصطناعية. فمن أجل إقناع المعلن بشعبية قناتك التلفزيونية عليك أن تعرض أرقام مشاهدة تخص برامجك، أو تأكيدات على شعبية قناتك الفضائية بشكل عام.

لقطة من المسلسل السوري دقيقة صمت

معايير نجاح هشّة

صحيح أن شعبية برامج قناة ما على شبكة الإنترنت تُعد اليوم من معايير النجاح للفضائيات العربية، بيد أن هذه المعايير تبقى هشة وقياسها يكون غالبا صعبا ومعقدا، فالحضور على الشبكة العنكبوتية لا يعني دائما النجاح، ذلك أن هناك فروقا مُهمة بين مسلسل يُعرض بشكل غير قانوني على أحد المواقع الإلكترونية غير المُرخصة، وبين حصول “هاشتاغ” مسلسل آخر على مرتبة متقدمة في قائمة الهاشتاغات على الإنترنت.

فالمسلسل الذي يُعرض بدون ترخيص على موقع مجهول المصدر، يُبعد في النهاية مشاهدين كثر عن مشاهدته على الشاشة التلفزيونية الأصلية التي تعرضه، في الوقت الذي يثير بروز “هاشتاغ” لمسلسل آخر فضول جمهور آخر ربما يُحاول أن يشاهد المسلسل على الشاشة الأصلية التي تعرضه.

لقطة من المسلسل العراقي الفندق

إشكالات قياس المشاهدة على الإنترنت

من الصعب كثيراً قياس أعداد المشاهدين لمسلسل ما يعرض على الإنترنت، فهذا المسلسل لا يقتصر عرضه في كثير من الأوقات على رابط واحد على موقع فيديو واحد، فهناك أحيانا عدة روابط للمسلسل نفسه على موقع يوتيوب مثلا، بعضها تحمل عنوانين بلغات أجنبية، الأمر الذي يُعقد عملية حصر أعداد هذه الروابط، وبالتالي جمع العدد الكلي للذين شاهدوا المسلسل.

وإلى جانب “يوتيوب” الذي يكشف عن أرقام المشاهدة لأي فيديو يُعرض عليه، هناك عشرات المواقع المجهولة التي تعرض المواد الترفيهية العربية المُقرصنة من التي تظهر وتغيب، والتي لا يُمكن الوثوق تماما بالأرقام التي تسجلها لعدد المشاهدين عليها بسبب طبيعة هذه المواقع الغامضة التي لا يُعرف هوية وتوجهات الذين يقفون وراء إدارتها.

لقطة من المسلسل السعودي يلا نسوق

منصات المشاهدة العربية

شهد هذا الموسم الرمضاني تعزيز مكانة الإنترنت كواسطة لمشاهدة البرامج التلفزيونية، وبعيدا عن إزعاج الإعلانات التي تقطع البرامج التلفزيونية عندما تُعرض على الفضائيات، إذ يبدو أن خدمة “شاهد” التابعة لمؤسسة “إم بي سي” تسير بوتيرة منتظمة (هناك نسخة مجانية من الخدمة تعرض إعلانات، وأخرى مقابل اشتراك شهري بدون إعلانات)، وإن غابت الإحصائيات الدقيقة عن عدد مشاهدي هذه الخدمة في الدول العربية وخارجها. كما لا تزال قنوات مؤسستي دبي وأبو ظبي الإعلاميتين تفسحان فرصة لمشاهدة برامجها مجانا على مواقعها على شبكة الإنترنت.

واللافت هذا العام هو تواصل التضييق على وصول المواد التلفزيونية العربية المُقرصنة إلى موقع الفيديو الأكثر شعبية في العالم “يوتيوب”، فجهود مؤسسات مثل “إم بي سي” بمحاربة وصول برامجها إلى يوتيوب أدت إلى تناقص المحتوى العربي الجديد على موقع الفيديو وإلى حدود كبيرة.

ويأتي هذا مع عرض قنوات أخرى مثل أبو ظبي ودبي للكثير من موادها الحصرية على قنواتها الخاصة على يوتيوب، وهو القرار الذي من الصعب فهم دوافعه، إذ من العسير تخيل أن هذه القنوات أقدمت على هذه القرارات من أجل عائدات يوتيوب للقنوات الناجحة عليه، والتي تبقى محدودة كثيرا (تتكتم شركة غوغل المالكة لموقع يوتيوب عن الإفصاح عن الأموال التي تمنحها لأصحاب القنوات الناجحة على موقع الفيديو).

ولعل الذي يقف وراء قرار فضائيات بعينها لعرض محتواها على موقع يوتيوب، هو الترويج لهذه القنوات عبر وسائط شعبية، خاصة أن هذه القنوات تحصل على تمويل مالي من حكوماتها، ولا يرتكز النموذج الاقتصادي لها على عائدات الإعلانات كما هو الحال مع القنوات التجارية الصرفة.

من بين كل الدول العربية كان هذا العام هو الأصعب على صناع الدراما في مصر

موسم صعب على الدراما المصرية

ومن بين كل الدول العربية كان هذا العام هو الأصعب على صناع الدراما في مصر، ففجأة وجد الكثير منهم أنفسهم مُبعدين عن العمل في بلدهم، فغاب الكثير من النجوم والمخرجين المهمين عن الموسم الرمضاني، وذلك بسبب استحواذ كيان إنتاجي جديد غامض اسمه “إعلام المصريين” يعود إلى المخابرات المصرية على الدراما في مصر، والتي تعد الأكبر في العالم العربي على صعيد الأعمال المُنتجة وعدد العاملين فيها.

لا يُعرف بالضبط دوافع الدولة المصرية للهيمنة على سوق الدراما في البلد، أو رغبتها بإعادة تنظيم هذا القطاع الحيوي، وعدم الاكتفاء بدور الرقابة التقليدي المعروف للدولة.

يبدو أن تدخل الدولة المصرية حتى الآن كارثي، فردود الأفعال المصرية الشعبية على مواقع التواصل الاجتماعي تبرز غضب وسخرية كثير من المصريين مما يحدث، وبعد أن وصلت تدخلات حكومتهم المباشرة والمشوهة إلى قطاع الترفيه، والذي يلجأ إليه كثير من المصريين هربا من واقع اقتصادي صعب.

وتبدو نتائج هذا التدخل الحكومي واضحة كثيرا لجهة مستوى الأعمال المصرية التي تعرض حاليا على الشاشات التلفزيونية، فغابت في هذا العام الأعمال الفنيّة المميزة، واتسمت المسلسلات المعروضة بالنمطية وغياب التجديد، أو البحث عن حدود جديدة للدراما التلفزيونية، وهو الأمر الذي كان يشغل مجموعة من صناع الدراما في مصر، وقاد إلى أعمال جيدة تقنيا وفكريا في الأعوام الثلاثة الأخيرة.

“واتش إت”.. انهيار سريع

أطلقت الجهة المصرية الحكومية الإنتاجية نفسها قبل يوم من شهر رمضان مشروعا طموحا باسم “واتش إت” (watch it)، وذلك لتوفير مواد ترفيهية مصرية الإنتاج على شبكة الإنترنت مقابل اشتراك شهري.

وقد انهار هذا المشروع تقنيا بعد يوم واحد من إطلاقه، ليتحول بدوره إلى مصدر لسخرية المصريين، وليؤكد هذا الفشل المخزي أن المشاريع الفنيّة الكبيرة تحتاج إلى تحضيرات ودراسات مُعمقة وطويلة، ولا يتم طبخها بعجالة في غرف حكومية ومن قبل موظفين رسميين.