“توري ولوكيتا”.. صبيان لاجئان يكشفان عورات المجتمع الأوروبي

قصة صداقة حميمية في ظروف شاقة في المهجر الأوروبي تجمع بين صبي في الثامنة هو “توري” من الكاميرون، وفتاة في السادسة عشرة من عمرها هي “لوكيتا” القادمة من بنين.

هذه الصداقة هي قلب الفيلم الجديد الذي أنتج عام 2022 “توري ولوكيتا” (Tori and Lokita) للشقيقين البلجيكيين “جان بيير ولوك داردين”، ويدفع بموضوع اللاجئين الأفارقة إلى أوروبا -وتحديدا بلجيكا- إلى الصدارة مجددا، لكن من دون مبالغات عاطفية ميلودرامية.

الشقيقان “داردين” يعملان معا في إخراج جميع أفلامهما، ويستلهمان كعادتهما قصة حقيقية من الواقع، فينسجان منها قصة إنسانية تفيض بالمشاعر، من خلال أسلوبهما الواقعي المحكم تماما الذي يهتم بالشخصيات كما يهتم بالمحيط الاجتماعي.

 

سياط الفقر.. مأساة تجمع طفلين على ظهر قارب

مهمة الفيلم هي أولا تقريب شخصيتي الفتاة والصبي من المتفرج البلجيكي والأوروبي عموما، فنحن أمام صورة غير نمطية لطفلين لم يبلغا بعد، فهما يبحثان فقط عن مأوى في المهجر، ولا يرغبان في مخالفة القانون، وثانيا يكشف الفيلم عن تعسف هذا القانون الذي قد يسمح للصبي “توري” بالبقاء أو ينظر في حالته، بينما يحاصر الفتاة حصارا مشددا، ويرفض قبولها دون أن يكون هناك مبرر حقيقي.

لذلك ومن أجل التحايل على السلطات، يزعم “توري” أن “لوكيتا” شقيقته في حين أنهما التقيا للمرة الأولى على ظهر المركب الذي عبر بهما إلى شاطئ النجاة. وغالبا -كما يشير الفيلم- أنقذت “لوكيتا” حياة “توري” من الموت غرقا، لذا فقد أصبحت بمثابة الأم البديلة عنده.

لا يصور الفيلم الرحلة المخيفة التي قطعها الاثنان في عرض البحر، ربما لأن هذه الصورة أصبحت مألوفة الآن في الأفلام التي تظهر عن اللاجئين، لكنه يبدأ بعد ذلك، بعد أن أصبح وجود “توري” شبه مقبول من جانب السلطات، فروايته تقول إن أهله أجبروا على التخلي عنه وهو طفل صغير في بداية عهده بالحياة، لأن أهل القرية اعتقدوا أنه نذير شؤم، وأنه يمتلك قوة سحرية.

“توري” إذن عديم الأهل، فقد تخلت عنه أسرته وأهملته، لكننا لا نعرف من الذي تبناه وقام بتربيته، وكيف جاء بالمال الذي دفعه لقاء تهريبه، أما “لوكيتا” فقد فرت من شظف العيش في قريتها، حيث الفقر المدقع، والأسرة المكونة من خمسة أبناء لا عمل لهم ولا زرع ولا حصاد، وهي تريد العمل لكي ترسل لأمها ما يمكن أن يغطي بعض تكاليف إعالة الأبناء، لكنها لا تستطيع الحصول على حق الإقامة، فالهجرة لأسباب اقتصادية غير مرحب بها، والمسؤول عن التعامل مع اللاجئين يستجوبها كما نرى في المشهد الأول من الفيلم، فهو يريد أن يعرف علاقتها بالصبي “توري” وهل هو حقا شقيقها؟

الطفل توري يحاول انقاد صديقته لوكيتا من مصيرها المظلم

محل البيتزا.. استغلال الأطفال في العمل والممنوعات والمتعة

تتوالى عشرات الأسئلة، إلى أن تصل إلى السؤال الحرج الذي لا تملك عنه جوابا: كيف تعرفت على “توري” وهو في القارب، بينما كان قد اختفى وهو لا يزال طفلا يافعا؟

منذ أن ارتبطا معا أصبحت قضيتهما واحدة، والقضية باختصار هي النجاة عن طريق البقاء والعمل وشق طريق جديد في الحياة، لكن الحياة ليست ميسرة، فـ”لوكيتا” مدينة بسداد مبلغ كبير من المال للعصابة التي ساعدتها على المجيء إلى بلجيكا، وهي عصابة من الأفارقة الذين يطاردونها ويضغطون عليها ويهددونها من أجل أن تدفع لهم، وهي قد حصلت على عمل مع “توري” في مطعم إيطالي، إذ يقومان بتوصيل الطلبات من البيتزا إلى الزبائن، لكن في طيات تلك الطلبات يقوم الطاهي اللعين (الألباني) بوضع كمية من المخدرات، ويعدهما بأن يدفع لهما، لكنه لا يفعل دائما أو يقدم لهما الفتات، أو يكتفي بإعطاء كل منهما قطعة من البيتزا لالتهامها سترا للجوع.

لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه يفرض نفسه فرضا على “لوكيتا”، ويستغلها جنسيا مقابل بعض قليل من المال، ويهددها إن هي رفضت بإبلاغ الشرطة عنها.

 

هناك أيضا الوجه الآخر الذي يصور “توري” و”لوكيتا” وهما يرقصان ويغنيان لزبائن المطعم أغاني تفيض بالأمل والتفاؤل، وقد تعلماها بسرعة على إيقاعات راقصة تقابل بالإعجاب، وهي تتناقض تماما مع حالتهما المزرية، فتحت هذه القشرة من السعادة الظاهرية تكمن المأساة، مأساة الرغبة في النجاة والعيش والعثور على مأوى حقيقي وعمل وإرسال المال إلى هناك، إلى بلاد القحط والفقر والحروب.

مزرعة المخدرات.. ضغوط وديون تدفع إلى المجهول المرعب

من الجانب الاستغلالي البشع الذي يصور العالم السفلي لتوزيع المخدرات غير المشروعة، والاستغلال الذي يمارس على اللاجئين الصغار؛ يتجه الفيلم من الواقعية الباردة التي تركز كثيرا على الوصف والتدقيق فيما تتعرض له الشخصيات إلى أسلوب الإثارة البوليسية، أي المغامرة، وهو ما قد يخلخل بعض الشيء موضوع الفيلم، وينحرف به بعيدا عن هدفه الأساسي، أي توصيل رسالة سياسية تستهجن وتدين السياسات الغربية في التعامل مع مشكلة اللاجئين الأفراد، وأنه من الضروري أن يضع المسؤولون نصب أعينهم التفرقة بين كل حالة وأخرى، وعدم التعامل مع الجميع ككتلة واحدة صماء جديرة بالتشكك والريبة.

مع القهر الواقع على الفتاة وما تواجهه من ضغوط من الجهتين؛ أسرتها الفقيرة التي تنتظر منها المساعدة المالية، وعصابة مهربي البشر الذين يطاردونها يطالبون بتسديد ما عليها من ديون لهم، تجد “لوكيتا” نفسها فريسة بين أيدي عصابة المخدرات، فهم يعدونها بمبلغ معتبر من المال إن وافقت على أن تهب نفسها لمهمة شاقة بعض الشيء، كما أنها مهددة بالترحيل من الجهة الأخرى.

يسوقونها معصوبة العينين إلى مزرعة ومخزن لإنتاج المخدرات، لكي تبقى هناك لمدة ثلاثة أشهر حبيسة، لا يمكنها المغادرة، ترعى الزراعة المحظورة، ولا تتصل بالعالم الخارجي أبدا، بل ويحرمونها من هاتفها المحمول، وبالتالي تنقطع صلتها بصديقها “توري” الذي يجن جنونه، بل إنها تتعرض هناك أيضا لمحاولة اغتصاب من رجل يظهر فجأة لتفقد الأحوال، لكنها تقاومه، فيغلق عليها باب المخزن اللعين. ولنا أن نتخيل كيف يبذل “توري” جهدا كبيرا في الوصول إليها وإنقاذها، لكن حتى بعد ذلك، تبقى المشكلة بل ربما تتضخم أكثر، وتنتهي نهاية مأساوية.

الألباني الذي يستغل وضعية الطفلين الهشة ليشغلهما في توزيع المخدرات

نمطية الطيبين والأشرار.. سذاجة الحبكة وفرض التعاطف

تظل رؤية الأخوين “داردين” في فيلمهما الجديد كما كانت في غالبية أفلامهما السابقة رؤية أخلاقية غاضبة، تريد أن تدين عدم المبالاة الغربية والنظم البيروقراطية التي تقتل أي فرصة أمام حياة جديدة لمن يطلبون مجرد النجاة، لكنهم نجوا مما يحدث هناك في أرض الوطن، وجاءوا إلى أوروبا لكي يسقطوا في براثن عصابات الشر بعد ان أدار لهم المجتمع ظهره.

هناك بعض السذاجة في “الحبكة”، وبعض التعجل في بناء الشخصيات، فنحن مثلا لا نرى شيئا من الماضي في أفريقيا، ولا أثناء رحلة القارب إلى أوروبا، ولا كيف التقى “توري” بـ”لوكيتا”، كما أن شخصية الرجل الألباني الذي يستغل الاثنين نراها شخصية شريرة بالسليقة، محرومة من الخلفية الإنسانية، بينما هو نفسه قد يكون مهاجرا غير شرعي أيضا يعمل تحت الأرض.

هنا نحن بين عالمين؛ أشرار وطيبون، والتعاطف الواضح من البداية هو مع “توري” و”لوكيتا”، لذلك يقطع الفيلم مسارا يفرض على المتفرج التعاطف والقبول بما يراه دون أن يطرح تساؤلات مناقضة.

في ظل الفقر المدقع يبقى الحل لكسب المال هو الغناء في المطاعم

“الشعور بالغضب إزاء الظلم القائم في مجتمعنا”.. رسالة المخرج

أسلوب الأخوين “داردين” كالعادة هو الأسلوب السهل البسيط السلس الذي لا يحمل طموحا كبيرا من ناحية استخدام مفردات اللغة السينمائية، فالكاميرا محايدة، واللقطات متوسطة وعامة، مع قلة اللقطات القريبة رغم أنها كان يمكن أن تقربنا أكثر من الانفعالات، والمسافة بين المتفرج والصورة مسافة تتيح المجال للمراقبة، للتأمل العقلاني، مع غياب الموسيقى الخارجية لتأكيد الواقعية، والاكتفاء فقط بالأغاني التي يغنيها “توري” و”لوكيتا”، وذلك في الفقرة الوحيدة التي نستمع فيها إلى الموسيقى، لكن الفيلم يعاني رغم ذلك من بعض الرتابة في السرد مع تكرار المعنى.

ما يبقي على الفيلم ويجعلك تبقى في مقعدك حتى النهاية هو ذلك الأداء البديع من الممثلين، وخصوصا الطفل “بابلو شيلز” الذي يقوم بدور “توري”، والشابة المراهقة “جولي مبوندو” في دور “لوكيتا”، والاثنان من الممثلين غير المحترفين، ويُحسب للمخرجين الشقيقين “جان بيير ولوك داردين” أنهما نجحا في تدريبهما على الأداء بهذا النحو المتقن، وكأنهما يعايشان حالتهما الحقيقية في الواقع.

يقول الأخوان “داردين”: رغبتنا الصادقة أن يصل المشاهدون في نهاية الفيلم بعد أن يتعاطفوا بقوة مع الشابين اللاجئين، وبصداقتهما المتينة، إلى الشعور بالغضب إزاء الظلم القائم في مجتمعنا.

عرض هذا الفيلم في مسابقة مهرجان كان السينمائي في مايو/أيار عام 2022، ومنحته لجنة التحكيم جائزة خاصة هي “جائزة الدورة الـ75”.