“إرهاب”.. مسلم جندته المباحث الفيدرالية للإيقاع بمجتمعه

الفيلم الوثائقي الأمريكي “إرهاب” (T-error) الذي اشترك في إخراجه “ليريك كاربال” و”ديفيد ساتكليف” (2015)؛ يكتسب قيمته وسمعته الجيدة من جرأته في الاقتراب من نقطة شديدة الحساسية فيما يتعلق بالحالة الأمريكية القائمة منذ 11 سبتمبر 2001، أي ما يرتبط بالسياسة الداخلية الأمريكية في مكافحة الإرهاب وجماعات التطرف.

اختار صُنّاع الفيلم كتابة عنوانه بعد أن فصلوا بين الحرف الأول من كلمة إرهاب وباقي الحروف، بحيث أصبح باقي الحروف يشكل “خطأ” (Error) وهو اختيار مقصود للإشارة إلى الأخطاء التي تقع خلال العمليات السرية التي يقوم بها رجال إدارة المباحث الفيدرالية في الولايات المتحدة، أثناء تعقبهم عناصر معينة وسط الجالية المسلمة هناك، حين يشكون في صلتها بتنظيمات إرهابية، أو كما في الحالة التي يتوقف أمامها الفيلم، لمجرد الاشتباه في كون عنصر أو آخر يروج لأفكار متطرفة، دون أن تكون قد انتقلت من مجال استخدام الكلمات إلى استخدام السلاح.

“سعيد توريس”.. إسلام وسرقة وتجنيد وتجسس

يعتمد صُنّاع الفيلم أسلوبا مشوقا يشبه أسلوب الأفلام البوليسية المثيرة، فلدينا أولا الشخصية الرئيسية، وهي شخصية مُحيّرة يمكن أن نضع أمامها الكثير من علامات الاستفهام، رجل تجاوز الستين من عمره يدعى “سعيد توريس”، وهو أمريكي ذو أصل أفريقي.

اعتنق “سعيد توريس” الإسلام في شبابه، ثم انضم إلى حركة المطالبة بالحريات المدنية للسود الأمريكيين التي عرفت بـ”الفهود السود” في الستينيات، لكنه وقع في الفخ عام 1991 عندما قبض عليه بتهمة السرقة، والتقطه ضباط المباحث الفيدرالية “إف بي آي” (FBI)، فقد رأوا فيه عنصرا يصلح للتجنيد، وخيّروه بين السجن أو العمل لحسابهم، وقد أفلت بالتالي من السجن، لكن دافعه الأساسي الذي يذكره بوضوح في الفيلم هو الحصول على المال.

أصبح سعيد إذن يحمل اسم شريف، وهو اسمه الحركي الذي أطلقه عليه رجال المباحث، وقد تعرفت عليه المخرجة “ليريك كاربال” عام 2002 كما تذكر المعلومات التي تكتب على الشاشة في بداية الفيلم، ثم فاجأها عام 2005 عندما اعترف لها بأنه عميل سري (مدني- على حد تعبيره) يعمل لحساب جهاز الأمن، وأن مهمته الاقتراب من العناصر المسلمة التي تتردد على المساجد، وحضور أنشطة الجالية المسلمة، وعقد الصداقات مع بعض من يطلب منه الاقتراب منهم واكتساب ثقتهم.

العميل السرّي للمباحث الفيدرالية “سعيد توريس” كما بدا في الفيلم

طارق شاه.. عازف الغيتار المقاتل يقع في فخ التسجيلات

وافق سعيد على السماح للمخرجة بتسجيل مقابلات مصورة معه، وتتبع نشاطه بالكاميرا دون أن يكشف لرؤسائه في جهاز الأمن عن هذا الاتفاق الذي أبرمه من وراء ظهر الـ”إف بي آي”، وليس من المستبعد أن يكون قد أخذ المال مقابل السماح لصناع الفيلم بتصويره، وهو ما لا يذكره لنا الفيلم.

نراه أولا داخل بيته في نيويورك وهو يقوم بطهي الطعام وصُنع المثلجات، ثم نشاهد كيف يشارك في أنشطة الجالية المسلمة في الحي، حيث يلعب كرة السلة مع الأطفال، كما يقوم بتوزيع المأكولات على الجميع.

يروي سعيد للمخرجة أنه أوقع عام 2005 بشخص من المسلمين السود يدعى طارق شاه، وهو عازف غيتار في حي بروكلين أقام صداقة معه، وكان يتردد معه على المسجد، ثم قدم له نفسه باعتباره موفدا من تنظيم “القاعدة”.

وخلال المحادثات بينهما قال له طارق إنه يتخذ عزف الغيتار غطاء لعمله الحقيقي بوصفه متخصصا في فنون القتال الآسيوية، مثل الكاراتيه والجودو والكيندو والقتال بالسيف، وقد وافق على تدريب العناصر الجهادية لحساب القاعدة، وتورط طارق شاه في تسجيلات صوتية، مما أدى إلى القبض عليه، وقضت المحكمة بسجنه 15 عاما، دون أن يكون قد ارتكب أي جريمة مباشرة.

مخرجا الفيلم “ليريك كاربال” و”ديفيد ساتكليف”، مع جائزة لجنة التحكيم الكبرى من أجل فيلمهما “إرهاب” T-error، في مهرجان الفيلم الوثائقي

موضوع الفيلم هو هذا الاعتقال لمجرد الاشتباه، أو الكلام المرسل الذي لا يرقى إلى مستوى العمل الفعلي، اعتمادا على وشايات من جانب عملاء مدفوعي الأجر، يوظفهم مكتب المباحث الفيدرالية دون تدريب، مما يجعلهم أيضا عرضة للخطر.

يستخدم مخرجا الفيلم هذه القصة، ويدعمانها بشخصيات أخرى ثانوية، لتقطيعها على مدار الفيلم مع لقطات من مقابلات مصورة مع والدة طارق شاه، وهي تتحدث بمرارة عن الوشاية بابنها من طرف سعيد، وكيف نظمت حملة تطالب بإطلاق سراح ابنها (مغطاة باللقطات في الفيلم)، لكن دون أن يفلت الموضوع الأساسي من أيدي المخرجين.

بيتسبرغ.. مخطط للإيقاع بالمتعاطفين مع القاعدة

سرعان ما يعود التركيز مجددا على سعيد الذي يطلع المخرجة على رسالة تليفونية تلقاها من الضابط المسؤول عنه في “إف بي أي”، حيث يكلفه فيها بالتوجه إلى مدينة بيتسبرغ في ولاية بنسلفانيا، والتعرف هناك على رجل يدعى خليفة العقيلي، وهو أمريكي أبيض اعتنق الإسلام عام 1991، وأخذ ينشر على موقع “فيسبوك” الآن تعليقات تكشف تعاطفه مع القاعدة وطالبان.

يذهب طاقم الفيلم وراء سعيد لتصوير ما يقوم به خلال محاولاته التقرب من الرجل، لكننا لا نرى لقطات لهما معا، كما لا نرى لقاءاته مع ضابط الـ”إف بي آي”، فكل ما نطلع عليه هو الرسائل المتبادلة على الهاتف بين الرجلين، وبين سعيد وضابط المباحث الفيدرالية الذي يرسل إليه التعليمات عبر رسائل الهاتف، كما يحدد له أماكن ومواعيد للقاءات بينهما.

ولا يمكن لصانعي الفيلم المغامرة بتتبع مثل هذه اللقاءات، وإلا لانكشف أمرهما، ومع ذلك فإننا نرى الكثير من اللقطات التي تتابع خلالها الكاميرا سعيد وهو يتجول في شوارع بيتسبرغ، ويرد على مكالمات مباشرة تأتيه من ضابط المباحث.

خليفة العقيلي.. سجن الرجل الذي أفشل خطة المباحث الفيدرالية

يستخدم صناع الفيلم كثيرا من اللقطات التي يظهر فيها خليفة العقيلي على فيسبوك وهو يكتب تحذيرا لرفاقه من أن “فيسبوك ليس المكان الأفضل للثناء على أسامة بن لادن”، كما تتابعه الكاميرا في تصوير سري وهو يغادر منزله، ثم يتردد على المسجد، لكن المفاجأة الأهم تأتي عندما يتمكن العقيلي من كشف حقيقة سعيد وتحذير زملائه من حقيقته عبر موقع فيسبوك، وهو ما يكتشفه صُنّاع الفيلم دون معرفة من طرف سعيد نفسه.

 الأمريكي الأبيض خليفة العقيلي اعتنق الإسلام عام 1991، وأخذ ينشر على موقع “فيسبوك” تعليقات تكشف تعاطفه مع القاعدة وطالبان

وسرعان ما يتصل صناع الفيلم بالعقيلي لإجراء مقابلة معه (من وراء ظهر سعيد بالطبع)، وخلال المقابلة يكشف كيف قام سعيد بتقديمه لشخص يُدعى محمد، باعتباره من طرف تنظيم القاعدة، وسرعان ما قام العقيلي بكشف حقيقته، بعد أن وضع رقم هاتفه الذي تركه له على محرك البحث غوغل، فوجد أنه نفس الشخص الذي كان يشك في صلته بالمباحث الفيدرالية.

يعلن العقيلي أنه سيقاضي جهاز المباحث الفيدرالية لانتهاكهم خصوصيته، ومحاولة توريطه عن طريق الدفع بعميل مدفوع له بغرض إدانته، كما يعلن تبرأه من أي صلة بالقاعدة، وأنه سيعقد مؤتمرا صحفيا بالاشتراك مع محاميه لفضح أساليب الـ”إف بي آي”.

تظل كاميرا الفيلم ترصد مدخل بيته، وبعد 18 ساعة من إجراء المقابلة مع صناع الفيلم، يحضر رجال المباحث ويقبضون عليه أمام الكاميرا، ويقدم للمحاكمة ويصدر عليه حكم بالسجن لمدة ثماني سنوات بتهمة حيازة سلاح، وليس لأي تهمة أخرى تتعلق بالضلوع في الإرهاب، بعد أن فشلت المباحث الفيدرالية في العثور على أي أدلة تدينه.

يذكر الفيلم في عناوينه الختامية أنه منذ أحداث سبتمبر 2001 قُبض على 500 مسلم بسبب الشك في ميولهم نحو الإسلام الجهادي، أو لاحتمال ضلوعهم في أعمال إرهابية، وكان وراء 50% من حالات الاعتقال مرشدون متعاملون مع جهاز المباحث مقابل الحصول على المال.

صورة من حساب “خليفة العقيلي” على فيسبوك

جرأة الطرح.. نبش في الملفات الأمنية المسكوت عنها

يتميز الفيلم بالحيوية والجرأة في طرح الموضوع، لكونه يقترب من إحدى المناطق المسكوت عنها، وإن كان يعيبه مرور وقت طويل في متابعة ما يقوم به سعيد في بيته، والرسائل المتبادلة بينه وبين الضابط المسؤول عنه، كما يعاني من التشتت وبعض الفراغات أحيانا، والقفز فوق بعض المعلومات دون تدقيقها، فلا نفهم مثلا المقصود بقرار ترحيل خليفة العقيلي إلى بريطانيا في الماضي، متى صدر، ولماذا، وماذا كانت تهمته وقتها؟

يبدأ الفيلم في التحرك إلى الأمام واكتساب إيقاع أكثر سرعة وإثارة للاهتمام بعد الانتقال إلى بيتسبرغ، لكن وجهة النظر الأخرى (أي رأي جهاز المباحث الفيدرالية) تغيب عن الفيلم، وتشير المعلومات التي تظهر على الشاشة في النهاية إلى رفض المسؤولين في الجهاز الإدلاء بأي تعليق على الموضوع لصُنّاع الفيلم.

لذلك أثار الفيلم بعض الانتقادات من جانب من اعتبروه دفاعا عن أشخاص لديهم ميل واضح لقطع المسافة من الاعتقاد إلى التنفيذ، أي من الترويج لأفكار “القاعدة” مثلا إلى شن هجمات فعلية، لكن من جهة أخرى أشاد كثيرون بالفيلم، واعتبروه دفاعا عن الحقوق المدنية والدستور الأمريكي الذي يكفل حرية الاعتقاد والتعبير.