“تولسا.. النار والنسيان”.. رائحة جريمة البيض المدفونة منذ مئة عام

عبد الكريم قادري

قبل مئة سنة كاملة كان مجتمع السود في منطقة تولسا بأوكلاهوما الأمريكية يمارسون أعمالهم بطريقة عادية، ليفاجئهم هجوم عنصري غاشم من السكان البيض الذين قامت بتسليحهم السلطات، وقد أحرقوا خلال الهجوم شركات السود ومحلاتهم وبيوتهم ومدارسهم والكنائس التي كانوا يصلون فيها، وقتلوا وجرحوا وشردوا وأبادوا المئات منهم في مذبحة لا تزال آثارها مرسومة إلى اليوم. فما هو السبب الدافع إلى هذه الجريمة العنصرية المروعة المغيبة من كتب التاريخ الأمريكية؟

في فيلمه الوثائقي الأحدث -الذي أنتج عام 2021 “تولسا.. النار والنسيان” (Tulsa: The Fire and the Forgotten)، يعود المخرج الأمريكي “جوناثان سيلفرز” إلى جرائم حقوق الإنسان التي لا تسقط بالتقادم أو ألاعيب التخفي، وقد اكتسب المخرج المذكور تجربة كبيرة في تحقيق أعمال كهذه لها علاقة كبيرة مع العدالة والتاريخ والتمييز العنصري والنضال المستمر، مثل فيلمه -الذي أخرجه عام 2013- “المعدن الأحمر.. إضراب النحاس الريفي” (Red Metal: The Copper Country Strike of 1913)، وقد تطرق فيه بمناسبة مئوية هذه الحادثة إلى الحركة العمالية والنضالية في مناجم النحاس، وإضرابهم الشامل في ميتشغان سنة 1913، حيث جرى الانتقام منهم في مذبحة راح ضحيتها 73 طفلا.

وفي السياق نفسه حقّق سنة 2011 فيلما سينمائيا وثائقيا تحت عنوان “عدالة مراوغة.. البحث عن مجرمي الحرب النازيين” (Elusive Justice: The Search for Nazi War Criminals)، وقد تناول فيه تعامل العدالة العالمية بانتقائية مع مجرمي الحرب العالمية الثانية، إذ استُغل عدد منهم في برامج الأسلحة والتجسس، بينما ترك آخرون من الذين اختاروا أسماء مستعارة أو أتلفت ملفاتهم، وكل هذا على حساب الجرائم التي ارتكبوها، لكنهم تركوهم في سلام.

وقد نحا في نفس هذا الاتجاه عام 2017 في ثلاثيته “الحساب الميت.. الحرب والجريمة والعدالة من الحرب العالمية الثانية إلى الحرب على الإرهاب” (Dead Reckoning: War, Crime, and Justice from WW2 to the War on Terror)، ليعود من جديد بمناسبة مئوية “مذبحة تولسا العرقية”، ويقف على حجم وآثار هذه الجريمة العنصرية في حق مجتمع السود، والدافع الوحيد حسب ما جاء في بعض مفاصل العمل هو الحس والغيرة من النجاح الكبير الذي حققه الأمريكيون ذوو الأصول الأفريقية في منطقة تولسا، حيث أسسوا عددا من الشركات الناجحة والتجارة الرائجة، وصارت هذه المنطقة تعرف بتسمية “غرينوود” أو “وول ستريت السود”، وقد تجاوزوا بها أعمال السكان البيض بأشواط، لهذا حيكت مؤامرة ضدهم، ونفذت يومي 31 مايو/أيار و1 يونيو/حزيران عام 1921.

 

“ديك رونالد”.. عود الكبريت الذي أشعل النار في تولسا

كانت الشرطة والسلطات المحلية وغلاة العنصرية يبحثون عن منطلق أساسي يمكن أن يستندوا عليه لتبرير المجزرة الشاملة التي سيقومون بها، لهذا وجدوا المنفذ في استغلال حادثة الشاب الأسود “ديك رونالد” الذي داس على قدم عاملة المصعد البيضاء “سارة بيج” في مبنى إداري، حيث تركها وهرب بعد أن صرخت حسب بعض المصادر، لتقوم الشرطة باعتقال هذا الشاب وتشيع عن طريق عيونها بأن العدالة تنوي إعدامه، لهذا ثار السود وحاصروا السجن، وقد اتفق معهم آمر السجن وقام بتهدئتهم، ليتفرقوا بعدها ويعودوا إلى بيوتهم.

لكن فيما بعد قامت الشرطة بتسليح مجموعة من البيض، وساندتهم في الهجوم على تولسا، فأحرقوا الحي ومن فيه وقضوا على أعمالهم، حتى أن هناك مصادر تاريخية قالت إنهم استعملوا حتى الطائرات التي رمتهم بالمقذوفات، لتتلون السماء في ذلك اليوم بسحائب سوداء من الدخان، بينما فقد المئات أعمالهم ومصادر رزقهم.

قتل البيض يومها حوالي 300 من السود، بينما جرح 800 آخرين، وسجنوا وعذّبوا المئات، ودفنوا من قاموا بتصفيتهم جسديا في مقابر جماعية، لقد كان يوما أسود بما تعنيه هذه الكلمة، ووصمة عار لطّخت تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية التي لها أحداث كثيرة في التمييز العنصري ضد السود، وحتى جميع الملونين.

 

تفوق العرق الأبيض.. قناعات متوارثة أفلتت من القانون

حسب المتدخلين في الفيلم فقد نشأت أجيال عديدة على قناعة بتفوق العرق الأبيض، فقد توارثوا هذه النظرة الدونية من منظمة “كوكلوكس كلان”، ورغم زوالها وإقرار بعض الحقوق المدنية للسود، فإنها لم تزل حاضرة تحت مسميات أخرى وبأشكال مختلفة، وقد ساق الفيلم بعض الأمثلة عليها، من بينها ما حدث حين قيام سلطات تولسا قبل حوالي سنة بإزالة جدارية تُخلّد ذكرى المجزرة، وقد أبكرت بهذا لمنع احتجاج الأمريكيين من أصول أفريقية.

ورغم كل شيء فقد حدث الاحتجاج، وقد أخرج هذا الأمر مجموعة من البيض المدججين بأنواع كثيرة من الأسلحة بحجة حماية الشرطة من السود، وكأن التاريخ يُعيد نفسه بعد مئة سنة كاملة وإن اختلفت الحجة، لكن المنطلق الأساسي لم يختلف.

كما أن العنصريين ممن يتحكمون في مدينة تولسا أو حتى الفدراليين لم يرق لهم التطور الجديد في هذه المنطقة من طرف السود، لهذا قاموا وشقوا المدينة بطرق وطنية، حتى يقسموا هذا التكتل، ويقصوا على التضامن حسب قول أحمد المتداخلين في الفيلم، أي أن الأمر ما زال كما هو، رغم ترسانة القوانين.

منطقة تولسا قبل مئة عام حين قامت جماعات البيض بحرقها وقتل وتشريد من فيها

 

تغييب الجريمة من المناهج الدراسية.. طمس التاريخ

الغريب في “مذبحة تولسا” العنصرية هو التغييب الكلي لهذا الحدث التاريخي الهام في المناهج الدراسية الأمريكية، حتى أن كثيرا من الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية كانوا لا يعرفون تفاصيل هذا الأمر رغم بشاعته وقسوته، وقد توارد بعضهم الحكاية شفهيا.

حتى أن أحد المتداخلات قالت إن قريبتها رفضت الحديث عن هذا الأمر مرات كثيرة، وذلك لأنها لا تريد إحياء الألم الذي عاشته، لكنها عندما كانت تقوم بتحميمها رأت آثار السياط على ظهرها ففهمت الأمر.

كما تعجب القس والناشط الحقوقي “روبرت تورنر” من محاولة طمس هذا الأمر الذي لا يعرف عنه شيئا، لأنه لم يدرسه في المناهج التعليمية بكل الأطوار الدراسية، لهذا بدأ نشاطه الحقوقي للتعريف بهذه المجزرة، وفي الوقت نفسه اشتغل هو ومجموعة من الحقوقيين على رفع دعوات قضائية لتعويض الأحفاد عن هذا الأمر.

الممثل الكبير “توم هانكس” يستنكر تغييب المناهج الدراسية الأمريكية لمذبحة تولسا

 

“توم هانكس”.. فضيحة انتقائية التاريخ الذي يكتبه البيض

بعيدا عن سياق الفيلم كتب الممثل الكبير “توم هانكس” قبل أيام مقالا في “نيويورك تايمز” تطرق فيه لهذا الأمر، حيث قال: لم أقرأ أبدا صفحة من أي كتاب تاريخ مدرسي حول كيف قام حشد من البيض في عام 1921 بإحراق مكان يُدعى “بلاك وول ستريت”، وقتل ما يصل إلى 300 من مواطنيه السود، وشُرد الآلاف من الأمريكيين السود الذين كانوا يعيشون في تولسا.

وأضاف هانكس قائلا في حديثه عن التاريخ: كتبه في الغالب أشخاص بيض عن أشخاص بيض مثلي، في حين أن تاريخ السود -بما في ذلك أهوال تولسا- غالبا ما تستبعد من هذه الكتب.

وقد تطور الأمر أكثر من ذلك بعد زيارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” لتولسا وحديثه عن هذه المذبحة، وهو الأمر الذي لم يتطرق له الفيلم، لأن الزيارة جاءت بعد أيام قليلة من انطلاق عرض الفيلم.

مراسلة الواشنطن بوست “دينين براون” المهتمة في البحث عن حقائق علمية لتثبيت الحادثة التاريخية في تولسا

 

فريق التحقيق الوثائقي.. استنطاق المقابر الجماعية

اعتمد المخرج “جوناثان سليفرز” في فيلمه الوثائقي “تولسا.. النار والنسيان” على مبدأ التقفي والاستقصاء، وهذا من خلال مرافقته لعدد من الأفراد المنغمسين في البحث عن حقائق علمية لتثبيت هذه الحادثة التاريخية، مثل مراسلة واشنطن بوست “دينين براون”، والقس “روبرت تورنر”، والكاتب “هنيبال جونسون”، وأفراد من جمعيات حقوق الإنسان والخرائط والطب الشرعي، وهم أفراد من البيض والسود على حد السواء، يشتركون في البحث عن الحقيقية التاريخية.

وقد بدؤوا نشاطهم في السنوات الماضية من خلال التنقيب في المقبرة الرئيسية للبحث عن قبور جماعية، إضافة إلى الاستناد على الخرائط القديمة وسجلات المكتبة، وغير ذلك من الوثائق المهمة التي تؤكد حقيقة ما حدث في ذلك اليوم الأسود.

أثناء البحث والتنقيب عن مقابر السود الجماعية في أحد زوايا مقبرة أوكلاون عام 2020

 

“لماذا يكره البيض السود”.. مقارنات الماضي والحاضر

فتح المخرج في فيلم “تولسا.. النار والنسيات” مقارنة بين ما حدث قبل مئة سنة وما يحدث اليوم، حيث نظمت مظاهرة للاحتجاج على نظرية تفوق البيض، لكن في نفس تلك المظاهرة حضرت ميليشيا من البيض مجهزة ومسلحة بطريقة جيدة، مما يوحي بأن مظاهرة العنصرية هي أمر متجذر لدى البعض.

وفي هذا السياق تقول “دينين براون” في المقابلة التي أجراها معها الفيلم: أحيانا كثيرة يستدعى السود أمام الكاميرا بعد حدوث شيء عنصري لتفسير العنصرية، لشرح ما حدث، لكنني لا يمكنني تفسير لماذا يكره البيض السود كثيرا، لا أستطيع أن أشرح دوافع الميليشيا التي جاءت إلى تولسا لتعذيب المتظاهرين السلميين، لا أستطيع أن أشرح الجماعات المتطرفة البيضاء الأخرى التي أثارت العداء، حياة السود تهم المتظاهرين في جميع أنحاء البلاد.

 

إحياء المجزرة.. تعويض الأحفاد وانتصار الحق التاريخي

فيلم “تولسا.. النار والنسيان” هو عمل مؤسس ومؤثث بكثير من الوثائق المهمة التي سيجري الاستناد إليها مستقبلا لتثبيت وقائع “مذبحة تولسا” بطريقة علمية، كما سيكون الفيلم معينا لجمعيات الحقوق المدنية التي رفعت دعاوي قضائية بمجلس المدينة والحكومة الفدرالية، استنادا إلى أن البيض الذين قاموا بالمجزرة استعانوا بالشرطة التي سلحتهم وحمتهم، وبهذا تكون القضية مؤسسة بطريقة صحيحة.

وانطلاقا من هذه الفرضية الصحيحة تصبح عملية الاعتذار والاعتراف وتعويض أحفاد المتضررين انتصارا للحق التاريخي، كما أن الأمر سيكون فرصة للحكومة الأمريكية لتصحح بعضا من أخطاء الماضي كي لا تتكرر حاليا، وبهذا تظهر أنها ضد العنصرية وتحاربها.

وقد دفع الفيلم ببعض الجهات للتحرك قدما إلى الأمام، وهذا ما فعله الممثل “توم هانكس” الذي تطرق للحادثة في جريدة “نيويورك تايمز” العريقة والكبيرة كما ذكرنا آنفا، إضافة إلى الزيارة التاريخية المهمة التي قام بها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية “جو بايدن” إلى تولسا، وكلها مؤشرات توحي بنجاح الفيلم من جهة، ومن جهة ثانية تقدم القضية وبداية نجاحها على الصعيد الوطني.