“تينيت”.. تعثر “كريستوفر نولان” في آخر معاركه السينمائية

عبد الكريم قادري

هل كان “كريستوفر نولان” يفكر بالمستقبل أو سافر إليه بأفكاره الجامحة حين صنع فيلمه المستقل الأول “تتبع” (Following) عام 1997 ذا الميزانية المنخفضة التي بلغت 6 آلاف دولار، وهل استشرف المكانة السينمائية المرموقة التي وصل إليها اليوم بعد أن حققت أفلامه نجاحا تجاريا وجماهيريا ونقديا؟ فقد حصل من خلالها على جوائز مرموقة وحوالي 26 ترشيحا للأوسكار، ووصلت عائدات شباك تذاكر تلك الأعمال إلى أكثر من 5 مليار دولار.

فهل سيكون فيلمه الأخير -“تينيت” (Tenet) الذي أنتج عام 2020، ولعب من خلاله على وتر الزمن- استشرافا آخر لما سيكون عليه واقع السينما والعالم في المستقبل، وهل ستتحقق فكرة السفر عبر الزمن واقعيا كما رسمها في هذا الفيلم؟ هي معطيات أخرى جاء بها هذا المخرج في عمله الأخير ليحذر العالم من الآتي، فهل نجح في هذا التحذير؟

 

“تتبع”.. قطيعة مع قواعد السرد الكلاسيكية

عمد “كريستوفر نولان” في فيلمه الأول “تتبع” على إحداث قطيعة مع قواعد السرد الكلاسيكية والتأسيس لبناء جديد ورؤية مغايرة للمألوف، وكأنه يخلق بصمة خاصة في السينما ينأى من خلالها عن كل ما هو موجود، وقد كان وفيا لهذه الرؤى في معظم أفلامه التي حققها على مدار الـ23 سنة الماضية.

فعلى الأقل في معظم هذه الأعمال -حتى وإن كانت متفاوتة جماليا- كانت أساليبه في المجمل مختلفة وتحمل بصمة مخرجها الخاصة من ناحية السرد الذي لا يحتكم فيه إلى مقدمة وعرض وخاتمة، أو بناء الشخصية وفقا لتطورها مراعاة لأحداث العمل وتفاصيله، بل إن البناء في أعماله يأخذ طابعا مغايرا ومختلفا ومفاجئا في كثير من المرات.

بمعنى أنه يمكن أن يبدأ الفيلم من نهايته وعندما يصل إلى تلك النهاية يعود من الأول، أو يبتكر طرق سرد وكأنه يقوم برسمها، بمعنى أن لكل فيلم من أفلامه طريقة معينة يجسدها وفقا لمقتضى العمل.

 

“تذكار”.. سرد عكسي يحملك إلى ذهن المحقق المريض

من ناحية الفكرة والعمل عليها تشترك معظم أعمال “كريستوفر نولان” في خاصية الزمن الذي يستعمله كلازمة مسببة لفهم حالة معينة كما في فيلم “تذكار” (Memento) الذي أنتج سنة 2000، فهذه الحالة هي حالة مرضية تسمى بـفقدان الذاكرة التقدمي وهي التي أصابت شخصية العمل “ليونارد شلبي” (الممثل غاي بيرس)، وحسب ملخص العمل فإن “ليونارد” هو محقق جرائم سابق يبحث عن قاتل زوجته.

يصاب “ليونارد” بضربة على رأسه تفقده القدرة على تذكر الأحداث القريبة؛ مما يمنعه من تجميع بعض الأدلة عن جريمة القتل تلك، ولكي يُمكن نفسه من التعامل مع هذه الحالة فإنه يستعين بكتابة بعض الملاحظات والصور مستخدما الوشوم على جسده ليذكر نفسه.

استعمل “كريستوفر نولان” في هذا الفيلم طريقة سرد عكسية في محاولة منه لجر المشاهد وإدخاله على عقل “ليونارد شلبي” المريض، ورغم أن هذا الفيلم هو الأول في مساره كمخرج محترف في هوليود فإنه استطاع أن ينجح فيه، بل ويثبت بأنه مخرج صاحب موهبة ولم يأت إلى السينما من خلال ضربة حظ.

أما تعامله مع الفكرة في أفلامه فيأتي غالبا من خلال النظر للزمن كمسبب ومحرك أساسي للحياة بماضيها وحاضرها ومستقبلها، وقد كان هذا الحضور طاغيا في جل أفلامه إن لم يكن في كلها، ويظهر أحيانا  بشكل طاغ كما في فيلمه الأخير “تينيت”، وأحيانا يختبئ في التفاصيل مثل فيلم “بداية” (Inception) الذي أنت عام 2010، ويتناول قصة في غاية التعقيد من خلال عميل يقوم بالدخول إلى عقول الآخرين وسرقة أفكارهم أو زرعها فيهم حتى تظهر تلك الأفكار على أنها لهم، وبعدها يجري استعمالها.

الممثل “جون دافيد واشنطن” يقوم بدور الجاسوس المنقذ لزوجة تاجر الأسلحة الروسي الممثلة “كليمانس بوزي” بدور “لورا”

 

“تينيت”.. ألاعيب سردية للهروب إلى الفرضية والاحتمال

تحرر “كرستوفر نولان” في فيلم “تينيت” من مفهوم الواقع وتداعياته العينية على الإنسان، وذهب أبعد من ذلك إلى ما بعد الواقع، ما بعد فهم الإنسان وقدرة استيعابه للأشياء المحيطة به إلى عالم غير مستساغ ينظر له المتخصص أو الإنسان غير المدني بريبة وحذر، وينظر له العادي على أنه خيالي وغير موجود.

بينما تنظر له فئة ثالثة على أنه هو الواقع الذي نعيشه، بينما الخيال من كل هذا هو حياتنا العادية، لكن جميع الأطراف تحب رؤية الأفلام التي تعالجه وتقف على مواضيعه، كتذكرة هروب مما هو موجود بالنسبة لهم إلى ما هو غير موجود، أي إلى الاحتمال والفرضية.

يجسد فيلم “تينيت” هذه الفكرة ويبلورها بشكل مدروس حتى يضع الجمهور في قلب الاحتمال لتكون الفكرة الأساسية في الفيلم هي عملية التحكم في الزمن والبحث عن الميكانزمات التي تحول هذه الفكرة إلى حقيقة وواقع من خلال شخصية الجاسوس المنقذ (الممثل جون دافيد واشنطن) الذي يحاول فهم عملية وجود رصاصة لا تعترف بالزمن.

يكلف الجاسوس المنقذ بتتبع هذه الرصاصة ومعرفة مصدرها الزمني ومعرفة الآلة التي تتيح السفر عبر الزمن لإنقاذ البشرية من كارثة حرب عالمية ثالثة محتملة الحدوث، لتبدأ رحلة المغامرة والبحث من قبل هذا العميل الذي يقع في مواجهة مباشرة مع تاجر الأسلحة الروسي “أندري ساتور” (الممثل كنيث براناه).

من هنا يتحتم على الجاسوس التقرب من زوجته الحسناء “لورا” (الممثلة كليمانس بوزي) للوصول إلى زوجها ومعرفة السر العظيم الذي يختبئ خلف هذا الرجل الغامض، وكل هذا بمساعدة “نيل” (الممثل روبرت باتنسون)، لتتشعب الأحداث من خلال ألاعيب “كريستوفر نولان” السردية عبر الزمن.

صورة تجمع الممثل “جون دافيد واشنطن” الذي قام بدور “الجاسوس المنقذ” مع الممثل “روبرت باتنسون” الذي قام بدور “نيل”

 

“العقيدة هي درع الماضي وسلاح ضد المستقبل”

يعتبر الفيلم رحلة في الماضي والحاضر، ويقوم على فكرة إنقاذ البشرية عن طريق تصحيح وقائع حدثت، حيث تتحرك هذه الأحداث في مدن مختلفة يجمع بينها خيط رفيع هو البحث عن هذا السر وتفكيك الخطر الذي يهدد وجود الجنس البشري، و”تينيت” أو “عقيدة” كما تعكسها الترجمة هي الكلمة التي يتسلح بها البطل للدخول إلى العالم الموازي الذي وصله بعد اختبار كاد أن يذهب بحياته.

كما أنها المصطلح المفتاح لمحاولة التقرب من الآخرين، وقد وردت هذه الكلمة في أكثر من سياق، وربما أكثرها عمقا ما قاله “نيل” لصديقه البطل وكأنه يحاول أن يشرح له الكلمة بطريقة فلسفية: “العقيدة هي درع الماضي وسلاح ضد المستقبل”، لتنعكس هذه المقولة في الفيلم على أكثر من صعيد، كفكرة مجردة أو كتطويع لأحداث أو كتفسير لمطالب وأهداف.

 

أفلام شباك التذاكر التقليدية.. عملة الإبداع المفقودة

يصنف “تينيت” على أنه فيلم حركة وإثارة وخيال علمي، وقد انعكس هذا من خلال أحداث العمل وتفاصيله، لهذا نجد بعض المواجهات العسكرية كانقلاب السيارات والمشاجرات بين البطل وأعدائه والتنقل بين الماضي والحاضر وغير ذلك من مسببات التصنيف، وهي معطيات أدخلت العمل في الخانة العادية بعد أن عُولجت بطريقة تقليدية أخرجت “نولان” من خانة التميز والتفرد التي كان فيها وعرف من خلالها.

فقد ضاع “نولان” بعد التقديم الباهت للفكرة بواسطة المعطيات المذكورة في تلك التفاصيل وضيّع معه جمالية الفيلم وسينمائيته، وقدم عملا ببطل تقليدي، وكأن المشاهد يقف على نسخة مشوهة من سلسة فيلم “مهمة مستحيلة” أو “جيمس بوند”، وأكثر من هذا انصاع “نولان” -الذي كتب السيناريو أيضا- خلف فكرة العدو التقليدي للبشرية، وهو بالضرورة روسي انطلاقا من شخصية “أندري ساتور”، ويؤكد مرة أخرى بأن الروس هم من سيقضون على الجنس البشري، وأمريكا هي من ستنقذه.

كأن “نولان” في هذا الفيلم لا يرى بعين المبدع المغاير الذي عُرف به بل ينظر بعيون المنتجين، ومن هنا سقط في فخ الثقة الزائدة، وقدم عملا تقليديا كما حدث معه في فيلم “دونكيرك” (Dunkirk) الذي أنتج عام 2017، وكأن عملة الابتكار الجمالي عنده باتت محدودة أو مقيدة بمعطيات نجهلها.

“كريستوفر نولان” عمد على إحداث قطيعة مع قواعد السرد الكلاسيكية والتأسيس لبناء جديد ورؤية مغايرة للمألوف

 

حصار “نولان” لنفسه.. انتكاسة الوصول إلى القمة

حاصر “نولان” نفسه بأفكار معينة مثل حكايات الزمن التي باتت لازمة وحاضرة في أفلامه، وأكثر من هذا كله جاءت فكرة “تينيت” ثقيلة وغامضة على المتلقي الذي وجد نفسه محاصرا بمعطيات لا يملك عنها أي فكرة، كما كانت الإثارة الزائدة سببا في تضييع الفهم الجيد لما يمكن للفيلم أن يقوله.

وكأن بسط الفكرة وتثقيفها بمعطيات معرفية وحضارية لم تجد ما يؤسس لها علميا وجماليا وسينمائيا، لهذا قُدمت بتلك الطريقة حتى يأخذ المتلقي الإثارة والتشويق والعروض والحركة، وفي نفس الوقت يتخلى عن حقه في المعرفة ومنطق الأشياء ومنطلقها في الفيلم، وهو نوع من التعالي يمكن أن يضر بالمخرج نفسه مستقبلا.

حتى أن البطل الرئيس “ديفيد واشنطن” في الفيلم لم يكن بتلك الكاريزما التي تسمح له بأن يخطف اهتمام المتلقي، على عكس “كلينيث براناه” الذي قدم شخصية العدو اللدود والمغامر والرجل الفاسد الحقود، وهو نفس الممثل الذي اعتمد عليه “نولان” في فيلم “دونكيرك”.

كما أظهر الممثل “روبرت باتنسون” وجها آخر مغايرا تماما لما رسمه الجمهور حوله في سلسلة “الشفق” (Twilight)، وهذا ما فعله معه المخرج “روبرت إغرز” في فيلم “الفنار” (The Lighthouse) عام 2019، والسؤال الذي يبقى مطروحا هو: هل لو كان “كريستوفر نولان” يملك خاصية التنقل بين الزمن مثل بطله هل كان ليصنع فيلم “تينيت”؟