جائعو أميركا !

دفعت الأزمة الإقتصادية، التي تهيمن على الحياة الأمريكية منذ ستة أعوام، مخرجين ومخرجات أمريكيين، واحيانا أوربيين، لتقديم أعمال تسجيلية تتناول مشكلة الفقر والجوع في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي بلغت حدوداً غير مسبوقة (هناك خمسون مليون أمريكي كانوا  يعانون الفقر الشديد في العام المنصرم). ظاهرة العوز الأمريكية هذه، وكما تخبرنا أفلام تسجيلية من العام المنصرم، ليست وليدة الأزمة الاقتصادية الحالية، هي موجودة دائماً في المجتمع الأمريكي، وإن ما تَفعله الأزمات الإقتصادية، التي تحلّ كل عقدين تقريبا، هي دفع ملايين الأمريكيين، الذين يعيشون على حافة الكفاف، لينضموا الى فقراء آخريين من بلدهم، بعضهم وَرث المشاكل الاقتصادية من الأجيال التي سبقته، في الدولة، التي تُمثل في مُخيلة كثيرين  “أيقونة” للنجاحات، ومازال يُطلق عليها: بلد الفُرص وتحقيق الأحلام.

يهمين “الطفل” الأمريكي على الفيلمين التسجيلين الجديدين : “أطفال أمريكا الفقراء” و”مكان على الطاولة”. هو في الفيلمين، الضَحية الأبرز لمشاكل المجتمع الأمريكي الإقتصادية. الطفل الأمريكي العاجز عن العمل، يتلقى منذ سنوات ترددات الأزمة الإقتصادية الكبيرة في بلده، والتي وصلت أحيانا لفقده لبيته، والجوع الفعليّ الذي يُعانيه، والذي يَحدث، وهذه مفارقة كبيرة، في واحدة من أغنى دول العالم. كما إن هذا الطفل، هو ضحية لسياسيات حكومية أمريكية، لا تجد ضيراً في دفع مئات المليارات من الدولارات في حروب كونيّة، لكنها تعجز، وكما يخبرنا فيلم “مكان على الطاولة” ، عن توفير غذاء صحيّ مناسب لطلبة مدراسها الحكومية، وكحال دول العالم المُتحضر.

يكاد الفيلمان التسجيليين المذكوران يكملان بعضهما فنياً، من جهة تقديمهما لقصص شخصية لأمريكيين يواجهون مِحن العوز في السنوات الأخيرة، مع توفير خلفيات إحصائية وتحليلة تليق بالفيلم التحقيقي الإستقصائي. واللآفت إن فيلم ” أطفال أمريكا الفقراء”، والذي عُرض ضمن سلسلة “هذا العالم”، على القناة الثانية لهيئة الإذاعة البريطانية ( بي بي سي)، كان أقرب في معالجته للفيلم التسجيلي التقليدي، رغم إنه انتج للتلفزيون، في الوقت الذي يُهمين الإسلوب التحقيقي التلفزيوني على فيلم “مَكان على الطاولة” للمخرجين كريستي جاكبسون و لوري سيلفربوش، رغم إن هذا الأخير عُرض في الصالات السينمائية في الولايات المتحدة الأمريكية.

يرافق فيلم ” أطفال أمريكا الفقراء ” ثلاث عوائل أمريكية، إنقلبت حياتها بالكامل بعد الأزمة الإقتصادية التي حَلت في بلدهم. الفيلم لن يتوسع كثيراً في طريق هذه العوائل الذي قادها للفقر، لكن الحوارات سَتَمر على فقدان معيليِّ تلك العوائل لإعمالهم، ومن بعدها لمساكنهم، بسبب عجزهم عن سِداد قروض هذه البيوت. الفيلم من جانبه سيُركز على أطفال هذه العوائل، وأثر تشرد الأهل على حياتهم ووضعهم النفسي. صَور الفيلم، وعلى فترة قاربت العام، تَشرد هذه العوائل، بين الغرف المؤقته، التي توفرها جمعيات خيرية، ومعاناتها المستمرة للحصول على الطعام. لا تبدو هيئات أطفال الفيلم البريطاني، تُشبه الصورة الشائعة للجائعين، في أفريقيا مثلاً، لكنهم يعانون فعلاً من نقص الغذاء الصالح للأكل. يُسجل الفيلم، الرحلة اليومية لأهل الأطفال، لبنوك طعام الفقراء، للحصول على وجبات تتناقص كل إسبوع، بسبب عجز هذه البنوك عن تلبية الطلب المُتزايد عليها، مع إنضام ملايين الفقراء الجدد لزبائنها كل عام.

مكان على الطاولة

يَفتح فيلم “مكان على الطاولة” نيرانه بإتجاه الحكومة الأمريكية، التي تدفع مليارات الدولارات لمساعدة شركات إنتاج محاصيل زراعية، يستخدم أغلبها في انتاج غذاء غير صحي، في حين تعجز عن المساعدة في وصول منتجات طبيعية لكثير من المناطق النائية في الولايات المتحدة الأمريكية. تروي بعض شخصيات الفيلم، أن قُراهم لا تضم محلات تبيع الخضروات والفواكه الطاجزة. كما سيمر الفيلم على معضلة غذاء المدراس ( توفر المدراس في الولايات المتحدة الأمريكية وجبتي الإفطار والغذاء لطلابها مجاناً)، وكيف إن الحكومة عاجزة عن زيادة ميزانية غذاء المدراس هذا، ليكون متوفراً على كل المُكونات الغذائية اللآزمة لبناء صحيّ لهؤلاء الأطفال.
يربط فيلم ” مكان على الطاولة ” بين الفقر والمشاكل الصحيّة التي يعاني منها ملايين الأمريكيين، فعدم توفر الأموال الكافية لشراء غذاء صحي، يدفع كثير من الأمريكيين لشراء المنتجات الدسمّة والغير صحية، والتي تباع بأسعار زهيدة، بسبب دعم الحكومة الأمريكية نفسها، للشركات التي توفر المواد الأولية لصناعة هذه المنتجات. “الجوع” في الولايات المتحدة الأمريكية يحمل أحيانا معاني مختلفة عن دول اخرى في العالم، فالأطفال البدنيون الذين يظهرون في الفيلم، لا يملك أهلهم المال الكافي لشراء خضروات طازجة، لذلك يملئون بطونهم بأكياس البطاطا الجافة، والحلويات المُعلبة، التي يحصلون عليها مجاناً من بنوك الطعام الأمريكية.
يسير فيلم “مكان على الطاولة” على خطى أعمال تسجيلية أميركية شهيرة، من العقد الأخير، في تحذيره من المشاكل الصحية الجديّة التي يعاني منها الأمريكيين، حيث يتوقع إن جيل كامل من الأمريكيين الشباب، لن يعيشوا أطول من الجيل الذي سبقهم، خلافاً لما هو سائد في دول العالم الأول او حتى العالم الثالث. الفيلم سيرافق أم عزباء تجتهد لتوفير الغذاء لطفليها الصغيرين. شهادة أم فيلم ” مكان على الطاولة “، تُشبه تلك التي قدمها الفيلم التلفزيوني ” أطفال أمريكيا الفقراء “، وان كان الأخير يتوسع ليقدم تسجيل بطيء لوقع الأزمة الإقتصادية الحادة على حياة أمريكيين، كما إن ” أطفال أمريكيا الفقراء ” سيتميز حقا بالشهادات الطويلة لأطفال، لم يتجاوزوا العاشرة، لكنهم يتذوقون منذ بضعة سنوات مرارة الفقر وأحيانا الجوع.