“جمهورية الجوع”.. أمعاء خاوية حول تاج محل المهيب

لم يوجد الإنسان على هذه الأرض إلا وكان غذاؤه قد وُجد قبله، فتجوّل الإنسان على راحته حين كانت هذه الأرض غير مُقسَّمة يلحق برزقه ولقمة عيشه أينما وجدت، حتى استقر في مكانه ليزرع ويأكل ما حصده. لكن بعد أن أصبح هناك سلطات تدير كل بقعة من الأرض يبرز التساؤل التالي: هل ما يزال الرزق يكفي البشر جميعا؟

يحكي فيلم “جمهورية الجوع” عن الجوع وسوء التغذية في الهند الذي يتسبب في موت الأطفال، يتجول في الأماكن التي تُعاني من الفقر، مبرزا التناقض الواضح في طبيعة جميلة مُلوّثة بالفقر والجهل وقلة الحيلة. أنهار تنافس النفاياتُ ماءها، وقماش كان ثيابَ بشر يشدّه جريان الماء الذاهب إلى المجهول، أو إلى أي هاوية، أو ربما يبقى مُعلقا بحديد جسر النهر كأنه يقاوم الموت.

ولادة الإله “راما”.. بذخ مقدس في بلاد الجائعين

الموت في الهند حاضر في كل يوم وكل لحظة بين الفقراء والأطفال بشكل خاص، إذ يعاني 25 مليونا منهم من الجوع، بينما يعاني 40% منهم من سوء التغذية، في الوقت الذي لا ترى فيه الطبقة الوسطى الفرق بين حياتهم وحياة هؤلاء.

نعلم في تعاليم الأديان كافة أن مساعدة الفقير واجبة على الميسور، ولكن يبقى الدين فولكلورا لا تطبق تعاليمه، وإلا لما وجدنا أحدا في العالم محتاجا أو جائعا لحد الموت.

في المهرجانات الهندوسية في الهند، وبمناسبة ولادة الإله “راما”، نشاهد من خلال الفيلم كيف تُقام حفلات الإطعام الجنونية والمبالغة في الإسراف، فهي تزيد -حسب معتقداتهم- الحسنات أي “الكارما”. إن هذه الأمة تنتج ما يكفي لإطعام سكانها البالغين مليارا ومئتي مليون نسمة، غير أن الفساد وسوء الإدارة في الدولة، هو السبب الرئيسي لهذه الكارثة الإنسانية.

كبرى ولايات الهند “أوتار براديش” وموطن “تاج محل” الشهير حولها حزام حقيقي من البؤس

إهمال الدولة وسوء الإدارة.. رعاية بطعم الحشرات

يأخذ الفيلم “روشان” نموذجا، وهي فتاة تبلغ من العمر تسعة أعوام وتسكن في ضواحي دلهي، وقد اعتادت الذهاب إلى الفراش جائعة، فهي تُعاني من الأوجاع وسوء التغذية، إذ أنها تأكل كمية من الطعام أقل من حاجتها بكثير، ولكن حالتها ليست الأسوأ، فهناك من يعاني من التقزم للأسباب نفسها.

اتخذت الدولة بعض الحلول كتقديم وجبة ساخنة ومجانية يوميا في المدارس، لكن الفساد لا يترك البشر في حالهم، فحسب الخبيرة الاقتصادية “ريتيكا كيرا” وحسب “روشان” أيضا، فإنهم لا يأكلون الوجبات المقدمة لهم، لأنهم يجدون فيها الحشرات، إنه إهمال يزعج الأطفال ويدفعهم لترك المدرسة.

أما نظام الرعاية الاجتماعية الذي يُقدم المساعدات الغذائية التي يعتمد عليها كثيرون، فهو يعاني أيضا من سوء الإدارة والفساد، فالمستودعات المليئة بالقمح تُباع رابحةً في السوق السوداء بنسبة 100%. ويُتلف بعضها في مستودعات الدولة نفسها بدلا من توزيعها، إذ تبقى مقفلة بوجه الناس، ولا تكاد تفتح إلا مرة في الشهر.

طبعا ينكر المسؤولون هذا الأمر، لكن الفيلم يتابع هذه التفاصيل ويُثبت الإهمال من خلال شهود العيان.

تاج محل.. ضريح باذخ وأطفال يأكلون روث البقر

إن كبرى ولايات الهند أوتار براديش وموطن تاج محل الشهير حولها حزام حقيقي من البؤس، ففي 400 منطقة منتشرة حولها يعاني نصف عدد الأطفال من سوء التغذية، إنه تناقض في المشهد، حيث فخامة وعظمة تاج محل يحيط بها بؤس البشر.

كنا نتمنى لو دخلت الكاميرا إلى المكان ليرى المُشاهد عظمته وأناقته ولمعانه، ويعود ثانية إلى تفاصيل حياة البشر في الخارج. أجساد عارية ذات عظام نافرة جائعة، بينما أعمدة ضريح الأميرة في تاج محل صقيلة باذخة. الكاميرا لا تهدأ، بل تظل تتنقل في الأمكنة والشوارع العامة التي تفتقر للنظافة، ليصبح مشهد القذارة مألوفا كعنصر من عناصر الطبيعة، كما أن الذباب لا يغيب عن المشهد.

البعض يعزو الجوع إلى أن البلد فقير إلا أن هذا سبب غير مقنعهجر الدكتور “سيدارت أغراوال” مهنة الطب وكرّس حياته لمعالجة سوء التغذية عند الأطفال من خلال مؤسسته غير الحكومية، وأنشأ مخيمات للوصول إلى الناس، ففي رأيه أن تمكين الأمهات هو مفتاح لحل المشكلة.

أما “ساشين جاين” المناصر للمجتمعات المقهورة في ولاية ماديا براديش، فقد اكتشف أن الأطفال يبحثون في روث الحيوانات عن بذور يغسلونها ويأكلونها. أمهات فقدن أولادهن بسبب الجوع، لكن المسؤول الحكومي “جون كينكزلي” ينكر أن الوفيات هي من الجوع. وهل العين تكذب، وهل يكذب كل هذا الفقر الواضح حتى لأغبى الأغبياء؟

اقتصاد قوي وشعب جائع.. أرض المتناقضات

إن كان البعض يعزو الجوع إلى أن البلد فقير فهذا سبب غير مقنع حسب الفيلم، لكون الهند حققت تقدما سريعا في التعليم والصحة وإنشاء المؤسسات، وتتمتع بنظام اقتصادي قوي، وإنما يعود هذا التردي إلى عدم المساءلة في البرامج الحكومية، وسياسة التجويع الواضحة.

كنا نفتقد في الفيلم إلى إظهار بعض الرفاهية والغنى الفاحش المعروف أيضا في الهند، أمام هذا البؤس غير المقبول إنسانيا كمقارنة ضرورية.

فيلم “جمهورية الجوع” غني باللقطات والمشاهد الإنسانية غير المفتعلة

يصل الفيلم إلى أن ثمة إمكانية للتصحيح إن كانت هناك إرادة، وأهم ما يمكن فعله هو تمكين الناس حتى لا يبقوا مجرد متلقين للهِبات، وتقديم الرعاية الاجتماعية للأطفال الذين سيكونون القوة الاقتصادية في المستقبل، وبلادهم هي إحدى أكبر الاقتصادات، وهي مرشحة لأن تحتل المرتبة الأولى في الاقتصاد العالمي عام 2050.

كيف يسرق جائع طعام إلهه؟

تحلم الطفلة “روشان” بعدما تحسنت صحتها بأن تصبح طبيبة تساعد الناس وتطعمهم، فماذا تقول دولتها التي تحمل كل الخزي لإهمالها صحة ملايين الأطفال الذين يموتون صريعي الجوع، على الرغم من وجود نظام رعاية شامل؟

فيلم “جمهورية الجوع” غني باللقطات والمشاهد الإنسانية غير المفتعلة، ولم تكن تحتاج لذلك بالتأكيد، وعلى الرغم من بؤسها فإننا نتذكر تلك الحضارة الضخمة، فنستغرب في تلك البلاد الغنية بالمعابد المنحوتة جدرانها بسخاء، كيف يأتي جائع ويسرق طعام إلهه ليسد جوعه؟

الحرير واللون الأحمر الهندي رغم الجوع رأيناه ملفوفا على بعض أجساد السيدات اللواتي يُزينّ الفقر بالخلاخل والحلق والأساور، والألوان البديعة في الثياب الرثة. وعيون أطفال سوداء كحيلة يسخر سحرها من الظلم والموت الآتي من الجوع.