“جهاد في هوليود”.. كفاح سوري هارب من جحيم بلاده

خاص-الوثائقية

 

يمسك بك فيلم “جهاد في هوليود” من إنتاج الجزيرة الوثائقية منذ اللحظة الأولى، فلا تغادر عيناك الشاشة حتى تنتهي دقائقه الـ44. يقع عنوان الفيلم موقعا مفزعا في البداية مع بعض الارتياب، ثم لا يلبث أن يومض بالحقيقة المنشودة؛ جهاد هو جهاد عبدو الممثل السوري الهارب من جحيم بلاده والمعارض لآراء السلطة هناك، فقد غيّر “جهاد” اسمه إلى “جاي” خوفا من المعنى الذي يتحلّى به اسمه، فالأمريكيون لا يعرفون من الجهاد سوى ما يُلبسه إياه إعلامهم، غير عارفين أن له معاني أخرى.

عنصر الجذب والتشويق في الفيلم تلتقطه منذ البداية، حيث تعيش يوميات جهاد وزوجته وسعيه إلى فرصة عمل في التمثيل، تعبيرات وجهه وتجاعيده بسنواته الـ57 ولحيته التي خطّها الشيب تخبئ في طياتها وأخاديدها قهرا أو فرحا بعد عناء، لا بدّ أن كل من بلغ هذا العمر قد خبِرَهما. تركيز الكاميرا عليها ومحاولة الحفر تحتها للوقوف على المعنى، يثيران في نفس المشاهد أسئلة لا شعورية تترك له احتمالات الإجابة كي يتفاعل معها ويزينها في مخياله، فكان لا بدّ من تقريب الكاميرا لتلتقط تلك التفاصيل محاولة نبشها والحكي عما اكتسبته من خبرة.

 

من سائق أوبر إلى هوليود

“نظرا لأنكم لم تتلقوا ردا منذ أكثر من ثلاثين يوما، فيجب عليكم إرسال مطلبكم من جديد”

يُبرز الفيلم معاناة جهاد في السفر، وهي حالة يمكن إسقاطها على أيّ سوري عانى وخبِر منفى القهر، هنا ينتقل الفعل من الفردي إلى الجمعي.. بما أنك لا تزال لاجئا ولم تكمل أوراقك الرسمية؛ ستعاني المشاق، سيكون ممنوعا عليك السفر، لن تتنقل بحريتك، وستحس أن حريتك الموعودة التي هربتَ بها قد سُلبت منك.

تسعى الكاميرا لالتقاط تعبيرات جهاد وزوجته، واليأس الذي تملّكهما عندما جاء الجواب بإعادة إرسال الطلب ثانية. هما متمرسان أمام الكاميرا، يتكلمان ويضبطان انفعالهما ويتبادلان الأدوار، يرمي إليها سؤالا فتعيده إليه جوابا، كأن الكاميرا غير موجودة، ترتكز في زاوية الغرفة في بيتهما المتواضع الذي توسلت زوجتُه مالكتَه لتؤجرهما إياه، مع لقطات تقريبية لوجهيهما.

“هوليود”، تلك الأحرف المنصوبة على تلة في لوس أنجلوس، هل من ممثل لا يحلم بها؟ بلغها جهاد من وراء البحار بعدما عمل سائق تاكسي وسائقا لتوصيل البيتزا وتوصيل الأزهار وإعطاء دروس في اللغة العربية.

الحظ يحتاجه البشر، سواء في ذلك منهم من آمن به ومن لم يؤمن، فتميمة الهنود الحمر توضح أن الهمّ الإنساني واحد، هل يكون الحظ منقذ السوريين بعدما خان الهنود الحمر؟

ينتقل جهاد عبدو إلى “ملكة الصحراء” إلى جانب نيكول كيدمان

 

جهاد إلى جوار “ملكة الصحراء”

يسير الفيلم بسلاسة، وينتقل إلى جولات تجارب الأداء (كاستينغ) التي كان يجريها جهاد، تتجول الكاميرا بينه وبين الأشخاص الموجودين في القاعة، تهتز بينهم وترصدهم، ترقب تعابير وجوههم، فهل أقنعهم؟

تنزل الكاميرا إلى قبضتَي جهاد المضمومتين المتأرجحتين، يشدّ عليهما لتوحيان بالتصميم والإرادة، وتُبديان الخوف المتراكم سنوات طوالا، وقد استطاع المخرج انتزاع خبايا ذلك من جهاد لينعكس في وجهه، ويفرغ شحنات غضبه وانفعالاته في وجه الصحفية أمامه.

بلاغة الموسيقى كانت اللغة الأجدى، فيدركها من يستمع إليها مهما اختلفت اللغات والأعراق وتباعدت المسافات، فهي تتكلم لغة واحدة تؤثّر في المستمع، يشترك فيها من يتكلمان لغتين مختلفتين، ومن ينتميان لحضارتين متمايزتين، لكن لماذا اختار جهاد الذهاب إلى المنتج والمخرج الأمريكي “فيرنر هيرتزوغ”؟ تلك نقطة قوة في صالحه، حيث يدرك أن للموسيقى تأثيراً ينفذ إلى الدواخل ليقنع الروح ويحاكيها.

تتمدد زوجته بساقها المكسورة، حيث لا إعانة ولا حماية في العمل، كما ينقطع التيار الكهربائي عن المنزل، هل هذه أمريكا؟ إنها لا تختلف عن سوريا، فما الفرق الآن بين البلدين؟

تبلغ لحظة اليأس الذروة، وتأتي العقدة بلا حلّ، هل انقطع خيط الأمل؟ لكن الوثائقي يفتح الآفاق بانتقاله من لحظة العتم البهيم إلى شروق شمس يوم جديد، يوم يحمل براحتيه الشمس، حيث ينتقل إلى “ملكة الصحراء” بدوران سريع إلى جانب نيكول كيدمان، ها هو الحلم يصبح حقيقة بعد سنوات من الشتات والضياع؛ إنها هوليود.

يفكك الوثائقي عبر جهاد وزوجته معاناة السوريين في بلاد المهجر

 

“بس بدنا نعيش بسلام”.. حين يصبح البيت وطنا

يفكك الوثائقي عبر جهاد وزوجته معاناة السوريين في بلاد المهجر، حيث صعوبة تحويل الأموال إلى سوريا، أو رصد الشحنات الانفعالية والنفسية عند التواصل مع الأهل، فتترك الكاميرا لهما حرية التعبير.. دموع تنهمر ولحظات اختناق، ومن دون تعليق صوتي تدور الكاميرا حولهما، بهذا يتحولان إلى صورة جامعة لكل لاجئ أو مبعد عن أرضه السورية، تُضارع لواعج النفس التي تتنازعها وعوامل الشوق إلى الأرض.

ترسم زوجة جهاد بيتا صغيرا يرمز إلى بيت الوطن الأصلي، أو تعويضا عن البيت الذي يسكنانه، فربما تهدمه الشركة التي استحوذت عليه، فهل فُقد الأمل؟ ربما.

تحمد زوجته الله كل صباح بالقول “الحمد لله اللي ما جبت ولاد على هالدنيا، الحمد لله اللي ما كنت السبب بمأساة طفل”.. تلك مقولة أساسية في الفيلم، فهي تومئ إلى حالة الألم التي جعلت السوري يتمنى أن لا يُنجب كي لا يكون مصيره كآبائه، فتعكس الانسجام بينها وبين جهاد الذي يرى أنه “ما حدا بأمان، ما في حدا هلأ آمن”، وتؤكد زوجته “أنا وجهاد ما بدنا شي من هالدنيا، بس بدنا نعيش بسلام ببيت صغير نسميه وطن، ما عاد بدنا شي”. مرة أخرى يحضر الهمّ السوري الجمعي برمزية بناء البيت وتسميته “وطن”، وهو أمر صار بعيد المنال من كل سوري ابتعد عنه.

ينسجم إيقاع الفيلم مع مراحل حياة جهاد، فيبدو تارة سريعا وأخرى هادئا، ولحظات أخرى بين بين

 

الصورة والموسيقى.. توازنات إيقاعية

ينسجم إيقاع الفيلم مع مراحل حياة جهاد، فيبدو تارة سريعا وأخرى هادئا، ولحظات أخرى بين بين، حيث يخطو في تجربة توثيقية لما مرّ به من أعمال واختبارات الأداء والدخول إلى الكواليس للمرة الأولى، إنها تجربة فريدة لم يقدم عليها أيّ ممن حكى عن تجربة جهاد في هوليود.

كانت الكاميرا تهتز لتوحي بعدم الطمأنينة في لحظات التأرجح، بينما تثبت في لحظات تحقيق شيء ما، لتنتقل بين المستمعين إليه تاركة مساحة للشخصيات الثانوية كي تُبدي تفاعلاتها، وللشخصيات التي تدير الحوار عفويا بلحظات فيلمية مكثفة.

الصورة البصرية مع الموسيقى التصويرية التي رافقتها بتوازنات نغمية تُحاكي الحالة الشعورية الدافقة في النص، حيث أضفت جمالية جعلت النص متينا، وربطت بين الحوار البسيط الناجم عن الحياة اليومية، وخلقت توازنا بينهما فامتلأ الفيلم صدقا، وذلك بعد أن عالج إشكاليات عميقة شكّلت عقدا كثيرة في كل مرة يأتيها الحلّ من جهة ما، وإن لم تُحل “نرجع لأوبر”.