“جوكر”.. مُحاكاة لواقع المنبوذين في المجتمع الأمريكي

عدنان حسين أحمد

يأخذنا المخرج تود فيلبس في فيلمه الجديد “جوكر” إلى قاع المجتمع الأمريكي، وذلك ليتتبع شخصية آرثر فليك التي جسّدها ببراعة نادرة الممثل خواكين فينيكس، حيث تقمّص شخصية الممثل الكوميدي الفاشل الذي يعاني من اضطراب عصبي ينخرط صاحبه في نوبات غير مُسيطَر عليها من الضحك أو البكاء أو البوح بالمشاعر المكبوتة.

وبما أنّ آرثر يعيش في مدينة غوثام، وهي بالمناسبة مدينة خيالية تظهر في كتاب الكومك الذي وُلد فيه باتمان وروبن هود؛ فإن القصة السينمائية رمزية، لكنها تُحاكي واقع المهمّشين والمنبوذين والمُستبعَدين في المجتمع الأمريكي، والذي يتألف من أصحاب الثراء الفاحش والطبقة المتوسطة، والفقراء الذين يعتمدون حتى في علاجهم على الجمعيات الخيرية وتبرعات المُحسنين.

مدينة الفقر والحرمان

تعود بنا قصة الفيلم التي كتبها تود فيلبس بالاشتراك مع سكوت سيلفر إلى عام 1981، حيث تغصّ مدينة غوثام بالجريمة والبطالة، فلا غرابة أن تعاني الغالبية العظمى من الفقر والحرمان، فكيف يتدبّر آرثر فليك أموره اليومية وهو يعاني من هذا المرض النفسي الخطير؟

لم يكن آرثر بمنأى عن العصابات التي تُداهم الحيّ الذي يقيم فيه، الأمر الذي دفع زميله راندل إلى تزويده بقطعة سلاح يستعملها عند الضرورة. وعلى الرغم من توتره (آرثر) يدعو جارته صوفي إلى عرضه الكوميدي، ثم يشرع في ضرب المواعيد التي تخفف بعضا من انفعالاته المتواصلة.

تكشف المَشاهد الأولى من الفيلم أنّ الناس يبحثون عن العمل في أوقات عصيبة، بينما ينهمك آرثر بكتابة مذكراته التي هي أقرب إلى النكات والطرائف والتخيلات المُضحكة منها إلى المذكرات الشخصية التي قد تجعل موته مفهوما أكثر من حياته. وكلما حرّضته أمه على العمل يرد عليها “إنني أتابع مهنتي بصفتي ممثلا كوميديا”، ولا يفكر إلاّ بالشُهرة القادمة التي سوف تُدرّ عليه الكثير من الأموال.

لم ينسَ آرثر ذكريات الحجز في المستشفى، وجُلّ ما كان يتمناه من الطبيب أن يزيد جرعة أدويته السبعة التي تتحمل أثمانها الجمعيات الخيرية.

يُصنّف "جوكر" ضمن أفلام الدراما والإثارة والجريمة، كما ينبش في السيرة الذاتية
يُصنّف “جوكر” ضمن أفلام الدراما والإثارة والجريمة، كما ينبش في السيرة الذاتية

ضحكة مُبهجة وتقلقل عاطفي

يُصنّف “جوكر” ضمن أفلام الدراما والإثارة والجريمة، كما ينبش في السيرة الذاتية، فالفيلم برمته يكاد يكون “دراسة شخصية” لآرثر فليك المُصاب بـ”التقلقل العاطفي” كما يُطلق عليه علميا، لأن مشاعره عُرضة للاهتزاز في أية لحظة.

لا بدّ لكاتبَي السيناريو من التركيز على فقر مدينة غوثام مكانا وأناسا، فـ”الجرذان الخارقة” تجتاحها من الجهات الأربع، و”توماس وين” المرشّح لمنصب العُمدة يتوعد هذه الجرذان بـ”القطط الخارقة” التي ستلتهم أعداءها الألِدَّاء.

يعتمد الفيلم في جانب كبير منه على تقنية “توك شو”، وبواسطة هذا البرنامج الجماهيري الواسع الانتشار نتعرف أكثر على شخصية آرثر، وذلك حين يتواصل معه مقدم البرنامج “موراي فرانكلين” (أدّاه بإتقان الممثل روبرت دي نيرو)، ثم يستضيفه في إحدى الحلقات.

وعبر هذا التواصل البسيط نكتشف جوهر الثيمة الدرامية التي تقوم عليها قصة الفيلم، حيث كانت أمه تطلب منه دائما أن يبتسم وأن يُطلّ على الناس بوجه جديد، لأنه يبدو أجملَ حين ينشر ضحكته المُبهجة.

ثمة شعور معادٍ للأغنياء يرصده المخرج في مدينة غوثام
ثمة شعور معادٍ للأغنياء يرصده المخرج في مدينة غوثام

احتجاج ضد الأثرياء

تنطوي قصة الفيلم على أسرار تتضح شيئا فشيئا، فأمه (بيني فليك) المريضة عقليا وبدنيا، كانت تعمل لمدة ثلاثين عاما مع توماس وين، وقد تركت رسالة مخبأة بين الأوراق تكشف فيها عن طبيعة العلاقة التي تربطها مع ربّ العمل، وثمة تلميحات إلى أن آرثر قد يكون ابنا لرجل الأعمال الذي دفع عن نفسه هذه التُهمة.

ثمة شعور معادٍ للأغنياء يرصده المخرج في مدينة غوثام، فلا غرابة أن يتسلّح آرثر بمسدس سوف يسقط في أثناء وصلته المسليّة التي يقدّمها في مستشفى الأطفال، لكنه ما إن يتعرّض للضرب على أيدي ثلاثة رجال ثملين يعملون لمصلحة “توماس وين”؛ حتى يسحب مسدسه ويُطلق النار عليهم في حالة دفاع عن النفس.

لكن وين الملياردير المرشّح لمنصب العمدة يستهجن عملية القتل، ويصنّف أولئك الناس الذين يحسدون الآخرين على نجاحاتهم بـ”المهرّجين”، فتنطلق المظاهرات الاحتجاجية ضد أثرياء غوثام، حيث يرتدي المتظاهرون أقنعة المهرج التي تحمل صورة آرثر ومعالمه التي باتت معروفة. كما أنّ تقرير شاهد عيان يقول بأن المشتبه به رجل يضع قناع مهرج، الأمر الذي يضعه في دائرة الشكوك.

إنّ هدف آرثر في الحياة هو جلب الضحكة والبهجة لهذا العالم القاسي والبارد
إنّ هدف آرثر في الحياة هو جلب الضحكة والبهجة لهذا العالم القاسي والبارد

“سأصبح كوميديا”

حينما يقدّمه موراي فرانكلين للجمهور يقول “إنّ هدف آرثر في الحياة هو جلب الضحكة والبهجة لهذا العالم القاسي والبارد”، فمدينة غوثام تفتقر إلى الدفء والحيوية، ويعاني أهلها -وخاصة الفقراء والمعوزين منهم- من الرتابة والكآبة والملل، وأكثر من ذلك فإن الأطفال لا يحبّون الذهاب إلى المدارس.

وربما تكون كلمة آرثر للجمهور هي خير دليل لما نذهب إليه حينما يخاطبهم قائلاً “كرِهت المدرسة في صغري، بينما كانت أمي تقول يجب عليكَ أن تستمتع بها، ويوما ما يجب عليك أن تعمل لكسب رزقك وقوت يومك”، فيأتي ردّه جاهزا “لن أعمل يا أمي لأنني سأصبح ممثلا كوميديا”.

يذهب آرثر للقاء توماس وين ويتحدث عند بوابة المنزل مع ابنه بروس، لكنه سرعان ما يغادر المكان بعد مشاجرة مع الخادم ألفريد الذي احتج على تقديم الزهور لبروس أو حتى الحديث معه، بينما لسان حال آرثر يقول “كنتُ أحاول أن أجعله يبتسم فقط”.

وبما أنّ الشكوك تحوم حول هذه الشخصية الكوميدية، فقد قام اثنان من رجال الشرطة بزيارته للتحقيق معه في جرائم قتل، بينما كانت والدته تعاني من سكتة دماغية ونقلت إلى المستشفى.

أمه (بيني فليك) المريضة عقليا وبدنيا، كانت تعمل لمدة ثلاثين عاما مع توماس وين
أمه (بيني فليك) المريضة عقليا وبدنيا، كانت تعمل لمدة ثلاثين عاما مع توماس وين

أوهام في مُخيلة مشوّشة

يلتقي آرثر بتوماس وجها لوجه، فيخبره الملياردير بأن أمه “بِيني” كانت مريضة وواهمة، وقد أنكر أيّ علاقة عاطفية بينهما، الأمر الذي دفع آرثر لزيارة مستشفى أركهام الحكومي ليسرق ملف والدته الطبي الذي يقول بأنها تبنتهُ وسمحت لصديقها بأن يعتدي عليه، والأهم من ذلك أن توماس قد استعمل نفوذه لتلفيق قصة التبنّي وإجبارها على إخفاء العلاقة التي تربطهما.

يتنصل الأب من ابنه الحقيقي الذي قَدِم إلى الحياة عن طريق علاقة غير شرعية، فلا غرابة أن يستفز آرثر ذلك ويحرّك مشاعره المرهفة فينخرط في حالة هوس تمتزج بين الضحك والبكاء، فيذهب إلى المستشفى ويخنق أمه، ليتحول إلى قاتل متسلسل لا يجد ضيرا في الإجهاز على أي شخص يُسبب له ألما جسديا أو معنويا.

وعلى إثر هذه الجريمة يَدهم آرثر شقة صوفي من دون موعد، فتطلب منه المغادرة بعد أن تسقط في سَوْرة الخوف والذهول، لتتأكد بعدها أنّ لقاءاتهما السابقة كانت مجرد أوهام تخطر في مخيلته المشوّشة.

وبينما يستعد آرثر للظهور في برنامج موراي فرانكلين المعروف بشعبيته الواسعة؛ يزوره زميلاه في العمل غاري وراندال، فيقرر آرثر قتل راندال، لكنه لم يُصب غاري بأي أذى، لأنّ الأخير كان يعتني به كثيرا ويعالجه بشكل جيد.

وفي طريقه إلى الإستوديو يطارده المُحققان بيرك وغاريتي على متن القطار المحتشد بالمتظاهرين المهرجين، فيطلق أحدهما النار عن طريق الخطأ على متظاهر يُحرّض على أعمال الشغب، بينما ينجو آرثر بجلده من الفوضى العارمة في جوف القطار.

يعترف آرثر بأنه قتل الأثرياء الثلاثة لأنه ليس لديه ما يخسره
يعترف آرثر بأنه قتل الأثرياء الثلاثة لأنه ليس لديه ما يخسره

حياة خاوية

لم تأتِ مشاركة آرثر في برنامج موراي لمجرد الرغبة في سماع نكاته ومُلَحِه، وإنما بسبب ردود فعل الجمهور الإيجابية والمذهلة على عروض الفيديو التي سرّبها موراي للمشاهدين. وقبل بدء البرنامج يطلب آرثر من موراي أن يقدّمه كـ”جوكر”، في إشارة واضحة إلى سخرية موراي السابقة.

وبدلا من أن يروي آرثر نكاته للمشاهدين الذين يتوقعون منه الكثير؛ فإنه يعترف جهارا نهارا بأنه قاتل رجال “وول ستريت” في قطار الأنفاق، وتساءل عن الأسباب التي دفعت المجتمع للتخلي عن المحرومين، وكيف أن موراي قد سخر منه وجعله أضحوكة أمام المُشاهدين.

يعترف آرثر بأنه قتلهم لأنه ليس لديه ما يخسره، كما أنّ حياته خاوية ولا شيء فيها سوى الكوميديا التي تخفّف من وطأة العيش في مدينة ينتعش فيها التمييز ويزدهر فيها التفاوت الطبقي.

ثم يتعمق آرثر في الحديث عن الفساد السياسي والأخلاقي والاجتماعي، فهو يرى أن الكوميديا موضوعية، وأن النظام الحاكم هو الذي يقرر ما هو الخطأ والصواب وما هو المضحك ونقيضه، لذلك أقدم على قتل الرجال الثلاثة المروّعين الذين استفزوه وأوسعوه ضربا، ويستغرب كل هذا الاستياء الذي سبّبه مقتلهم، ولو كان هو الميت على الرصيف لداسوه وساروا فوق جثته المُسجّاة.

يوغل آرثر في انتقاد المجتمع الذي أهانه وعامله كالحُثالة
يوغل آرثر في انتقاد المجتمع الذي أهانه وعامله كالحُثالة

قتلٌ على الهواء

وحينما يحتدم النقاش ويبلغ ذروته؛ لا يجد آرثر حرجا بأن يخبر موراي بأنه “شخص فظيع” لأنه سرّب مقاطع الفيديو الخاصة به، لأنه مثل البقية الذين أرادوا السخرية، فلا فرق بين مثقف وجاهل، وكأنّ اللعنة أصابت الجميع.

يوغل آرثر في انتقاد المجتمع الذي أهانه وعامله كالحُثالة، كما أثار حفيظة موراي الذي طلب من “جين” أن يتصل بالشرطة عندما شَهَر آرثر مسدسه وأطلق النار على مواري أمام الملأ، فتوالت الأخبار العاجلة التي تتحدث عن مقدّم البرامج موراي فرانكلين الذي مات مقتولاً بالرصاص أثناء تقديمه برنامجه الحواري ذي الشعبية والواسعة.

يُعتقل موراي ويُزجّ بسيارة البوليس التي تنقلب في نهاية المطاف ويخرج منها الجوكر مرتديا قناع المهرجين، حيث تندلع أعمال شغب في جميع أنحاء غوثام، ويُحاصر أحد المشاغبين عائلة “توماس وين” ويقتله هو وزوجته مارثا، لكنه يترك الطفل البريء حيّا.

يُخلى سبيل آرثر بعد انقلاب سيارة الشرطة فيرقص رقصته الشهيرة على صخب الجماهير وهتافاتها العالية، وحينما يكتشف أنّ فمه ينزف يستدير ليرسم ابتسامة المهرج على وجهه تأكيدا لرغبة أمه التي طلبت منه أن يكون مبتسما على الدوام.

وفي المشهد الرمزي الأخير يمشي آرثر في ممر طويل تاركا آثار قدميه الملطختين بالدماء على الأرضية الصقيلة، بينما يُخبر طبيبته النفسية بأنها لن تفهم النكتة التي يرويها، ثم يشرع في رقصته الجميلة كي يُسعِد المتظاهرين بعد خلاصه من قواعد النظام الذي كبّله زمنا طويلا.

يعزو النقاد فوز فيلم "جوكر" بجائزة الأسد الذهبي في الدورة الـ76 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي لبراعة الفنان "خواكين فينيكس"
يعزو النقاد فوز فيلم “جوكر” بجائزة الأسد الذهبي في الدورة الـ76 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي لبراعة الفنان “خواكين فينيكس”

الجوكر الراقص

يعزو النقاد فوز فيلم “جوكر” بجائزة الأسد الذهبي في الدورة الـ76 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي لبراعة الفنان “خواكين فينيكس”، فقد بذل جهدا كبيرا في تقمّص هذا الدور المركّب الذي تطلّب منه أن يفقد 24 كلغ من وزنه، وذلك حتى يبدو خفيفا في رقصاته المتعددة التي أدّاها على مدار الفيلم (مدته 123 دقيقة)، كما تدرّب على أشرطة الفيديو للأشخاص الذين يعانون من “هَوَس الضحك المرضي”، بحيث بدا لمعجبيه وكأنه شخصية جديدة لم يروها من قبل، كما قرأ بإمعان كتابا عن الاغتيالات السياسية كي يفهم عن كثب دوافع القتلة في ارتكاب الجرائم المروّعة.

بقي أن نقول إن المخرج تود فيلبس أنجز عددا من الأفلام الوثائقية والروائية، ونذكر منها “رحلة طريق” و”المدرسة القديمة” و”بورات” و”صداع الكحول”.

كما نال عددا من الجوائز أبرزها جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان صندانس السينمائي، وجائزة مخرج العام، إضافة إلى جائزة الأسد الذهبي المُشار إليها سلفا عن فيلم “جوكر” الذي عرّى فيه مدينة غوثام الديستوبية المتخيّلة التي يمكن أن نعمّمها على كل المدن الأمريكية دون استثناء.