“جيل أوتويا”.. شهادات النسوة القادمات من الموت في النرويج

قيس قاسم

يختلف الوثائقي النرويجي “جيل أوتويا” (Generation Utoya) عن بقية الأفلام التي تناولت المجزرة التي ارتكبها الإرهابي اليميني “أنديش بيرينغ برايفيك” في 22 يوليو/تموز عام 2011، وقُتل فيها عشرات من شبيبة حزب العمال النرويجي الذين كانوا مجتمعين في مخيم أُقيم على جزيرة “أوتويا”؛ وسبب اختلافه أنه لا يرتكن إلى الماضي لسرد ما جرى فحسب، بل يركز على الحاضر والمستقبل، وذلك من خلال قصص أربع نساء من الناجيات من المجزرة الرهيبة.

يتيح الوثائقي للناجيات فرصة عرض رؤيتهن للواقع الذي يفرز الأفكار العنصرية واليمينية المتطرفة، وسبل مكافحتها من خلال العمل السياسي، وأشكال أخرى من النشاط الهادف إلى تنبيه الناس لما جرى، ولمنع تكراره ثانية.

تعطي المخرجة “أسلاغ هولم” ومساعدها “سيغة أندرسن” لكل من المشاركات مساحة من زمن الوثائقي تختلف عن الأخرى، لكنهما يبقيان على الخيط الرابط بينهن مشدودا جامعا لمسار حياتهن، وذلك منذ وقوع المجزرة حتى اللحظة الحاضرة التي تُذكر بمرور عشر سنوات عليها، وما زالت آثارها باقية في وجدان المجتمع النرويجي، لكونها أحدثت شرخا عميقا بين قيمه، وبين واقع سياسي يفرز كراهية للغير، ومظاهر عنصرية لا بد من مواجهتها.

 

“كامزي جوناراتنام”.. هروب بالسباحة إلى شاطئ الأمان

يرافق الوثائقي كل واحدة من الناجيات الأربع إلى الجزيرة، لتصف بإيجاز الوقائع التي عاشتها لحظة دخول الإرهابي إليها متنكرا بزي رجل شرطة، وشروعه بإطلاق النار عليهن وعلى بقية المجتمعين من الشبيبة في المخيم الصيفي من سلاح كان يحمله معه ويجيد استخدامه، كما تصف كل واحدة منهن كيف نجت بمعجزة من موت محقق.

الشابة “كامزي جوناراتنام” هي نرويجية ذات أصول سريلانكية، وتشغل اليوم منصب نائبة محافظ أوسلو، وتنقل مشاعر الخوف التي انتابتها حين سمعت صوت إطلاق النار، وتعالت نداءات زملائها طلبا للنجدة.

لم تجد للاختباء هربا غير فسحة بين الصخور لجأت إليها، لكنها مع اشتداد الرصاص قررت الهروب من الجزيرة سباحة. إنه قرار خطير اتخذته سريعا، واستطاعت بفضله الوصول إلى اليابسة.

الناجية من مجزرة “أوتويا” “إينا ليباك” رئيسة اتحاد شبيبة حزب العمال النرويجي تُحارب الفكر الإرهابي بالعمل السياسي الهادف لنشر الكراهية

 

“إينا ليباك”.. رصاصات في جسد محاربة الفكر الإرهابي

أما “إينا ليباك” -التي اختيرت بعد سنوات قليلة من نجاتها رئيسة لاتحاد شبيبة حزب العمال- فلم تتح لها الرصاصات التي اخترقت جسدها الفرار السريع، فقد سقطت على الأرض والدماء تتدفق غزيرة من عدة أماكن من جسدها، حيث حملها زملاؤها على أكتافهم، ونقلوها معهم إلى الغابة، وتصف “إينا” تلك اللحظات الفاصلة بين الموت والحياة بتأثر، رغم مرور عشر سنوات عليها.

قررت الشابة بعد شفائها العمل على محاربة الفكر الإرهابي بالعمل السياسي الهادف لنشر القيم التضامنية ونبذ الكراهية، وركزت إلى جانب ذلك على تحسين البيئة وتقليل الاحتباس الحراري. لم يصدق أحد أنها ستنجو وستنشط في عدة حقول، وبفضلها صارت أيقونة ومثالا للشبيبة المُصرّة على مواصلة الحياة والعمل.

يمنحها الوثائقي وقتا جيدا، ويظل يرافقها طيلة سنوات، ينقل عبرها الكثير من النقاشات والصراعات التي ظهرت بعد حدوث المجزرة على المستوى السياسي والاجتماعي والأخلاقي.

الناجية “لينه هاتموسو” التي ما زال الأثر النفسي العميق لمجزرة “أوتويا” يلازمها الآثار النفسية مازالها باقية

 

آثار الحادث.. رحلات العودة إلى الجزيرة للتعافي

ما زال الأثر النفسي العميق ملازما لحياة الناجية “لينه هاتموسو”، فهي لم تشف من أوجاعه إلا بمساعدة طبيبة نفسية ظلت تراجعها لسنوات، وبالتدريج استعادت “لينه” بعض عافيتها وعادت للعمل السياسي، لكن فكرة احتمال مقتلها على يد إرهابي يميني لم تفارقها.

على مستوى مختلف تعمل الناجية “ريناته تورنيس” بإعادة تنشيط المخيم الصيفي للشبيبة ليجتمعوا فيه ثانية، كما كانوا يفعلون في الماضي، ولينسوا ذكرياته الحزينة، وتنظم زيارات للجزيرة ونصبها التذكاري الذي حُفرت عليه أسماء الضحايا، وتنشط لإقامة حفلات موسيقية في عموم البلاد، تدعو من خلالها إلى حُب الحياة، ونبذ الأفكار التي تدعو للعنف.

الناشطة السياسية السريلانكية الأصل “كامزي جوناراتنام” لحظة انتخابها نائبة لمحافظ أوسلو

 

“أسلمة المجتمع النرويجي”.. حقل اليمين الذي يزرع التطرف

رغم كثرة تنقلاته بين شخصياته يحافظ الوثائقي بأسلوب سرد سينمائي هادئ على مسار ديناميكي لا يفقد بوصلته، فيجمع بصبر النقاط الأكثر جدارة بالعرض والتثبيت، مثل الإغفال الحاصل لنشاط المنظمات اليمينية، والتقليل من خطرها طيلة عقود، وكيف تمكن قادة الأحزاب اليمينية والنازيون الجدد من حشد مؤيدين لهم عبر ضخهم المستمر أكاذيب مضللة حول خطر “أسلمة المجتمع النرويجي” المزعوم.

هذا ما تعمل على فضحه السياسية “كامزي” التي تشير إلى معارضة أهلها في البداية لفكرة انخراطها بالعمل السياسي، تأثرا بتجاربهم السياسية الخائبة في سريلانكا، وبسببها اضطروا لطلب اللجوء في النرويج.

تجول “كامزي” على المدارس في أنحاء البلاد لشرح موقفها السياسي، وتُكَذب الدعاية العنصرية، لإدراكها بأنها واحدة من أخطر أركان إستراتيجيتهم التي ظل الإرهابي “برايفك” يرددها حتى وهو داخل المحكمة.

الإرهابي اليميني “أنديش بيرينغ برايفيك” الذي ارتكب مجزرة “أوتويا” في 22 يوليو/تموز عام 2011

 

شهادة المحكمة.. موقف رافض لديمقراطية العنف

لا تحصر “إينا ليباك” أشكال التعبير عن رفض الأفكار اليمينية المتطرفة بالموقف من الإرهابي الذي ارتكب المجزرة ونسف مبنى التجمع الحكومي، بل إنها تعمل على كشف الأفكار والأيديولوجيا التي يحملها.

حضورها كشاهد ضده في المحكمة يرافقه كثير من الجدل بين صفوف السياسيين، إلى جانب بروز أحاسيس متناقضة داخلها بسبب وجود أفكار داخل الحزب، وتظهر عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تميل بحجة الديمقراطية إلى منح الأطراف المتناقضة التوجه نفس الحقوق في التعبير العلني عنها، لكنها في النهاية تؤكد موقفها الرافض لذلك، حين تقف بشجاعة أمام المحكمة، وتدلي بشهادتها ضد أفكاره وممارساته الفاشية.

تفجير مبنى التجمع الحكومي قبل ارتكاب الجريمة

 

خوف الآخر والتساهل مع النازيين.. قضايا المجتمع النرويجي

قرار المحكمة بحبس المجرم عشرين عاما، يعزز تشخيص الناجيات للمُتغير السلبي الحاصل في المجتمع النرويجي، فيطالبن بالحديث صراحة ودون خوف عن منطلقاته الفكرية داخل صفوف الأحزاب السياسية الحاكمة، وبشكل خاص الاشتراكية منها، والعمل على إيلاء دور أكبر للشباب في عملية التغيير.

لتحقيق ذلك تحضر مسؤولة شبيبة حزب العمال الفعاليات، وتنظم اجتماعات يساهم الشباب فيها، ويتفاعلون مع الأسئلة الأكثر مساسا بحياتهم ومستقبلهم.

يذهب الوثائقي عبر شخصياته المحورية إلى موضوعات تلامس وجود المجتمع النرويجي اليوم، ومن بينها خطورة إشاعة فكرة الخوف من الآخر، والتساهل مع النازيين الجُدد الذين عملوا بدهاء من أجل التغلغل في نسيج المؤسسات السياسية النرويجية، والعمل على أخذ مراكزها القيادية.

نقله لمشهد تفجير الإرهابي “برايفيك” لمبنى التجمع الحكومي في أوسلو قبل انتقاله إلى جزيرة “أوتويا” بدقائق قليلة؛ يشير إلى رفضه لبنية الدولة ومرجعيات النظم الديمقراطية، والرغبة في استبدالها بأخرى تُروّج للانغلاق والتقوقع.

اتساع الأيديولوجية العنصرية والنازية نقطة محورية يلتقطها الوثائقي، ويوسع من دائرة عرضها عبر إتاحة فرصة أكبر للناجيات للحديث عنها، والتحرك لمنع توسعها فعليا.

من بين الانشطة التي تعمل الناجيات عليها توعية الشباب بالمخاطر المحدقة بالبيئة

 

إصلاحات الدولة.. ترتيب الحديقة الداخلية

في مسار مرافقته لهن تتضح بجلاء قضايا ذات صلة مباشرة بالمتغيرات الحاصلة في العالم، ومن بينها التركيز على حماية البيئة، وتحميل السياسيين مسؤولية العمل للحد من الاحتباس الحراري، والتقليل من تلوث البحار.

من بين الأنشطة التي تعمل عليها الناجيات مُطالبة الحكومة النرويجية بالتقليل من الاعتماد على استخراج النفط، والاهتمام أكثر بحماية البيئة البحرية، وإيجاد طاقة بديلة نظيفة. وعلى المستوى الإنساني تبرز فكرة التضامن بين البشر أوقات الأزمات.

الناجية من الموت “ريناته تورنيس” تقيم حفلا موسيقيا تستقبل به زوّار جزيرة “أوتويا” لصيف 2020

 

تحدي الجائحة.. حفل موسيقي في الجزيرة

ينقل الوثائقي لحظة الإغلاق التي تشهدها النرويج بسبب جائحة كورونا، وبروز الحاجة للتقارب بين الناس، والتضامن مع بقية البشر في كل مكان. إنها لحظة تُذكر الناجيات بحاجتهن للآخر، وهي لحظة تعرضهن للهجوم ومواجهة الموت وجها لوجه، فكل كلمة تضامن ومواساة عندهن لها معنى كبير.

رغم الجائحة، تخطط الناجية “ريناته تورنيس” لحفل موسيقي تستقبل به زوار الجزيرة صيف 2020، بينما تستعد زميلتها “لينه هاتموسو” لتجاوز عقدة خوفها بالعودة للعمل السياسي ثانية، مُنطلقة من حقيقة أن كل ما جرى لها له صلة مباشرة بالسياسة التي تبغي تغييرها بشجاعة من أجل منع حدوث مجزرة أخرى يذهب ضحيتها أبرياء عزل.

مجزرة “أوتويا”.. جوائز أفلام توثّق الحدث التراجيدي

رغم قصر عمرها ربما تعتبر مجزرة “أوتويا” من بين أكثر الأحداث التراجيدية التي تناولتها السينما تجسيدا وتوثيقا، فخلال عشر سنوات أنجز كثير من الأفلام عنها، من بينها الفيلم الروائي النرويجي “أوتويا 22 يوليو” للمخرج “إيريك بوبه”، وفيلم المخرج العالمي “بول غرينغراس” “22 يوليو”.

إلى جانب الوثائقي السويدي الحائز على عدد من الجوائز المهمة “إعادة تمثيل أوتويا”، وتلفزيونيا هناك مسلسل نرويجي قصير بعنوان “22 يوليو”، لكن “جيل أوتويا” هو من بين أكثرها أهمية، وذلك لبحثه المعمق في جذور المجزرة والدوافع الحقيقة وراءها، ما يستدعي أسئلة حول واقع النرويج السياسي اليوم واشتراطات تغييره.