“حراس البوابة”.. وحوش السياسات الأمنية يكشفون عورة إسرائيل

حراس إسرائيل الذين يسهرون على أمنها قرروا الاعتراف، في مراجعة ذاتية وجماعية لممارسات جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) والسياسة التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، ويكشف ستة من الرؤساء السابقين لهذه الوكالة الاستخبارية الإسرائيلية في الفيلم الوثائقي “حراس البوابة” (The Gatekeepers) خبايا سياسة مكافحة الإرهاب التي اتبعتها دولتهم منذ حرب الأيام الستة.

فيلم المخرج الإسرائيلي “درور موريه” الذي رشح للأوسكار هذا العام (2013) وأثار سجالا في إسرائيل حين عرضه، يقدم كشفا جريئا للعمليات التي قادها هؤلاء الستة، ويستعرض نجاحاتهم وإخفاقاتهم، ويطرح رؤية معمقة لمسؤولين في موقع القرار واعترافهم الصريح بأن أمن إسرائيل في خطر، ليس بسبب الفلسطينيين كما يقال في العادة، بل بسبب قادتها، وبسبب غياب الاستراتيجية أيضا عن السياسة الإسرائيلية في تعاملها مع القضية الفلسطينية.

إنهم يعلنون فشل السياسة الحالية والوصول إلى حالة من الشلل السياسي والاستراتيجي تستدعي الجلوس حول الطاولة والتفاهم.

نسيان القضية الفلسطينية.. متاهات الحرب على الإرهاب

ينطلق الفيلم -الذي أنتجته فرنسا وإسرائيل- من عدة قضايا رئيسة كعناوين، ويقوم بالتعليق عليها ستة من الرؤساء السابقين للوكالة الإسرائيلية المكلفة بالأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب، ممن تناوبوا على رئاستها من 1980 إلى 2011، ويعتمد الوثائقي صورا وأفلاما من الأرشيف كثير منها لم ينشر من قبل.

“حراس البوابة”.. فيلم يتحدث فيه

ينطلق الفيلم من الموقف من الإرهاب وبدء العمليات الفلسطينية ضد الإسرائيليين، وهي عمليات أتاحت لهم على ما يبدو نسيان القضية الفلسطينية، بحسب تعبير “أبراهام شالوم” رئيس الشين بيت من 1980-1986 إذ يقول: سمح لنا تطور الإرهاب بالتوقف عن التفكير بالدولة الفلسطينية. وينتقد “شالوم” سياسة مكافحة الإرهاب التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية فهي “تكتيك وليست استراتيجية”، معتبرا أن كل رؤساء الحكومات “لم يكترثوا بالشعب الفلسطيني من مائير إلى بيريز الذي لم يفعل شيئا هو الآخر، الأرقام كانت همهم، وفي العمق كان ثمة غياب لأي استراتيجية”.

ستة من الرؤساء السابقين لوكالة “الشاباك” يتحدثون حول خبايا سياسة مكافحة الإرهاب

كما تناول هذا المحور طريقة حصول الشين البيت على المعلومات من الفلسطينيين وتفاصيل طرق التعذيب الوحشية كإحدى هذه الوسائل لا سيما في سجن القدس الذي هو أسوأ ما عرفت “كارمي غيلون” (1994-1996) حسب تعبيرها، فمن يخطو عتبة هذا السجن الذي يعود إلى الفترة العثمانية “سيكون مستعدا حتى للاعتراف بأنه قتل المسيح”.

“إنهم يدعونك جريحا في ساحة المعركة”.. أزمة الثقة

عاد الفيلم في محوره الثاني إلى عملية الباص (300) المختطف عام 1984، ومقتل اثنين من الفلسطينيين أثناء الهجوم من قبل قوات مكافحة الإرهاب، واثنين آخرين بعد القبض عليهما.

وتكمن أهمية هذا المحور في الكشف عن الخلاف الذي بدأ بالظهور بين الحكومة والشين بيت، فالجدل الذي أثير حول مقتل الفلسطينيين ضربا، واتهام الشين بيت بعدم احترام الشرعية والقوانين؛ دفعا “أبراهام شالوم” رئيس الشين بيت حينها إلى عدم الثقة بالسياسيين، “إنهم يدعونك جريحا في ساحة المعركة”.

استسلام العرب في حرب الأيام الستة

وبعد عام من محاولات تطويق القضية معه صرحوا “لم نكن على علم بها”. ويعترف شالوم هنا بأن “لا أخلاق في مكافحة الإرهاب”.

الانتفاضة الأولى.. أطول لائحة مطلوبين في العالم

يسرد الرؤساء الستة في المحور الثالث مواقفهم من الانتفاضة الأولى عام 1987 واتفاق أوسلو، وعن الانتفاضة يعترف أحدهم قائلا: فجرت مكاتبنا، الشعب ينهض، لم نر هذا من قبل، أي استخبارات لا تستطيع التنبؤ بحدث تاريخي كبير؟

يقول “ياكوف بيري” (1988-1994): لقد كانت عفوية من شعب أراد الثورة ووضعنا خارجا.

أرشيف ضخم جدا يحتفظ به الشاباك عن الفلسطينيين

ويروون حيرتهم في قمعها معبرين عن أنه لم يكن ممكنا إيقافها إلا بطلقات حقيقية أو بالاعتقال، حتى أصبحت لديهم أطول لائحة أسماء مطلوبين في كل أنحاء العالم.

لقد قادت الانتفاضة إلى اتفاقات أوسلو، ولم يكن هذا سهلا عليهم، فها هو “ايفال ديسكين” (2005-2011) يقر بالأمر قائلا: كيف أجلس مقابل من كنت ألاحقهم؟ إنهم إرهابيون، ولكن الفلسطيني ينظر إليك أيضا ويقول: أنت أيضا إرهابي.

وحينها يكتشف “ديسكين” أن الإرهاب من وجهة نظر أحدهم هو مقاومة من وجهة نظر الآخر.

مفاوضات صنع السلام.. فشل الآلة العسكرية

يثير المحور الأخير ظهور المتطرفين الإسرائيليين وقتل “رابين” ومشاكل الاستيطان وبروز أسئلة جديدة بعد غزة، من قبيل كيفية مواجهة الإرهاب وهم لم يعودوا على الأرض، واستهداف زعماء حماس بعمليات القتل، ويعطي مثالا على ذلك اغتيال يحيى عياش.

الصورة التاريخية لاتفاقية أوسلو 1993 للسلام بين المحتل والضحية

وعند كل محور كانت ثمة عملية مراجعة للسياسات الإسرائيلية، واستنتاجات مثيرة للاهتمام، من نوع المبالغة في القتل تحت عنوان الأمن، وعدم إمكانية صنع السلام بوسائل عسكرية، والدعوة إلى إقامة علاقات ثقة مع الفلسطينيين، إذ لا يمكن لإسرائيل أن تتغاضى عن التفاوض مع أعدائها.

وطالب “شالوم” بالحوار مع الجميع، حتى مع أحمدي نجاد، فلا خيار آخر.

أمن إسرائيل في خطر.. ثمار السياسة الانتقامية

لم تخلُ اعترافات الرؤساء الستة من شعور بالذنب، إذ يصرح “غيلون” قائلا: إننا نجعل حياة ملايين الناس غير محتملة، ونترك جنديا جديدا يقرر ما يجوز وما لا يجوز، هذا يجعلني مريضا.

لقد سرد هؤلاء الرؤساء أمام العدسة تجاربهم وأساليبهم ووجهة نظرهم في السياسة الحالية التي يعتبرونها غير أخلاقية ولا فعالة، إنهم يعلنون فشلهم في اتباع هذه السياسة الانتقامية.

اغتيال قادة المقاومة في فلسطين كان هدفا ممنهجا لدى الشاباك

ويصرح أحدهم أن “الضربات القاضية للفلسطينيين تستدعي الكره وسلسلة من عمليات الانتقام في المستقبل”، وهم يطالبون كجنود متقاعدين بضرورة الجلوس حول الطاولة والتفاهم، لأن أمن إسرائيل في خطر، وبلدهم يتعامى ويتخبط في سياساته خاصة منذ موت “رابين”.

حديث الأشباح.. مفاجأة المشاهد العربي

تكمن قوة الفيلم وأثره في المفاجأة لا سيما للمشاهد العربي، فصحيح أن الكلام وحده ليس يغير الصور، لكن هذا الذي طالما سمع عن وحشية هؤلاء يراهم بوجوههم وأصواتهم، فهم الذين كانوا يتراءون له كأشباح، بل كعفاريت يثير مجرد النطق باسم مؤسستهم الفزع والرهبة.

قادة المقاومة الذين دبوا الرعب في قلوب رؤساء الشاباك

وما هو مهم في الفيلم ليس المعلومات التي ذكرت عن جرائمهم وفظائعهم وندمهم والتدليل على أن هناك إسرائيليين مصدومين من ما تفعله دولتهم، فهذا بات معروفا، وإنما المهم من يقوله، فهم رجال قرار على معرفة عميقة ببلدهم، ويهتمون بمنفعته ويدركون جيدا عما يتكلمون، إنهم منتصرون من الناحية التقنية ولكنهم مقتنعون بالعكس. وهم ينبهون: إسرائيل لن تنقذ هكذا، وإن لم تعتمد استراتيجية فهي في خطر، فإذا لم يكن هناك مخرج للفلسطينيين فلا مخرج للإسرائيليين.

قوة هذا الفيلم الوثائقي في مضمونه، إنه مباشر صريح مفاجئ، وقد يكون في هذا ما يكفي.