“حربنا” .. مقاتلون أوروبيّون ضد “داعش”

 
محمد موسى 
 
إذا كُنّا جميعا نعرف بانضمام آلاف الأوروبيين المسلمين الذين التحقوا بصفوف تنظيم “داعش” في حروبه المتناثرة في العراق وسوريا، وفي العامين الأخيرين في ليببا. فإن هناك قلة فقط سمعوا بمتطوعين غربيين تركوا بلدانهم الآمنة والتحقوا بتنظيمات أغلبها كردية من منطقة الشرق الأوسط لقتال “داعش”.
 وأن هؤلاء يحملون السلاح اليوم على جبهات دموية طويلة، أحياناً في مواجهة مباشرة مع مواطنين من بلدانهم يقفون على الجهة الأخرى، في صراع مسلح لا يستطيع التخلص بسهولة من صبغته الدينية، رغم محاولة أعداء “داعش” تصويره بأنه دفاع عن قيم حضارة إنسانية يُهدد التنظيم بتدميرها.
 
يُقارب الفيلم التسجيلي “حربنا” للمخرجين الإيطاليين: “بينديتا آرجينتيرا”، “برونو جرافالوتي”، “كلاوديو جيمبغالا”، والذي عُرض على هامش الدورة الأخيرة من مهرجان فينسيا السينمائي، هذه القضية الشائكة والتي بدا أن الإعلام الغربي كان يتحرج من الخوض فيها في الماضي لحساسيتها وأبعادها المتشابكة الخطرة، إذ رغم أن هناك اتفاقاً كونياً على بربرية “داعش” وأن معتقداته لا تُمثِّل الدين الإسلامي، بيد أن الحديث عن متطوعين غربيين يقاتل بعضهم التنظيم لأسباب دينية، من شأنه أن يلمس أعصاب عالمنا المحتقن اليوم بالأفكار الدينية المتشددة. 
 
 
يعثر المخرجون على ثلاثة رجال غربيين ليمثلوا أعداداً غير معروفة من الأجانب من الذين تطوعوا لقتال “داعش” في الشرق الأوسط. أولى هذه الشخصيات هو “جوشوا”، أمريكي خدم كجندي في حروب الولايات المتحدة في العقد الأخير، وعاد قبل أن تبرد أسلحة تلك الحروب، إلى الشرق الأوسط مجدداً لينضم إلى الأكراد في سوريا. والشخصية الثانية لشاب من أُمّ مغربية وأب إيطالي اسمه “كريم”، كان في جحيم معارك كوباني، وتركه الفيلم وهو في طريق العودة إلى سوريا، والشخصية الأخيرة هي “رافائيل”، سويدي من أُصول كردية، قاتل في العراق وسوريا. لا تعرف هذه الشخصيات بعضها في الواقع، بيد أن الفيلم يجمعها لتمثل نموذج لظاهرة لازالت تعدّ شاذة عن الحياة الغربية.
 
يقابل الفيلم شخصياته في بلدانها الأصلية، وهي تقضي ما بدا أنها استراحة مؤقتة وقبل العودة مرة أخرى إلى مناطق المتاعب. تستعيد الشخصيات عبر زمن الفيلم تجاربها السابقة في حروب الشرق الأوسط، وتقييم أدوارها فيها، وتُساءل المواقف الأخلاقية وراءها. هذا بدوره سيجعل الفيلم التسجيلي قريب إلى المراجعة والمحاسبة للنزاع المسلح ذاك، وأحياناً يلقي نظرة متأملة على أحوال العالم المضطرب من حولنا. وستكون انتقالات الفيلم إلى منطقة الشرق الأوسط عبر تجارب شخصياته، والتي ستبدأ مضطربة ومشوشة، ويصل إليها الصفاء في منتصف الفيلم، عندما تفتح الشخصيات قلوبها للمخرجين، وتنقّي ذكرياتها من شوائب الأحداث العابرة، باحثة عن جوهر خاص.
 
تملك كل شخصية في الفيلم أسبابها الخاصة للالتحاق بالحرب ضد “داعش”. بدا “كريم” أكثر رجال الفيلم ثقافة وعقائدية، فالشاب الشيوعي وجد في ما يتعرض له الأكراد والعرب على أيدي “داعش” أقرب للحرب التطهيرية التي تذكر بأفعال النازية، لذلك تراه حتى في بندقيته التي يعود زمن صناعتها إلى الحرب العالمية الثانية، يسعى إلى استعادة ماضياً نبيلاً قرأ عنه في الكتب. أما الأمريكي “جوشوا”، والذي بدا في بداية الفيلم كشخصية مُدمنة على الحرب، يحمل هو الآخر همّاً إنسانياً، بل هو أكثر الشخصيات انشغالاً بما يحدث في المنطقة، فيصوره الفيلم وهو يقف أمام البيت الابيض، رافعاً علم المنظمة الكردية التي يقاتل تحت صفوفها، وسيتحول إلى وجه المقاتلين الأجانب في الإعلام الإمريكي، داعياً عبر إطلالاته الإعلامية حكومة بلده إلى تزويد الأكراد بأسلحة حديثة.
 
 
ولعل “رافائيل” بحضوره المُعذب الغاضب يشكل الشخصية الأكثر اشكاليّة في الفيلم التسجيلي، ويفتح الأبواب على أسئلة عن ظاهرة المتطوعين الغربيين ضد “داعش” بشكل عام، فالشاب الذي ولد في السويد من عائلة كردية عراقية، كان يؤكد مراراً أنه سويدي الجنسية، وبدأ حديثه بعبارة عدائية للغاية، عندما كشف أن قتاله “داعش” يخفف من “كره المسلمين”. تميزت شهادة “رافائيل” بالحميمة عندما تحدث عن أمّه المريضة التي كانت توسلاتها تجعله يترك القتال كل مرة ويعود إلى السويد، وابنه الطفل الذي لا يعلم أين يغيب والده لأشهر. 
 
يستعين الفيلم بمشاهد أرشيفية صورها “كريم” و”رافائيل” عندما كانا في سوريا والعراق. ويركز على مشاهد للشاب الإيطالي وهو يضع فوهة بندقيته القديمة في فتحة في جدار مثقوب، فيما أصوات الرصاص لا تتوقف في الخلفية. قاتل “كريم” في البلدة السورية كوباني وفقد رفاقاً له هناك. على الجانب الآخر، تحمل مشاهد “رافائيل” في كردستان العراق الضيق والانزعاج نفسه، الذي غلف طلّته في السويد. هناك طبقة في شخصية الرجل لم يصل إليها الفيلم، ربما كانت ستفسر غضبه المتواصل، وعلاقته المعقدة بالمنطقة التي ولد فيها والديه، والتي عاد إليها مقاتلاً ببوصلة أخلاقية مشوشة.
 
يغلب النفس التحقيقي الصحافي على الفيلم الذي يقف خلفه صحفيون مخضرمون في أولى تجاربهم التسجيلية. ينتقل الفيلم من شخصية إلى أخرى، مركزاً في الأساس على قيمة الشهادات التي تبوح بها هذه الشخصيات، ولم يسعَ إلى الابتكار الشكليّ أو الأسلوبي حتى ضمن الإطار التحقيقي الذي يندرج تحته. يربط الفيلم بين الأفلام الضعيفة الجودة التي صورّتها الشخصيات لنفسها في أثناء فترات الحرب مع أخرى من الإنترنت تُصوِّر المعارك ذاتها، ويجعل من هذه الأفلام صدى لشهادات شخصياته.
 
يُعَّد فيلم “حربنا”، العمل التسجيلي الثاني الذي يتناول قضية المتطوعين الغربيين ضد “داعش”، بعد أن ظهروا قبل أشهر في البرنامج التسجيلي “المستشكف” والذي يعرض على قناة “ناشيونال جيوغرافيك”. حيث وصل الصحافي الأمريكي “نيل شيا” في البرنامج ذاك إلى مواقع متقدمة على جبهات الأكراد العراقيين ضد “داعش”، وأقنع وقتها مقاتلين غربيين بالحديث للكاميرا عن دوافعهم وقصصهم الخاصة. رغم السريّة التي يحيط بها هؤلاء وجودهم في الشرق الأوسط، تحسّباً من عقوبات ونقد إعلامي في بلدانهم، ومقارنة مع مواطنيهم الأوروبيين الذي يقاتلون بجوار “داعش”.