“حرقة”.. أوجاع البطالة تحرق البوعزيزي كل يوم في تونس

كان حادث انتحار البائع المتجول الشاب محمد بوعزيزي في أواخر 2010 مفجرا مباشرا لثورة الياسمين في تونس وما أعقبها من ثورات الربيع العربي، وقد ألهم بعد ذلك كثيرا من السينمائيين في تونس الذين صنعوا أفلاما كثيرة تستوحي من أحداث هذه الثورة، لكن دون أن ترجع إلى ما قبل انفجار الثورة، أي إلى ذلك الحادث المأساوي الذي كشف عنف السلطة القمعية الظالمة.

والآن جاء فيلم جديد شديد الطموح مدعوم من مؤسسة الدوحة للأفلام يستوحي أحداثه من قصة محمد بوعزيزي، ويعتمد على قصة ووقائع أخرى حقيقية، إلا أنه -مثل سائر الأفلام الدرامية- يمزج بين الواقع والخيال، دون أن يفارق الأرضية الواقعية التي دارت عليها أحداث الثورة التونسية.

 

عنوان الفيلم هو “حرقة” (Harka)، وقد أخرجه المصري الأصل الشاب لطفي ناثان المقيم في أمريكا، وهو أول أفلامه الروائية الطويلة بعد فيلمه التسجيلي “أولاد الساعة الثانية عشرة”، وقد عرض “حرقة” في تظاهرة “نظرة ما” في الدورة الماضية من مهرجان “كان” السينمائي، ولقي أصداء إيجابية، واستقبل استقبالا حسنا من جانب الجمهور.

بائع البنزين.. بوعزيزي جديد بعد عقد من ثورة الياسمين

تدور الأحداث بعد مرور عشر سنوات من اندلاع الثورة التونسية، ومن أول وهلة يمكننا أن نلحظ أنها لم تحقق شيئا للبسطاء من أبناء الشعب. هذا ما يمكننا أن نقرأه على وجه الشخصية الرئيسية في الفيلم، أي شخصية الشاب علي (الممثل آدم بيسة)، فمثله مثل بوعزيزي نفسه الذي كان يتعين عليه أن يجعل من نفسه قربانا للثورة والغضب، لكن ليس بعد. لقد اتخذ علي لنفسه طريقا مستقلا في الحياة، فهو يعيش بعيدا عن عائلته الصغيرة، ويقطن في مكان بدائي أشبه بكوخ داخل موقع مهمل لبناء لم يكتمل.

يخرج علي في صباح كل يوم وهو يحمل أوعية (أو جراكن) من البنزين المهرب من ليبيا، ويحصل عليه من التاجر الكبير (المعلم)، ويقف على قارعة الطريق لبيعها، إنه يريد أن يدخر ما يكفي من مال لكي يدفع تكاليف سفره للمهربين الذين يقومون بتهريب اللاجئين إلى أوروبا، لكنه لا يسلم من جشع الشرطي الفاسد الذي يستولي بانتظام على معظم ما يكسبه، بل ويضطر علي أيضا لأن يدفع له حتى لو لم يكسب سوى أقل القليل، فالشرطي يصر على الحصول لنفسه على “المبلغ المقطوع” الذي يحدده، وليس أمام علي إلا أن يدفع له، وإلا وجد نفسه في السجن بدعوى أنه يقوم بعمل غير قانوني، ومن هناك يبدأ تراكم الإحباط لديه.

الشاب علي بطل الفيلم  تظهر ملامح التيه على وجهه بعد 10 سنوات من ثورة الياسمين

يقضي علي أحيانا بعض الوقت يتبادل أطراف الحديث مع صديقه عمر، حيث يدخن ويجلس في صمت، يتأمل، يخيم الحزن على وجهه. هناك لقطات كثيرة صامتة له في وحدته وصمته تشي بحالته النفسية التي تتدهور يوما بعد يوم أمام إحباطات الواقع.

ذروة اليأس.. طموحات البحث عن لقمة العيش في أوروبا

إننا نقف أمام فيلم عن التدني والتضاؤل، عن الهبوط التدريجي إلى ذروة اليأس، عن فقدان الأمل في التغيير الاجتماعي، لكن الاهتمام الأساسي لدى مخرج الفيلم يتركز على متابعة تلك الحالة الذهنية والحياتية التي تشعل عند علي الرغبة في تدمير الذات، ومن ثم تقوده إلى مصيره.

إنه يحدث صديقه عمر عن رغبته في الفرار من هذا الواقع القاسي المغلق الذي لا يبدو أنه سينصفه أبدا، وحلمه في التسلل إلى أوروبا ليس رغبة في إشباع نهمه الجنسي كما يوحي حديث عمر، بل من أجل البحث عن لقمة العيش، وهو يريد أن يفر مع الذين يفرون في القوارب المطاطية دون أي ضمان للوصول إلى هدفهم.

هذا هو معنى عنوان الفيلم “حرقة”، فهي كلمة تُطلق على الذين يحرقون أوراقهم وما يربطهم بوطنهم خلفهم قبل رحيلهم، وكان المخرج الجزائري الكبير مرزاق علواش قد أخرج قبل سنوات فيلما عن هذا الموضوع بعنوان “حراقة”.

وفاة الوالد.. أعباء جديدة على كتف مثقلة بالهموم

لا يبقى علي على هذا الحال طويلا، فسوف يتلقى خبر وفاة والده، فيضطر للعودة إلى البيت لرعاية شقيقتيه أليسا وسارة، لكنه يستمر في المبيت خارج البيت، في المكان الموحش الذي اختاره لنفسه، وكأن هذا المكان هو قبر حفره لنفسه، وكأن الرمزية الكامنة في مادة البنزين الذي يتاجر به تشير إلى الحرق أو النار، أي التضحية بالنفس التي قد تتكرر على غرار حادثة البوعزيزي.

زعيم العصابة يساوم ويبتز علي ويزيد ضغوطات الحياة عليه

أما الآن، فقد أصبح يتعين عليه أن يعيل أسرته الصغيرة أيضا، لأن أخاه الأكبر إسكندر يرفض أن يرد له ما له من مال عنده، ويصبح الاحتكاك بين الشقيقين حتميا، لكن إسكندر يخبره بأنه حصل على عمل جديد كنادل في مطعم بمنتجع الحمامات.

تهريب البنزين عبر الحدود.. مكاسب محفوفة بالهلاك والاعتقال

لم يعد بيع البنزين على قارعة الطريق يكفي إذن، بسبب ما يستولي الشرطي عليه من علي، لذا فهو يذهب بحثا عن عمل في الجهة التي كان والده الراحل يعمل فيها، فيتقدم لشغل الوظيفة نفسها التي كان يشغلها والده، لكنه يجد نفسه مرفوضا لأسباب واهية، والواضح أنهم أسندوا الوظيفة المتدنية لشخص آخر بالمحسوبية.

تدفع الظروف القاسية علي لأن يطلب من المعلم الذي يدير شبكة تهريب البنزين عبر الحدود الليبية أن يسند إليه القيام بمهمة تهريب كمية من البنزين في شاحنة، مقابل مبلغ أكبر مما يحصل عليه من البيع العشوائي. يوافق الرجل عل منحه الفرصة الأولى، وينجح علي في عبور الصحراء ويتعلم الإفلات من الشرطة.

تتكرر الرحلة القاسية، لكنه سيضطر ذات مرة للتخلص من البنزين حتى يضمن الإفلات من الاعتقال بعد أن حاصرته الشرطة، يومها كاد علي أن يلقى حتفه وكاد أن يُعتقل، وتقطعت أنفاسه في الصحراء، لكن “المعلم” يرفض أن يعطيه ما يستحقه من مال.

إهمال الدولة وظلم الأقربين ونهب المافيا.. تكالب الأعداء

مناظر الصحراء ومغامرة علي المحفوفة بالأخطار تكاد تنحرف بالفيلم قليلا في اتجاه فيلم الإثارة البوليسية، بعيدا عن فيلم القضية الاجتماعية، لكن لا بأس، فسرعان ما يعود المخرج لطفي ناثان إلى الالتزام بالواقعية الصارمة، وهو يفضل أن يبقى دائما على مسافة ما من بطله المعذب الذي يشعر بضآلة وجوده في مجتمع مكرس لخدمة طبقة صغيرة من أصحاب النفوذ، وكلما حاول أن يخترق ذلك الغلاف السميك البارد، وجد نفسه مدفوعا إلى الوراء، ينتقل من مأزق إلى آخر، ليس لأنه تعيس الحظ، بل لأن المجتمع بأسره يلفظه، والدولة تغمض عينيها عنه وعن أمثاله، حتى أن أخاه يرفض مساعدته، ويسرقه رجل مافيا التهريب وينكر عليه ما كسبه بيده، وتضيق الدائرة من حوله شيئا فشيئا. فهل سينتهي إلى نفس مصير بوعزيزي؟

الفيلم دراسة بالكاميرا للحالة النفسية لشخص يشعر بانعدام الجدوى في مجتمع تتردد فيه شعارات كثيرة، لكنه عمليا لا يبالي بأمثال علي، وبين آونة وأخرى نسمع صوت أخته الصغرى أليسا التي كانت تلميذة وقت وقوع الأحداث، بينما اضطرت أختها الكبرى للعمل في تنظيف المنازل، فأليسا هي التي تروي لنا الأحداث اليوم من دون أن يصبح تعليقها الصوتي مفروضا على الفيلم، فالمخرج يجعل الكاميرا تتعامل وترصد وتراقب وتتابع عن كثب كل خلجة في وجه الممثل آدم بيسة الذي يحمل الفيلم بأكمله على كتفيه بأدائه المقنع البديع المثير للحزن والأسى.

أماكن تصوير حقيقية.. بحث عن الواقعية في دروب تونس الثورة

في أحد المشاهد الواقعية المؤثرة يتجمع الشباب العاطلون أمام مقر محافظ الولاية في مظاهرة احتجاج، ويحاول علي أن ينال فرصة للقاء المحافظ، لكنه يُقابَل بالعنف والطرد بكل فظاظة وقسوة من جانب رجال الأمن، وتبلغ المهانة أقصاها، وتصل لحظة الاحتجاج إلى حدها الأقصى ونهايتها المأساوية.

علي يضطر أن يطلب من زعيم عصابة تهريب البنزين العمل بالتهريب لحسابه

ربما تكون هناك بعض المغالاة في تصوير الجو الخانق الكئيب الذي يلقي بشبحه على الفيلم كله، وكذلك بعض الأحداث المباشرة، مثل طرد أختي علي من مسكن الأسرة بعد أن يحضر مندوب شركة الإسكان للحجز على المسكن، بدعوى أن الأب الراحل لم يسدد القرض الذي اقترضه بضمان المسكن.

وربما يغيب عن سيناريو الفيلم خلق علاقة أكثر قوة ومتانة بين علي وأمثاله من العاطلين الذين يعيشون ظروفا اجتماعية قاسية مثله، فالفيلم يبدو فيلم حالة فردية أو دراسة نفسية للمسار الذي يؤدي إلى مأساة فردية مع غياب البُعد الجماعي العام، وكأن حالة علي حالة معزولة، كذلك يهمل الفيلم إلى حد ما تناول الأوضاع العامة، خصوصا الحالة السياسية في البلاد، كما لا تتعمق علاقة علي بأختيه، بل تبدو علاقة سطحية أو عابرة.

يصعد الأداء التمثيلي بالفيلم إلى ذروة التأثير، خصوصا أداء البطل آدم بيسة في أول عمل مشترك له مع مخرج الفيلم المصري الأصل الأمريكي الجنسية المولود في بريطانيا لطفي ناثان، إلى جانب الممثلين نجيب علاوي وسليمة معتوق وإقبال حربي في أدوار الإخوة الثلاثة.

وقد صور ناثان مع مصوره الألماني “ماكسميليان بتنر” مشاهد الفيلم في تونس العاصمة وسيدي بوزيد، وذلك في نفس الأماكن التي وقعت فيها حادثة محمد بوعزيزي، بل وفي نفس المكان الذي شهد انتحاره أمام مقر المحافظ.

“حرقة”.. صرخة في وجه السلطة وفسادها

لا شك في جرأة الفيلم من ناحية الهجاء السياسي، فهو يتجاوز الوصف الاجتماعي الخارجي لكي يحدد مسؤولية السلطة القائمة عن الوضع القائم، ويدين بقوة نظاما يقوم على التفرقة الطبقية والفساد، ويقول بوضوح إنه لم يتغير أي شيء في تونس بعد الثورة، أو رغم الثورة ورغم التضحيات والآمال التي انعقدت عليها.

ومن المعالم البارزة في الفيلم التصوير الواقعي المباشر للشارع، وذلك في صورة تبتعد عن التزييف وتصرخ بالحقيقة، وهو ما يؤكد نجاح المخرج الغريب القادم من الخارج في التعامل مع البيئة التونسية، وفهم تناقضات الواقع التونسي، ولا شك أن العلاقة بين الممثل الرئيسي والمخرج كانت السبب وراء أن يأتي الفيلم على كل هذا القدر من التأثير.

وإذا كانت “حرقة” كلمة رمزية تعبر عن أولئك الذين ينشدون الهجرة عن طريق القوارب، فهي في الوقت نفسه تشير إلى حرقة القلب أو الوجيعة التي تجعل بطل الفيلم علي يشعر طوال الوقت بالغثيان والاغتراب عن العالم، إلى أن تستبد به الرغبة في تدمير الذات.

إنه صرخة أخرى في وجه مجتمع الظلم الذي سبق أن دفع محمد بوعزيزي إلى مصيره.