حظر أفلام العنصرية.. عندما تحرق السينما تاريخها إرضاء للجمهور

الفنان المصري هشام عبد الحميد

طالعتنا وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي منذ فترة على جريمة نكراء يندى لها جبين البشرية. هذه الجريمة هي مقتل الزنجي “جورج فلويد” على يد شرطي أمريكي أبيض جثم على رقبته لمدة ثماني دقائق متصلة، ورغم توسلات “جورج” بعدم استطاعته التنفس فإن الشرطي لم يتركه إلا وهو جثة هامدة.

ولأن هذه الواقعة لم تكن هي الأولى من نوعها فقد انتفض الشعب الأمريكي بمظاهرات صاخبة، وانتفضت معه معظم شعوب العالم تضامنا، فقد هالها ما شاهدت من عنصرية بغيضة، وتطور غضب الجماهير فيما بعد تدريجيا، ليبدأ في تحطيم التماثيل الخاصة بالأجداد الأوائل الذين جلبوا العبيد الزنوج.

تجاوز الأمر إلى التمثيل بهذه التماثيل، وكانت الرسالة الموجهة تحطيم وإقصاء كل من له علاقة بذاك الزمن الأسود الذي شهد عبودية الزنوج في أمريكا، إنها آلام متراكمة دفعت لكل هذه الصور من الاحتجاج والغضب.

بدأ المشهد الملتهب -الذي هو بلا شك انحياز لمكونات الضمير الجماعي- يُعلن النية لمواجهة قيم الفاشية والعنصرية القاسية، وهو محق بالتأكيد، ولكن المقلق تحول هذا المشهد إلى كابوس العنف والانفلات الغرائزي، فقد رأينا جميعا كيف تحطم التماثيل وتكسر بنوع من الغضب الهائج الذي يصل إلى حد التشفي من أجل التشفي.

يعيد هذا المشهد لأذهاننا تلك الممارسات القبيحة التي نسفت بها تماثيل بوذا من قبل طالبان بحجة أنها تتعارض مع الدين، لكن مع فارق مهم هنا لرمزية خلفية العنف، فالأول ناتج عن تراكم اضطهاد تاريخي طبقي ناقم على تغول الهيمنة ونسفها لكرامة ووجود الناس وخاصة المستضعفين، أما الثاني وهو سيطرة الأصولية فناتج عن أيدلوجية دينية موغلة في العنف والتطرف.

 

حماية الإرث الإنساني.. ذهنية المنع والإقصاء المتجذرة

للأسف هناك خلط شديد بمسألة وجوب المحافظة على الأثر الإنساني، فبغض النظر عن ما كان يمثله في تاريخه من قيم ترتبط بالعقيدة والثروة والأرض فعلينا التفريق، حتى لو كان ذلك الأثر التاريخي متضادا مع القيم التي نحملها، والتي تغيرت مع تطور فكرنا الحاضر، لكن أليس من التحضر أن نحميها ونحافظ عليها لكونها تعبيرات فنية شاهدة على مراحل تكوينها؟

سأتعرض من ناحية أخرى فيما يتعلق بهذا الجانب لفن السينما، فقد فوجئنا ببعض المنصات المخضرمة والقنوات الفضائية المهمة تُصدر أمرا بالإعدام على فيلمين من أهم الأفلام في تاريخ وذاكرة السينما وهما فيلما “ذهب مع الريح” ( ) وفيلم “مولد أمة” (The Birth of a Nation)، وذلك لتعرضهم حينذاك للعنصرية بشكل إيجابي، وجعل التمييز ضد السود الخلفية المؤثرة في أحداث الفيلمين.

تناسى أصحاب هذا القرار المجحف القيمة الفنية رفيعة المستوى والنقلة الهامة التي أسهم بها كلا الفيلمين في رفع مستوى وتطور السينما، بل وتحولهم إلى أيقونات في عالم الفن السابع.

يطرح هذا القرار -الذي قد يكون اتخاذه ناتجا عن محاولة تهدئة أو انتقام- سؤالا هاما حول ذهنية المنع والإقصاء في الغرب والشرق معا، هل ما زلنا أسرى الرقابة الأبوية التي تفرض علينا ما نراه وما لا يجب أن نراه؟ متجاهلة أهمية تلك التجارب التي تراكمت بجهود جبارة، والتي هي شرط ضروري كعناصر تُساهم في تطور الوعي الإنساني.

وللإجابة على مثل هذه الأسئلة دعونا نتعرض للفيلمين المذكورين، ونبدأ بفيلم “مولد أمة” وهو فيلم صامت أنتج سنة 1915، من إخراج “ديفيد جريفيث”، وسيناريو “فرانك آن وودز” وقصة “توماس ديسكون جونيوز”.

 

“مولد أمة”.. ملائكية البيض وبهيمية السود

تدور قصة “مولد أمة” باختصار حول عائلتين أمريكيتين، إحداهما مؤيدة للاتحاد التام للبلاد، والأخرى مؤيدة لفكرة الاتحاد الكونفيدرالي.

استعان “ديفيد جريفيث” بكثير من أفكار الكاتب “توماس ديكنسون” وقصة “رجل العشيرة”، وقد أظهر “جريفيث” السود بشكل همجي ونهم للأكل والنساء، بينما يظهر البيض في قمة الطهر والعفة، ولعل مشهد مطاردة السود لفتاة بيضاء ورفض تلك الفتاة التفريط بشرفها، واختيارها الانتحار بإلقاء نفسها من فوق الجبل هربا من وحشيتهم وهمجتهم لهو مشهد عنصري بامتياز.

عكس الفيلم كذلك مشاهد السلب والنهب الذين يقوم بهما السود في المدينة مقابل سلمية البيض، مما أدى إلى ظهور جماعة “كو كلوكس كلان” (ك.ك.ك) وقد أخذت على عاتقها الدفاع عن البيض ضد همجية السود.

ولا شك أيضا أن دلالة اللون استطاع أن يوظفها “جريفيث” في خدمة رؤيته العنصرية، فقد تماثلت الملابس ذات الألوان البيضاء مع ملابس (ك.ك.ك) كدلالة على الخير والطهر والعفاف، بينما الشر في اللبس الأسود للزنوج الذين سيقضون على الأخضر واليابس.

 

بين الحظر والانتصار.. علاج العنصرية بالعنصرية

تعرض هذا الفيلم في وقته لقتل رجل أسود في إشارة تحريضية تحاول تأكيد أن فعل القتل خاص بالسود، وبرغم العنصرية البغيضة التى يمتلئ بها الفيلم الصامت، فقد كان فيه جمال رفيع المستوى في طرحه بأساليب فنية كانت فتحا في عالم السينما، مثل التصوير الليلي واللقطات البانورامية الطويلة، وكذلك استخدام المونتاج المتوازي بين حدثين للتأكيد على المعنى المراد إظهاره.

ولعل فيلم “مولد أمة” في عظمته الفنية الجمالية وعنصريته البغيضة يذكرنا بالفيلم الألماني “انتصار الإرادة” للمخرجة “لينى ريفنستال”، وهو فيلم عظيم الجمال، ولكنه دعائي للنازية البغيضة.

تعالت الأصوات بالطبع لمنع فيلم “مولد أمة” بالرغم من نجاحه الساحق جماهيريا، وفي كل مرحلة تاريخية نجد الأصوات تنادي بحظره ومنعه لمضمونه العنصري، ومن الطرف الآخر تتعالى أصوات تنتصر للفيلم كقطعة جمالية.

ومن المفترض أن الوعي الإنساني قادر على تفنيد مضمون الفيلم ليفصل بين هذا العمل السينمائي كقطعة جمالية رفيعة المستوى وبين محتواه العنصري، لكن المرء يغض الطرف إذا صاحبت اللعنات الفيلم ومخرجه إلى وقتنا الحالي، غير أن محاولات منعه المستمرة إلى الآن تعني عنصرية أيضا، لأن الإقصاء والتهميش هو عنصرية ونوع من العنف الغير مباشر.

 

“ذهب مع الريح”.. فوضى قصص الحب الأحادية

الفيلم الثاني الذي نتناوله هو فيلم “ذهب مع الريح”، وقد أنتج سنة 1939 من إخراج “فيكتور فليمنغ”، وقصة “مارغريت ميتشل” و”آن إدواردز”، وبطولة “فيفيان لي” و”كلارك غيبل”.

تدور أحداث الفيلم في ولاية جورجيا الأمريكية حول “سكارليت أوهارا”، وهي من عائلة ميسورة الحال تقع في غرام من طرف واحد لشاب من الأثرياء يدعى “آشلي ويلكس”، ونظرا لتجاهله لها تنتهز فرصة حفلة شواء وترمي نفسها بأحضانه، ويشاهد هذا شاب وسيم آخر وهو “ريت بتللر” الذي يصارحها بإعجابه بها، ولكنها تتجاهله كونها كانت متعلقة بـ”آشلي” الذي ارتبط لاحقا بـ”ميلاني”.

ترتبط “سكارليت” لاحقا بأخي “ميلاني شارلز” هاملتون نكاية بـ”آشلي ويلكس”، وتكون بالطبع خلفية كل هذه الأحداث الحرب الأهلية الأمريكية، فيذهب “آشلي ويلكس” كجندي فى الحرب وتبقى “سكارليت” وحيدة ومعها “ميلاني هاملتون” ووحيدها، وبالرغم من كرهها لـ”ريت بتلر” تقبل مراقصته في حفل خيري للمتضررين من الحرب الأهلية، حيث يكسب الرهان مع أصدقائه إذا استطاع مراقصتها، وعندما تدرك “سكارليت” بأمر الرهان يزيد كرهها له.

الأمريكية ميسورة الحال “سكارليت أوهارا” ترمي نفسها في أحضان الشاب الثري “آشلي ويلكس” في غرام من طرف واحد

 

حادث السقوط من الحصان.. رحيل الحبيب إلى الأبد

مع تقدم جنود الشمال حول أتلانتا تضطر “سكارليت” لطلب المساعدة من “ريت بتلر” فيسرق حصانا وعربة لإنقاذهم، وينتهي به المطاف في السجن، وهنا يصارحها “بتلر” بنواياه مما يضاعف من كرهها له، ثم تقابل “فرانك كيندي” جارهم القديم الذي يحاول التقرب من أختها “سولين” إلا أنها تنجح في استمالته نحوها فترتبط به وتعيش حياة الأثرياء، وتحاول بالطبع زيارة مزرعتها، لتكتشف أن الأم توفيت، وأن الشماليين نهبوا المزرعة.

يظهر “ريت بتلر” في حياة “سكارليت” بعد وفاة زوجها الثاني، ويتزوج بها وتكون ثمرة هذا الزواج بنتا جميلة تملأ حياة العائلة بهجة وشبابا، لكن الصغيرة تقضي نحبها إثر حادث أليم بوقوعها من فوق الحصان.

يقرر “بتلر” أن يترك “سكارليت” إلى الأبد بعد أن ذاق الأمرّين من سوء طباعها معه وغضبها عليه، لكونه لم يستمع لتحذيرها لمنع الطفلة من ركوب الفرس بمفردها، وكونها لم تستطع مبادلته الحب الذي يرجوه بعد كل تلك التضحيات التي بذلها من أجلها، فيقرر الرحيل.

أحست “سكارليت” عند قراره بتركها وحيدة تواجه المجهول أنها فعلا تفقد الحبيب، لكنه “ذهب مع الريح”، ووجدت أن عليها أن تعتزم على إعادة ترتيب أوراقها مرة أخرى ومواجهة الحياة من جديد.

الممثلة السوداء “هاتي ماكدانيال” التي حازت على جائزة أوسكار أفضل ممثلة مساعدة لكن الضغط العنصري عليها منعها من استلامها

 

“هاتي ماكدانيال”.. نقد لاذع لدور الأمَة السوداء

لاقت أحداث فيلم “ذهب مع الريح” المثيرة نجاحا مدويا، وأصبح فيلم “ذهب مع الريح” من الأيقونات السينمائية على مر التاريخ، إلا أن هذا لم يشفع له حين تعرضه لنوع من النقد اللاذع من السود تحديدا لانحيازه لعلاقة السود كعبيد بالبيض، بل واستكانتهم وسعادتهم بهذه العبودية المخزية كما لو كانت العبودية قدرا من أصل الحياة.

وقد عانت الممثلة السوداء “هاتي ماكدانيال” التي لعبت دور الخادمة سيلا من الانتقادات والتضييق رغم نجاحها الكبير، وأُدينت لأنها قبلت أن تجسد دور أمة مملوكة سوداء في فيلم يكرس مبادئ عنصرية بغيضة، وقد كان ردها: “إنني أفضل أن أجسد دور أمَة مملوكة في السينما وأتقاضى 700 دولار عن كل أسبوع تصوير على أن أعمل خادمة في الحياة، وأتقاضى 7 دولارات في الأسبوع.

وبالرغم من شجاعتها هذه فإن الضغط العنصري منعها من الحضور لاستلام جائزة التمثيل لأوسكار أفضل ممثلة مساعدة، لا شك أن العقل الجماعي لكلا الطرفين حينذاك كان عنصريا بامتياز، فخرج فيلم “ذهب مع الريح” على تلك الشاكلة.

 

قيمة التراث الإنساني الخالدة.. مقياس الإبداع والتنوع

برأيي كان فيلم “ذهب مع الريح” أسير مرحلته ولا يجب أن تحاسب الأعمال الفنية بمسطرة أخلاق ضيقة، بل يجب النظر لقيمتها الجمالية، حتى وإن كانت تدعو إلى ما يتعارض مع القيم الإنسانية السائدة.

إن اتساع الأفق للوعي الإنساني يساهم في جعلنا أكثر قدرة على أن نحلل ونحكم من باب أرحب، ولا ننساق وراء رفض العمل فقط لأنه لا يتماثل مع الأفكار التي هي ابنة حقبتها التاريخية.

يظل التراث الإنساني كوثيقة شاهدة على التاريخ وباقيا بقيمته الجمالية، فلا يصح ونحن في القرن الحادي والعشرين أن نمنع فيلما ونزيله من القنوات الفضائية ومنصات الإعلام، لأننا نختلف معه أو نرفض ما جاء به، فالغنى والتنوع في الإبداع هو الفيصل، وليست فاشية المنع والتحريم التي أصبحت شعارا عالميا لقوة الحياة.

تلك العبارة التي أطلقتها “سكارليت أوهارا” في فيلم “ذهب مع الريح” في بركان ندم وعذاب لشعورها أنها فقدت زوجها “بتلر” للأبد، ومضة الأمل تلك هي بقاء مزرعتها، إذن فهي تستطيع أن تبدأ من جديد: “غدا يوم آخر”.