“حقائق مزعجة”.. مخرج يهودي يدين الصهيونية

بعد حرب 2014 على غزة، استطاع المخرج الفرنسي الكبير “مارسيل أوفوليس” إخراج فيلم تسجيلي طويل، يكشف عنصرية السياسة الإسرائيلية، ويتبرأ منها وهو في السابعة والثمانين من عمره. ومعروف أنه ابن المخرج الألماني الشهير “ماكس أوفوليس”، وهو يهودي هاجر من ألمانيا إلى فرنسا بعد وصول النازيين للسلطة في ثلاثينيات القرن الماضي، ثم هاجر مع أسرته إلى أمريكا بعد الاحتلال الألماني لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية، قبل أن يعود مُجدّدا إلى فرنسا حيث لايزال الابن مارسيل يعيش ويصنع أفلامه التسجيلية المثيرة للجدل.

مقدمة من 12 دقيقة تكشف الستار

وكان كُشف الستار عن مشروع الفيلم لأوفوليس، بعد أن بث المخرج الكبير مقدمة دعائية بديعة لفيلمه، يبلغ زمن عرضها 12 دقيقة، على موقع أسسّه خصيصا للفيلم على شبكة الانترنت، من أجل جمع التبرعات لتمويل الفيلم الذي كان من الصعب أن يحصل على تمويل الشركات الكبرى سواء في أمريكا أو في أوروبا، رغم شهرة مخرجه، ورغم كونه يهوديا. فالفيلم  يطرح الكثير من التساؤلات المقلقة التي لا يريد أحد في أوساط صناعة السينما، الاستماع إليها، حول الصهيونية التي يرفضها أوفوليس بل يراها تعمل على تشويه صورة اليهود في العالم، كما يقول في المقدمة الدعائية للفيلم، بل ويُصرِّح بوضوح أن “اسرائيل تساعد في تأجيج “العداء للسامية” في العالم”.

الموت للعرب.. شعار الشباب الإسرائيلي

ويعلن أوفوليس أيضا أن اللوبي الإسرائيلي في فرنسا “يقوم بتصدير” النزاع القائم في إسرائيل إلى فرنسا، وهو ما دفع “سكوت ماكونيل” إلى أن يصف تلك “العلاقة الخاصة” بين إسرائيل وأمريكا، في صحيفة “نيويورك تايمز”، بأنها “حزام لنقل الأفكار السيئة إلى الولايات المتحدة”. ويقول مارسيل أوفيليس أن “البذور السيئة للصهيونية تتضّح عندما نرى الفلسطينيين يعيشون في “سجن” كبير في الضفة الغربية”. ويصف هذا الوضع حرفيا في مقدمته المثيرة الموجودة حاليا على الانترنت، بأنه “تمييز عنصري”، ثم نرى متظاهرين إسرائيليين يمينيين يحتجّون على الزواج بين اليهود والعرب وهم يرددون “الموت للعرب”!

متظاهرات إسرائيليات يمينيات يعترضن على الزواج بين اليهود والعرب وهن يرددن “الموت للعرب”

حقائق مزعجة.. تزعج الصهيونية

يحمل الفيلم عنوان “حقائق مزعجة” (Unpleasant Truths) والعنوان الفرعي “نظرة إلى الصراع العربي الإسرائيلي”. ففي الفيلم، يقول أوفوليس أيضا أن والده كان يرى أن “مصير اليهود في القرن العشرين يجب أن يكون كوزوموبوليتانيا، أي “ضد القومية” أي “ضد الصهيونية” حسب نص كلماته. وربما لهذا السبب لم يفكر قط في الذهاب إلى إسرائيل. وهو يُخرج فيلمه بالاشتراك مع المخرج الإسرائيلي المناهض للصهيونية، “إيال سيفان” الذي أخرج عددا من الأفلام الوثائقية التي تدين السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وترك إسرائيل ليقيم في باريس.

المخرج الإسرائيلي المناهض للصهيونية “إيال سيفان”

وفي مقدمة الفيلم يظهر رجل فرنسي يقول إن النساء الفرنسيات يمارسن الجنس مع المسلمين، وبالتالي يجعلن أرحامهن سلاحا من أجل العرب. ويعلق “أوفوليس” على هذا فيما بعد بالقول “هذا كلام عنصري، فاشي، بل أسوأ، لقد ظل هذا الرجل يصرخ بهذه الكلمات البشعة لخمس دقائق”- يقصد أثناء التصوير معه.

“الإسلاموفوبيا”.. عدو السامية الجديد

ويقول روبرت ماكاي في “نيويورك تايمز” في معرض تعليقه على هذا المشهد إن المخرجين- أوفوليس وسيفان- يرغبان حسب ما يقوله سيفان، في معرفة ما إذا كانت “الإسلاموفوبيا” هي الشكل الجديد حاليا للعداء للسامية.

حاخام إسرائيلي يقول إن واحدا من كل ثلاثة فلسطينيين مجرم قاتل

ويجري أوفوليس مقابلة مصورة تظهر في الفيلم، مع الحاخام الإسرائيلي الذي قال أن واحدا من كل ثلاثة فلسطينيين مجرم قاتل. أما “أبراهام بيرج”، الرئيس السابق للكنيسيت الإسرائيلي فيقول لأوفوليس إن فكرة الفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، قد انتهت، وأنه “يتعين علينا أن ننتقل إلى مجتمع التعايش، حيث نتشارك في العيش وفي الأرض وفي الموارد وفي السيادة”. ويضيف قائلا “يمكنك أن تطلق عليها “ما بعد الصهيونية” أو “مناهضة الصهيونية”، ولكن يجب أن يأتي هذا الكلام من جانب اليهود”.

“أبراهام بيرج”، الرئيس السابق للكنيسيت الاسرائيلي

استشهد ولدي.. والآخر معتقل

وقرب نهاية المقدمة يسأل أوفوليس امرأة فلسطينية عن حال ابنها الذي كان قد أصبح ناشطا مسلحا واعتقله الإسرائيليون مؤخرا، فتقول له المرأة أنه أثناء الانتفاضة الأولى هدم الإسرائيليون منزل الأسرة، وتوقف الصبي عن الذهاب إلى المدرسة، وكان في العاشرة من عمره. ثم تضيف قائلة، إنه “إذا كان قد درس وتعلم وأُتيحت له فرصة أن يعيش حياة كريمة، لكان مسار حياته قد اختلف.. لقد رأى شقيقه يُقتل، فماذا تتوقع أن يصبح؟”. يسألها أوفوليس: إذن لديك ابن آخر قُتل؟ فتجيب: نعم شقيقه استشهد.. فيبتسم أوفوليس ويشكرها.

أوفوليس في مقابلة مع فلسطينية استشهد ابنها واعتقل ابنها الآخر

وتقول “نيويورك تايمز” إن القس “بروس شيبمان” فقد وظيفته في جامعة “يال” في العام الماضي، بعد أن كتب رسالة من ثلاثة أسطر نشرتها “نيويورك تايمز” يشير فيها إلى أن تصاعد العداء للسامية في أوروبا يعود ولو جزئيا، إلى ما تمارسه إسرائيل من قمع للفلسطينيين. وعلى إثر ذلك، تمت إقالة شيبمان، بعد أن أُرغم على تقديم اعتذار.

إسرائيل.. وتأجيج المشاعر

ولكن “التايمز” البريطانية نشرت تعليقات مماثلة في اتهامها لإسرائيل لكل من أوفوليس وسيفان. وكان أوفوليس قد اتصل هاتفيا العام الماضي بسيفان وطلب منه أن يشترك معه في إخراج فيلم عن الحرب على غزة وتصاعد العداء للسامية في أوروبا، على أن يبحثا عما إذا كانت هناك علاقة بين الأمرين، وقال سيفان إنهما يأملان في الإجابة على السؤال التالي عبر الفيلم: هل تؤجج إسرائيل مشاعر العداء للسامية؟

وقفة يهودية في اليوم الأربعين للعدوان على غزة في 2014

ويأتي تعليق بعض قراء “التايمز” بنغمة تهكم واضحة، إن أوفوليس وسيفان -على العكس من القس شيبمان- لن يدفعا ثمن إثارة مثل هذا السؤال لأنهما يعتبران من “اليهود”.. حتى بعد طرح فيلمهما، إذ فيه الكثير من “الحقائق المزعجة”، حسب تعبير ديجول الشهير الذي قال عندما عرضوا عليه موضوع منع فيلم فرنسي كان يكشف الكثير عن التعاون بين بعض الفرنسيين، وبين السلطات الألمانية النازية وقت احتلال الألمان لفرنسا: إن فرنسا “ليست في حاجة إلى حقائق مزعجة بل إلى حقائق تدعو للأمل”!

وقد تدبر أوفوليس نحو 60 ألف دولار من تبرعات الأفراد عبر شبكة الانترنت، لاستكمال تصوير الفيلم، الذي صوَّر قسم منه في إسرائيل. وكان أوفوليس قد خاطب عام 2009 المخرج الفرنسي الكبير “جان لوك جودار”، وطلب أن يشترك الاثنان معا في إخراج فيلم “حقائق مزعجة”، وليس معروفا السبب الذي جعل “جودار” يحجم عن المساهمة في هذا الفيلم رغم انتقاداته المعروفة للسياسة الإسرائيلية في أكثر من فيلم من أفلامه، ومنها “موسيقانا” و”فيلم الاشتراكية” على سبيل المثال، بل إنه خاض عام 1970، تجربة تصوير فيلم عن المقاومة الفلسطينية في الأردن.