“حكمة الصدمة”.. نبش في آلام الروح الغائرة لعلاج الجسد

عبد الكريم قادري

“في غضون أكثر من 30 سنة من ممارستي للطب ومعالجة الإدمان، وجدتُ بأن النموذج المشترك تقريبا لجميع الآلام والأمراض العقلية والجسدية التي يعاني منها المرضى، هو في الواقع ناتج عن الصدمة”.

 

“التحقيق الرحيم”.. حفر في قصص المرضى الأليمة

استطاعت الناشطة والمخرجة البلغارية “زايا بيناتزو” رفقة زوجها ورفيق دربها الإيطالي “ماوريتسيو بيناتزو” أن يخرجا فيلما وثائقيا يحمل الجنسية الأمريكية في غاية الأهمية والدقة والوضوح، حيث تطرقا من خلاله لقضايا إنسانية وطبية عميقة، جمعاها تحت نظرية أو منطلق الصدمة التي جاء بها وطورها الطبيب والفيلسوف الهنغاري من أصل كندي “غابور ماتي”، وجرى اعتمادها في الكثير من العيادات النفسية في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن ثبت مفعولها الطبي لدى فئة واسعة من المدمنين وأصحاب الأمراض النفسية الذين يعانون من الكآبة والغضب والقلق وغيرها من الأمراض الأخرى.

وقد استطاع هذا الطبيب الذي كان قد مرّ بهذه التجارب المرضية أن يخرج منها، وأكثر من هذا تعلّم الطب وعمل فيه لأكثر من 30 سنة كاملة، إضافة إلى نشاطه في تقديم المحاضرات في عدد من دول العالم، وتأليفه للكثير من الكتب التي أصبحت مرجعا مهما للمهتمين والأطباء وعلماء النفس وحتى المدمنين، انطلاقا لأسبقيته لخلق صيغة علاجية جديدة يطلق عليها “التحقيق الرحيم”، ويقف فيها المعالج في مواجهة المريض ليستخرج منه قصص وأحداث الماضي التي تسببت له في الصدمة التي أدت إلى علّة معينة.

ويقول الطبيب “غابور” عن هذا الأمر: الغاية من التحقيق الرحيم هو الحفر للوصول للقصص الجوهرية التي يخبرها الناس لأنفسهم، لجعلهم يراقبون القصص التي يخبرونها لأنفسهم بشكل غير واع، ومعرفة المعتقدات التي يؤمنون بها، ومن أين وكيف جاءت.

وبعد أن يجمعوا هذه المعطيات يرشدهم الطبيب لاحتمالية عدم جدوى هذه القصص، وبالتالي التخلي عنها، من أجل معرفة الصدمة ومعالجتها، وقد سبق أن جمع لقاء بين الطبيب “غابور” ومريضة كانت تعاني نفسيا من شخص يقول عنها إنها وحش، وكانت تغضب كثيرا من هذا التوصيف، لدرجة لا يمكن وصفها، وقد قال لها “غابور” إنها تملك شعرا أخضر جميلا، فضحكت من وصفه، وعندما سألها عن سبب ضحكها قالت له إن شعرها غير أخضر، ليرد عليها مرة أخرى بقوله إنها هي أيضا ليست وحشا. يقول غابور: ولماذا تغضب من صفة ليست فيها مثل الشعر الأخضر؟ عليها أن تواجه الأمر بنفس ردة الفعل.

مخرجة فيلم “حكمة الصدمة” البلغارية “زايا بيناتزو” رفقة زوجها ورفيق دربها المخرج الإيطالي “ماوريتسيو بيناتزو”

 

الأمراض العقلية.. وباء يفتك بخمس الشعب الأمريكي

“حكمة الصدمة” (The Wisdom of Trauma) هو العنوان الذي اختاره المخرجان “زايا” و”ماوريتسيو بيناتزو” لفيلمهما الوثائقي الذي بدأ عرضه يوم 29 يوليو/تموز 2021، وقد قدّما فيه عددا من الحقائق العلمية والروحية التي لم يتطرق لها سابقا، منها الأرقام والنسب المخيفة التي جاءت موزعة في متنه، وقد جمعت في البطاقة التقنية للفيلم كصيغة تعريفية، وأكثر ما يميزها هو خُلوّها من الكلمات الإنشائية والشعرية، والتذاكي الذي عادة ما يوظّفه بعض المخرجين في أفلامهم، وذهبوا من خلالها مباشرة إلى الأرقام والنتائج التي يمكن أن تُحدث صدمة فورية لدى المتلقي الذي يجهلها، وبالتالي تجعله يقلق منها، ما يدفعه للاطلاع على الفيلم لكشف ما فيه.

وقد جاءت بالصيغة التالية: يجري تشخيص واحد من كل خمسة أمريكيين بمرض عقلي كل عام، الانتحار هو ثاني أكثر أسباب الوفاة شيوعا في الولايات المتحدة للشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاما، ويقتل أكثر من 48300 في الولايات المتحدة و800000 شخص على مستوى العالم سنويا، أما الجرعات الزائدة من المخدرات فتقتل 81000 شخص في الولايات المتحدة سنويا، كما يؤثر وباء اضطراب المناعة الذاتية على 24 مليون شخص في الولايات المتحدة وحدها.

من هنا يطرح سؤال محوري عن هول هذه الأرقام، لتأتي الإجابة: وفقا للدكتور “غابور ماتي” انطلاقا من طرحه الذي يقول فيه إن الأوبئة والقلق والأمراض المزمنة وتعاطي المخدرات طبيعية، وهي مترابطة بطريقة ما، لكن ليس بالطريقة التي قد نفكر بها.

الطبيب والفيلسوف “غابور ماتي” رفقة زوجته الفنانة التشكيلية التي ساعدته على التخلص من أمراضه النفسية خلال فترة شبابه

 

فيلسوف في وسط الغابة.. مفاتيح فهم الفيلم

استهل المخرجان فيلمهما بصور مكبّرة لرضيع، بعدها قدما عددا من الوجوه الأخرى لمجموعة من الأطفال بأعمار وألوان مختلفة، ليختم تلك المقدمة بأشخاص متقدمين في العمر يحملون ملامح قوية موحية ومعبرة عن الألم والحزن والقلق والكآبة وحتى الفرح، إلى أن يذهب لصورة مكتملة بزوايا متعددة ملتقطة وسط مكان طبيعي في الغابة، يتوسطه الطبيب والفيلسوف “غابور ماتي” ذو الملامح القوية التي تعكس خبرته في الحياة (عمره 77 سنة).

وقبل هذا الظهور كان هو الراوي في المقدمة، صوت يصدر خارج الإطار، حتى ومع ظهوره فلم يربط الصوت بالصورة، من أجل صناعة معنى أقوى وتقديم خيوط تفسير وفضول، لفهم تلك الشخصية القوية والمؤثرة، وهو المعنى الذي يثبت من خلال التصريح أعلاه الذي ساقه في الانطلاقة، على وقع صور تساقط المطر، من خلال طقس بيئي يبعث الرهبة والسكون والحكمة والمعرفة.

إنه فضاء سحري يعيش ويقيم فيه، برفقة زوجته الفنانة التشكيلية التي ستظهر في الجزء الأخير من الفيلم، لتتحدث عن زوجها وفترة شبابه التي كان يعاني فيها كثيرا، وهي معطيات أولية قدّم المخرجان من خلالها مفاتيح لفهم متن الفيلم وعناصره والغاية منها.

 

حلف الرأسمالية وشركات الأدوية.. تيه البوصلة الطبية

ركّز فيلم “حكمة الصدمة” على شخصية الدكتور “غابور ماتي” لتقديم مادة علمية مفهومة ومُبسّطة انطلاقا من تجربته الشخصية في تفسير مفهوم “الصدمة” الذي بات يعالج به مرضاه، وقد طرحت في العمل أسئلة كثيرة حول الهيئات والجامعات والمؤسسات الطبية والاجتماعية والسياسية التي لا تريد ربط مهنة الطب بالمعارف النفسية ومداركها.

حيث يقع التعامل مع الشخص المريض عضويا أو نفسيا من خلال ما يعانيه في تلك اللحظة، دون الذهاب إلى أصل المشكلة التي يمكن معالجتها بسهولة لو طرحت الأسئلة الصحيحة، ويعرف الدكتور مفهومه الجديد بقوله: إن الصدمة ليست ما يحدث لك، بل الصدمة هي ما يحدث بداخلك، نتيجة لما يحدث لك.

ومن خلال هذا يريد من الأطباء أن يجمعوا بين دراسة الطب ودراسة علم النفس لفهم تلك المعطيات، لكنه يعرف جيدا بأن هذا الأمر -حسب تصريحه- تتحكم فيه شركات الأدوية الكبرى والرأسمالية المتوحشة التي لا يهمها سوى المال وتدوير عجلته، ولو على حساب صحة الإنسان، لهذا يعاقب المجرمون والمدمنون على المال والعمل والجنس والخمر والمخدرات، وغيرها من أمراض العصر الأخرى، دون أن يكلف الأطباء أنفسهم بالذهاب إلى ماضيهم لفهم “الصدمة” التي جعلتهم على تلك الحال.

حلقة كبيرة تجمع المساجين في ساحة أحد أعتى السجون، وذلك لتنظيم حلقة علاجية لفهم صدمة السجناء من خلال أخصائية زارتهم

 

أمراض الجسد.. بقايا الصدمات العاطفية التي تفتك بنا

وكتجربة بسيطة تنقلت أخصائية إلى أعتى السجون وأكثرها خطورة، وقامت في ساحته بتشكيل حلقة كبيرة من المساجين، بينما جلست هي في الوسط، لتقوم بعدها بطرح الأسئلة لمعرفة الصدمة، ومع كل سؤال عن الماضي الذي يتعلق بعنف الوالدين وإدمانهما والفقر وغيره يتقدمون خطوة إلى الأمام، وهكذا تتبعا لتلك الأسئلة تقدم المساجين كلهم تقريبا، لتثبت بذلك فعالية هذه الطريقة، وبالتالي وصلت الأخصائية النفسية إلى الصدمة فيهم، وفهمت عللهم وفقا لتتبع نظرية “ماتي”.

وأكثر من هذا، فقد ربط هذا الفيلسوف والطبيب المتقاعد عددا من الأمراض العضوية الحديثة بمشكلة الصدمة، مثلا يطرح سؤالا مهما عن السبب الذي يجعل الأمريكيين السود هم أكثر إصابة بسرطان البروستات، وأكثرهم موتا به مقارنة بالآخرين.

فبحسب الطبيب “ماتي” فإن هذا لم يحدث بسبب نقص الرعاية، بل السبب كونهم أقلية والثقافة مختلفة، لأن حياتهم مرهقة للغاية، والنتيجة أنهم يتشوش جهاز المناعة عندهم، وكذلك شأن الربو عند النساء السوداوات، ويطرح سؤالا: هل هذا المرض مظهر من المظاهر العادية، أو أنها ظاهرة تعكس ضائقة اجتماعية؟ ويُجيب ماتي بأن السبب عاطفي، نظرا للقمع أو الغضب أو العار الذي تعرضن له، وهي المعطيات التي تولد الواقع المرضي في فيزيولوجية الرئة.

من هنا تكون انطلاقة هذه الأمراض نفسية وعاطفية أكثر منها صحية، ليؤكد بأن المرض الجسدي ما هو إلا مرض عاطفي ناتج عن صدمة ما، وبالتالي يوصي بضرورة تعديل مناهج الدراسة لفهم هذا الأمر أكثر في السجون والمجتمعات والمستشفيات والمدارس، وغيرها من المؤسسات الأخرى.

الدكتور “غابور  ماتي” رفقة أحد المرضى الذين استطاع أن يغير حياتهم رأسا على عقب

 

جيش الأخصائيين.. ثراء في التفاصيل العلمية الدقيقة

جاء فيلم “حكمة الصدمة” حماسيا ومقنعا وغنيا بالتفاصيل العلمية الطبية الدقيقة، مدعوما بمعطيات الحكمة التي تهتم بالجانب الروحي للإنسان، وهي بالأساس معطيات مهمة تأخذ المشاهد لمعرفة تفاصيل حياة “غابور ماتي” العلمية والأسرية والشخصية.

وقد تجلت مظاهر الإقناع والتأثير التي صنعها الفيلم في طريقة المعالجة، إضافة إلى استعانة المخرجين بعدد من الأطراف الفاعلة في هذا الأمر، مثل الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين، إضافة إلى المدمنين والمرضى الذين تعامل معهم “غابور” عبر السنوات الماضية، واستطاع أن يغير حياتهم رأسا على عقب، وأدخلهم إلى المجتمع وجعلهم جزءا منه وطرفا أساسيا فيه، وهذا ما أعطى مصداقية استثنائية بتوسيع التجربة ومعرفتها من أصحابها، أو الذين خبروها وعاشوها ومروا بها.

كما استعان الفيلم بالأرشيف السمعي البصري للدكتور “غابور ماتي”، ويتعلق بحلقات العلاج التي كان يجريها، أو المقابلات الإذاعية والتلفزيونية، إضافة إلى المحاضرات المهمة التي كان يلقيها، وقد أبانت بعض المداخلات عن الأهمية العلمية والطبية التي تحيط بهذا الطبيب المتقاعد والفيلسوف الذي ألّف عددا من الكتب التي أصبحت مرجعا للكثيرين عبر العالم.

 

“جيك نيلسون”.. رسومات أظهرت الحزن في عيون الأفراد

رغم أهمية الموضوع الذي يمكن أن يغطي على باقي التفاصيل الجمالية التي توفرها العناصر الأخرى، فإن المخرجين لم يسقطاها من الحسابات السينمائية، واعتنيا بكل تفاصيل الفيلم، لهذا جاءت صور العمل منوعة وصافية ودقيقة ومتنوعة في الزوايا والوضعيات والمناظر والمشاهد، في داخل البيوت وخارجها، في الشوارع والسجون والمراكز والمطاعم والمقاهي وكثير من الفضاءات الأخرى، وهو الجهد الذي قامت به مديرة التصوير “كارولين هاريسون” و”مارتي مارتن”.

من هنا توفرت شروط التقبل بعد أن قتل كل ملل مفترض، وهي المعطيات التي ستعمل على تحريض المتلقي للوقوف على المدة الزمنية للفيلم المقدرة بـ127 دقيقة، دون أن يشعر بأي إزعاج يمكن أن يقتل فيه لذة المشاهدة، لأن البديل الجمالي والتنوع البصري متوفر بقوة مع توظيف الرسوم المتحركة من قبل الرسام “جيك نيلسون” الذي أعاد بها ابتكار مشاهد من الماضي أو الحاضر، وعكس في مجملها الألم الذي مر به الأشخاص المعنيون.

وقد أظهر “نيلسون” ذكاءه من خلال التركيز على عيون الأفراد التي يرسمها، حيث كانت مليئة بالحزن والدموع والكآبة والخوف والقلق، أي يمكنها أن توصل هذه الأحاسيس بسهولة تامة إلى المتلقي الذي سيتفاعل معها، وقد وزعت هذه اللوحات الفنية في معظم مفاصل الفيلم لتؤدي وظيفة توضيحية، وتعين المُشاهد على فهم بعض الحالات والتعاطف معها.

بهذا يكون الفيلم بمجمله عملا ذكيا من المخرجين “زايا” و”ماوريتسيو بيناتزو” اللذين فهما موضوعهما بشكل جيد، لهذا من الصعب أن نجد ثغرة تمكننا من الانتقاص من قيمة الفيلم أو التقليل من شأنه، وقد سمحت هذه العناية السينمائية الدقيقة بأن تخلق نضوجا فنيا ووعيا جماليا، لهذا شارك في عدد من المهرجانات السينمائية المهمة، وخلق قبولا بين الجمهور والنقاد.