“حملة ضد المناخ”.. مؤامرة الرأسمالية السوداء على الكوكب الأزرق

قيس قاسم

في بداية ثمانينيات القرن المنصرم انتبه العلماء إلى التغيرات المناخية الحاصلة جراء فعل الإنسان، وإلى المخاطر الجدية التي تهدد البيئة بسبب زيادة نسبة انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري.

وعلى إثر ذلك تحمس قادة الدول -وبشكل خاص الصناعية منها- للقيام بخطوات جادة تحمي بها البيئة وتضع حدا للتغيرات المناخية، لكن فجأة تراجع هؤلاء عن مساعيهم وبدلا منها ظهرت دعوات جديدة تشكك بحقيقة تلك المخاطر.

يتتبع المخرج الدنماركي “مادس إليسو” مسار التحولات في المواقف خلال أكثر من أربعين عاما عانى كوكب الأرض خلالها من أضرار شديدة لحقت به وبغلافه الجوي، فيتحرى في وثائقيه “حملة ضد المناخ” (The Campaign Against The Climate) عن الواقفين وراء الحملات الدعائية المشككة بجدية ما توصل إليه علماء وخبراء البيئة.

 

شركات إنتاج الطاقة.. مساع في الظلام لحجب الحقيقة

يتوصل الوثائقي خلال بحثه إلى الدور الذي لعبته شركات إنتاج الطاقة -وبشكل خاص الأمريكية منها- في إيقاف كل مسعى يهدف إلى تخفيف نسبة الغازات الخطيرة المتسربة من مصانعها من خلال التشكيك بحقيقة الدراسات والبحوث التي يقوم بها خبراء البيئة، وذلك عبر الاستعانة بخبراء وإعلاميين تدفع لهم مبالغ مالية كبيرة مقابل إحاطة ما يتوصل إليه العلماء من حقائق بهالة من الشكوك، وبإشاعة البلبلة في أذهان العامة من الناس.

يقابل الوثائقي خلال بحثه مجموعة من هؤلاء، ويجري حوارات معهم تأخذ شكل التحقيق البوليسي، ولا تنكر أغلبيتهم ما قامت به خلال عقود من الزمن، ولم تتراجع عن إعادة ترديد عبارات صادمة مثل التي صرح بها المستشار الخاص للرئيس “ترامب” لشؤون البيئة “ميرون إبل” أمام الكاميرا، وملخصها:

إن الاحتباس الحراري وارتفاع نسبة غاز ثاني أوكسيد الكربون في الجو تسهم في زيادة خضرة الكرة الأرضية.

وعن سؤال المخرج عن ما إذا كان يقصد بأن تلك الانبعاثات الحرارية تمثل حسب رأيه فائدة للأرض؟ أجابه بالموافقة: نعم بالتأكيد.

السيناتور الخبير في وكالة ناسا لعلوم الفضاء “جيمس هانسن” يقدم شهادته الخاصة بالتغيرات المناخية أما الكونغرس

 

“جيمس هانسن”.. صرخة قبل وقوع الكارثة

أراد المخرج الدنماركي كتابة نصه الوثائقي بأسلوب السرد القصصي فعاد إلى بداية الحكاية حينما ظهر السيناتور “جيمس هانسن” الخبير في وكالة ناسا لعلوم الفضاء في عام 1988 أمام لجنة خاصة في الكونغرس، مقدما شهادته حول التغيرات المناخية ومدى جدية المخاطر التي تهدد الكرة الأرضية.

وقد أثبت “هانسن” في شهادته التاريخية مسؤولية الإنسان عما يجري، ودعا الدول والحكومات إلى الإسراع باتخاذ خطوات فورية لوقف تدهور الأوضاع المناخية، كما قدم أدلة على النتائج الكارثية لارتفاع حرارة الأرض ومن بينها الذوبان السريع للجليد القطبي الذي يؤدي بدوره إلى حدوث فيضانات مدمرة، وإلى موجات الجفاف التي يشهدها العالم وبسببها يموت ملايين الناس جوعا، إلى جانب حرائق الغابات وغيرها من الكوارث المرعبة.

خبير الدعاية “جيري تايلر” المكلف من مرؤوسيه بتشكيك ما توصل إليه علماء البيئة

 

حملة التشكيك الفوضوية.. علو الصخب على صوت العِلم

ردود الفعل الإيجابية التي تركتها شهادة العالم الأمريكي “جيمس هانسن” على الناس والساسة، وجعلتهم يوافقون على البدء باتخاذ خطوات سريعة لتحسين المناخ؛ جرى العمل على تفتيتها في السر ومنع المضي بها من قبل شركات إنتاج الطاقة الأمريكية مثل “إكسون موبيل” النفطية وغيرها.

بعدها ظهر وبشكل مكثف على شاشات التلفزيون خبراء إعلام وباحثون انبروا للطعن بالشهادة، وأحاطوا مضمونها بهالة من الشكوك، ومن بين هؤلاء “جيري تايلر” خبير الدعاية الذي لخص للوثائقي مهمته المكلف بها من قبل مرؤوسيه.

وتتلخص هذه المهمة في العمل على تقديم حجج تدحض ما يتوصل إليه علماء البيئة، وكيل التهم إليهم بالعمل على كبح النشاط الاقتصادي الحر، وفي النهاية التأكيد على أن نسبة الانبعاثات الحرارية بمجموعها لا تشكل خطرا على الأرض والسكان.

المستشار الخاص للرئيس “ترامب” لشؤون البيئة “ميرون إبل” يقول إن الاحتباس الحراري يساهم في زيادة خضرة الكرة الأرضية

 

خبراء الدعاية المضادة.. حين يصبح دحر الخصوم هدفا لذاته

في معاهد مختصة بنشر الوعي مثل معهد “كاتو” الأمريكي يعمل خبراء دعاية من بينهم “تايلر” على إضعاف حجج العلماء وإظهار عجزهم في الدفاع عن قناعاتهم.

ويكشف المحاور التلفزيوني النشط “مارك مورانو” للوثائقي عن عدم امتلاكه أي صفة علمية، حيث بدأ حياته المهنية مروجا وبائعا للبضائع، ويعترف أن مهمته الأساسية هي تحطيم الخصوم  (العلماء) بحذاقة ولباقة خلال المحاورات التلفزيونية، وإظهار عجزهم عن إثبات ما توصلوا إليه خلال بحوثهم العلمية.

يعمل هؤلاء الخبراء على استراتيجية موضوعة من قبل شركات إنتاج الطاقة، وتهدف إلى تعطيل كل مسعى يحد من أرباحها عبر ربط الدعوات لتحسين الطاقة بمواقف أيديولوجية واعتبار فكرة “الاحتباس الحراري” فكرة يسارية خرجت من السويد لغرض تخويف الناس ودفعهم لمزيد من الضرائب البيئية لزيادة مداخيل حكوماتها المتجهة لتحسين رفاهية الشعب، وأن أغلب النشطاء وحتى الخبراء هم من اليساريين.

وخلال تحقيقه مع مستشار الرئيس “ترامب” للبيئة يعترف المستشار بأن أغلب المديرين المشرفين على إدارة مؤسسة “سي أي آي” الأمريكية لدراسات البيئة ينتمون إلى اليمين المحافظ والوسط.

متظاهرون ينددون بطمع أصحاب شركات الطاقة  في حملة ضد التغيير المناخي الذي يحدث في العالم

 

“نعومي أركسيس”.. شماعة الشيوعية التي تحرق الباحثين

من بين من تعرضوا لتهمة الشيوعية واليسار البروفيسورة في تاريخ العلوم في جامعة هارفارد الأمريكية “نعومي أركسيس”، حيث تقر المؤرخة بسخرية أمام المحقق الوثائقي بأن خبراء الدعاية المُناوئة للحقائق العلمية هم أكثر ذكاء في إدارة الحوارات ولهم تأثير أكبر على جمهور العلماء لخبرتهم في إدارة دفة النقاش وتحريفه عن مساره الصحيح.

تسرد “نعومي” قصتها مع المهاجمين السريين بعد نشرها بحثا تاريخيا حول مواقف العلماء البيئيين من التغيرات المناخية، فبعد انكباب على البحث لعدة سنين توصلت إلى معطيات دامغة تؤكد أن جُل العلماء قد نبهوا إلى الدور الخطير الذي يلعبه الإنسان في تدمير البيئة وتخريب المناخ، وأن ما يعلنه المحاورون المأجورون هو كلام لا يسانده العلماء ولا بحوثهم.

إثر نشر بحثها وصلتها رسائل تهديد وإيميلات تطالب بطردها من عملها في الجامعة، وتتهمها أيضا بالشيوعية وبأبشع الصفات، وقد أصابتها كثافة الحملة وحجم التهم الموجهة إليها دون براهين بصدمة قررت بعدها تكريس عملها لفضح تلك الأكاذيب والواقفين وراءها.

العالِم الحائز على جائزة نوبل للكيمياء “شيري رولاند” تعرض لحملة هجوم شرسة حين أعلن العوامل المؤثرة في تكوين فتحة الأوزون

 

حلف شركات الطاقة.. خطة لاستمالة الرأي العام

توصلت المؤرخة “نعومي أركسيس” -عبر صديق لها زودها بوثائق سرية تضمنت مراسلات داخلية لمعهد أمريكان بتروليوم- إلى أن العالِم الحائز على جائزة نوبل للكيمياء “شيري رولاند” قد تعرض لنفس الحملة التي تتعرض لها، ووجهت إليه نفس التهم عندما أعلن عن العوامل المؤثرة في تكوين فتحة الأوزون.

يسعى الوثائقي بعد هذا الاكتشاف الخطير لمعرفة المزيد من تفاصيله، وخلال البحث توصل إلى الاستراتيجية التي وضعتها مجموعة شركات أمريكية لإنتاج الطاقة في الاجتماع السري الذي ضم ممثليها عام 1988، حيث وضعت خطة عمل دعائي من ثماني نقاط هدفها تفتيت القناعات المتولدة عند العامة والسياسيين بخطورة ما تفعله شركاتهم بالبيئة والمناخ، وتقديم أنفسهم كمساهمين في الحد منها عبر ما يقدمونه من دعم مالي للمؤسسات العلمية والعلماء، كما واظبوا على تصوير الصراع بين العلماء وبينهم وكأنه انعكاس لصراع سياسي وفكري بين الرأسمالية التي يمثلونها وبين خصومها الاشتراكيين واليساريين.

مقر شركة شل النفطية في مدينة هيوستن في الولايات المتحدة الأمريكية

 

“شل” النفطية.. استغاثة بالسينما لتلميع الصورة الخارجية

يدقق الوثائقي في أساليب الترويج الإعلامي الذي تقوم به شركات إنتاج الطاقة النفطية مثل شركة “شل” النفطية، وذلك عبر إنتاجها أفلاما تقدمها وكأنها معين نزيه على خلق بيئة خضراء، إلى جانب كونها مؤسسة اقتصادية ناشطة لدعم البحوث والدراسات الهادفة للحد من الأخطار المحدقة بها.

يكشف الاستقصاء شدة ارتباط علماء وخبراء حصلوا على دعم مادي من هذه المؤسسة؛ بتلك الدراسات وتوجهاتها، وأن هؤلاء قد أثبتوا مواقفهم العلمية وفق مصالحهم المادية، لا وفق ما تقتضيه الأمانة العلمية.

يعترف بعضهم وبندم أمام الكاميرا على ما فعلوه، وعلى تكذيبهم حقائق دامغة، وذكّر قسم منهم بدور سابق لعبه هو أو غيره في الترويج لأكاذيب شركات صناعة السجائر والتبغ.

أكثر من 30 دولة أجمعت عام 2001 على منع شركات التبغ وإنتاج السجائر من تقديم الدعم المالي للبحوث المتعلقة بإنتاجها مباشرة

 

شركات إنتاج السجائر.. عقود من الإضرار بالمستهلك

رغم كثرة البحوث الطبية المحذرة من الأضرار الصحية الناتجة عن التدخين والإدمان على تعاطيه فإن شركات إنتاجه لم تتوقف عن عملها طيلة عقود طويلة، وقد نجحت في ربط مصالح مجموعة خبراء بالصحة العامة بمصالحها مباشرة عبر دور هؤلاء المدفوع الثمن، ويعمل بعضهم اليوم -كما يكشف الوثائقي- مع معاهد نفطية.

تأخر اتخاذ قرار حاسم بشأن البت بأضرار التدخين عقودا، ولم يُوضع أي حد له إلا في عام 2001 عندما أجمع أكثر من ثلاثين دولة على منع شركات التبغ وإنتاج السجائر من تقديم الدعم المالي للبحوث المتعلقة بإنتاجها مباشرة.

يكشف بعض علماء البيئة والعاملين في مختبرات شركات عملاقة لإنتاج الطاقة عن معرفة مديريها في وقت مبكر بالأضرار التي تسببها مصانعهم للبيئة، فالوصول إلى وثائق داخلية متعلقة ببحوث جرت في مختبراتها تبين معرفتهم المبكرة بمخاطر ما يتسرب من غازات خطيرة إلى الطبقات العليا من الجو، ومع ذلك فقد أصدروا أوامر للتكتم عليها وإعلان نتائج كاذبة معاكسة لها عبر وسائل إعلام ودعاية وضعت شعارا ثابتا لها: “التشكيك بالحقائق العلمية هو أفضل أسلحتنا”.

شراء الذمم العلمية.. فن التملص من الجريمة

لا يحمل العلماء الشركات العملاقة وأصحابها كل الذنب فيما يجري للبيئة، بل يضعون جزءا منه على العلماء الذين باعوا ضمائرهم لها، فهؤلاء استطاعوا بمكر خداع الناس حين أحالوا المشكلة على المستهلك من خلال قولهم إن الإقبال على التدخين ليس مشكلة الشركات، بل هي مشكلة المدخنين أنفسهم الذين يقبلون على شراء السجائر، ولم يشيروا إلى المواد الكيميائية المحفزة على الإدمان داخلها ولا إلى الدعاية النشطة لاستهلاك المزيد منها.

يحدث الشيء نفسه اليوم مع المشاكل المناخية، فكل الذنب على الطبيعة نفسها وعلى عامة الناس، أما الشركات والمصانع العملاقة فهي براء من تهمة التورط في تخريبها، وهناك دائما من يقف معها وينبري للدفاع عنها زورا.