حياة بريّة وسط صحراء الكونكريت

أمستردام – محمد موسى
يَفتَتَح الفيلم التسجيلي “تأثير السنترال بارك” زمنه، بمشاهد صورت من الجو لمدينة نيويورك الأمريكية، وبالتحديد لمحيط حديقة السنترال بارك في جزيرة مانهاتن، فيقدم صوراً، تحولت من فرط تكرارها الى أيقونة للمدينة الأمريكية الكوزموبوليتية. المشاهد تظهر بنايات شاهقة، بنيت على فترات مختلفة من القرن الماضي، بالوان تتراوح من الغامق الى لون السماء الأزرق، المنعكس من البنايات المغلفة بزجاج عاكس للضوء، تحيط بالحديقة العامة الشاسعة، والتي تشبه واحة خضراء، وسط صحراء كبيرة من الكونكريت. تصوير “نيويورك” من الجو، ليس جديداً عن السينما، فقائمة الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي فعلت الشيء ذاته في العقود الثلاث الأخيرة، طويلة كثيراً. مشاهد كهذه تحمل في الغالب وظيفة وترميز ما، ولتتحول الى جزء من منظومة الإشارات في لغة السينما التعبيرية، فهي تارة تكون إشارة لإنتقال أحداث القصص الى المدينة او خروجها منها، وأحيانا تَحضر لتقطع زمنياً بين المشاهد الأرضية، فتأتي لتفصل بين زمنين، وإشارة لإنقضاء زمن والبدء بآخر.

يَهتم فيلم ” تأثير السنترال بارك ” للمخرج الأمريكي جيفري كيمبل، بالحياة داخل “السنترال بارك”، وبالكاد يخرج من حدود تلك الحديقة العامة، فيذهب مرة واحدة فقط الى المدينة المكتظة بالسكان، والتي تحاصر الحديقة من كل الجهات. أما شخصياته فهي طيور الحديقة وبشر مهتمون منذ سنوات بمراقبة تلك الطيور. ستكون هذه العلاقة غير المألوفة، بين تلك الشخصيات والطيور، هي الأساس في الفيلم، والذي سيمنح هذه الوثيقة التسجيلية دفئاً غير متوقعاً. الفيلم سيمر أيضا على دور الإنسان في تخريب ما حوله من طبيعة، فالطيور، وحسب إحدى شخصيات الفيلم، هي الكائنات البريّة الوحيدة، التي بقيت بعيدة عن تدخل البشر في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يُفسر الإهتمام الذي يصل للهوس بهذه الكائنات (على الأقل بالنسبة للشخصيات التي ظهرت في الفيلم التسجيلي هذا).

تَصف كلمة ” Birders ” باللغة الإنكليزية علاقة بَشر، مثل أولئك الذين ظهروا في الفيلم، مع الطيور، وبالتحديد فِعل مراقبة الطيور. تقضي هذه الشخصيات ساعات طويلة يومياً، متجولة في الحديقة العامة، لمراقبة الطيور المختلفة الأنواع (يزيد عدد أنواع الطيور التي تتخذ من الحديقة مكاناً للعيش عن 65 نوعاً). يُشبه ما يقوم به هؤلاء المراقبين،هواية بشرية إخرى هي الصيد، لكن بدل القتل او الغنيمة، غاية فِعل الصيد، يكتفي مراقبي الطيور بالإستمتاع بالجمال الفريد لتلك الحيوانات الصغيرة الطائرة، يصوروها أحيانا بكاميراتهم الصغيرة والكبيرة، وعندما يَحِّل الظلام على الحديقة، يعود هؤلاء الى بيوتهم حاملين معهم إنطباعات وتجارب.

يختار الفيلم التسجيلي شخصية واحدة من بين شخصياته، ليسلط عليها إهتماماً مضاعفاً، حتى إنه سيغادر الحديقة لإجلها، ليسجل مقابلة معها في بيتها. هي سيدة أمريكية في بدايات عقدها السادس، تُنظم منذ سنوات طويلة جولات لمراقبي الطيور في الحديقة. تملك هذه السيدة معلومات واسعة ومفصلة عن زوار الحديقة من الكائنات الصغيرة الهَشّة. العمل اليومي في مراقبة الطيور لم يسلب هذه السيدة حماسها الطفولي لما تشاهده كل يوم في الحديقة العامة، والإكتشافات الصغيرة التي تصادفها. تعاني هذه المرأة من السرطان، بل هي في الجولة الأخيرة من معركتها الطويلة مع المرض، والذي سينال منها قريباً، كما تكشف هي نفسها. قصة هذه المرأة ستضيف هالة شفافة من الحزن على الفيلم التسجيلي، فبدا إن مجتمع مراقبي طيور الحديقة و”السنترال بارك “، وحتى الطيور نفسها، في طريقهما لفقد جزءاً من هويتها وروتينها اليومي.

يبدو التحدي الذي يواجه أي عمل فني معاصر، يصور حيوانات في محيطها الطبيعي، هو تقديم صورة مبهرة تقنياً، توازي ما يعرض في أفلام الطبيعة وعالم الحيوانات التلفزيونية، والتي وصلت بفضل إستثمارات وخبرات قنوات مثل “بي بي سي” البريطانية و “ديسكفري” الأمريكية، الى مستويات مذهلة من الجودة. فيلم ” تأثير السنترال بارك ” يخطو خطوات كبيرة في تقديم مستوى جيد لأفلام الطبيعة، هو لن ينافس “بي بي سي”.

لكنه لن يعود عشرات الخطوات او السنوات الى الوراء، فبعض المشاهد المُقربة للطيور، كانت متميزة صورياً والى حد كبير، وبعضها يُشير الى صبر طويل لفريق الفيلم، الذي بدا في معظم مشاهده وكأنه صُور في غابة بريّة إستوائية ، وليس في قلب مدينة لا تنام ، فالعالم الخارجي لن يظهر الا في مشاهد معدودة للغاية في الفيلم، كما ستساعد مساحة الحديقة الواسعة ، بان تصور الكاميرا العالم الأخضر في “السنترال بارك ” ، دون الخوف أن تظهر رؤوس البنايات العالية في الكادر.

يوازن الفيلم بين المعلومة المباشرة، وتوثيق التجارب الإنسانية المؤثرة. فهو وبعد أن بحث موضوع أنواع الطيور العديدة في الحديقة، يوجه، وبدون أن يغرق مشاهده في التفاصيل العلمية والإحصائيات او يتحول الى محاضرة توجيهيه، الإنتباه بأن وجود الطيور في الحديقة، لا يعني إن “وضع” الطبيعة على أفضل حال، بل العكس، فالطيور التي تتخذ من الحديقة مقرا لها لأشهر او أيام، أحيانا كإستراحة في طريق هجراتها الطويلة من قارة الى آخرى، هو إشارة عن تضاءل المساحات الخضراء في المنطقة، الأمر الذي يدفع الطيور، بالتحليق وسط فوق كل ناطحات سحاب المدينة للوصول الى البقعة الخضراء الوحيدة فيها.