“وُلدتْ لتكون حرة”.. حيتان بيضاء في مسلخ روسي

قيس قاسم

لم يعد إنتاج وثائقيات عن صيد الحيتان البيضاء واستخدامها لأغراض تجارية ترفا فكريا أو بطرا غربيا، وذلك لشدة علاقة وجودها أو انقراضها بالتوازن الدقيق للبيئة، وأن أي خلل جدي فيها يؤثر سلبا على وجود الإنسان وبقية الكائنات على الأرض. ومن هنا تأتي أهمية فيلم ” وُلدتْ لتكون حرة” (Born To Be Free) عن صيد الحيتان البيضاء في روسيا واستخدامها لأغراض تجارية.

 

لذا فإن منجز الروسية “غايانا بيتروسيان” يكتسب معناه وأهميته من أهمية الموضوع أولا، ومن كشفها خفايا عمليات صيد هذه الحيتان والاتجار بها تحت غطاء علمي، وعلى المستوى الفني فإن أصالته تستحق التنويه مع أن أسلوب اشتغاله شديد القرب من فيلمين تناولا قبل سنوات موضوع صيد الحيتان؛ لبيع لحومها كما سجله المخرج والمصور “لوي بسيهيوس” في “الكهف” واستحق عليه جائزة الأوسكار عام 2010، ومنجز “غابرييلا كوبرثوايت” “الحوت الأسود” عام 2013 وعبره استقصى أسباب تحول سلوك حوت صغير من نوع “أوركا” نُقل إلى حدائق “سيلاند”، وبعد عدة حوادث اعتداء على مدربيه أطلقت عليه وسائل الإعلام الأمريكية ثانية لقب “الحوت القاتل”.

حيتان حرة.. من سعة البحر إلى ضيق البرك

بجهدها البحثي المذهل أحالت غايانا أسباب الأزمة التي يعيشها الحوت الأبيض إلى الإنسان وجشعه ورغبته في الانتفاع من ثدييات بحرية لا يتورع عن عزلها في أحواض سباحة صغيرة لا تتوافق مع تكوينها الفطري، وهو ما يولد عندها نزعة انتقامية، وفي أحيان كثيرة تأتي تعبيرا حادا عن رغبتها في التخلص من أَسْرِها بالموت انتحارا. فالحيتان ولدت في البحار والمحيطات حرة ولا يمكنها العيش إلا وفق شروط البيئة الحاضنة لها.

من سعة المحيطات إلى ضيق الأًسر

 

وهذا ما يحاول البشر خرقه والتلاعب به كما يتجلى في فيلم “وُلِدت لتكون حرة” الذاهب بعيدا في كشف واقع صيد وتجارة الحيتان وثدييات بحرية أخرى في روسيا انطلاقا من دوافع شخصية أول الأمر، ثم سرعان ما تحولت لهواجس تحقيقية، أخذت طابعا سريا في الغالب، وأفضت في النهاية إلى وثائقي جمع بين جماليات التصوير تحت الماء والمغامرة والرغبة في كشف المستور دون وَجَل.

 محققة سرية.. مهمة إنقاذ

من على قارب رسا وسط البحر الأسود، كانت فتيات روسيات من هواة الغوص يقفزن إلى مياهه وفي أعماقها يقابلن دلافين كانت تتحرك بانسجام وهدوء، وبعد لحظات تشرع بالرقص مع زوارها دون خوف.

ذلك المشهد صُور بكاميرا رقمية شخصية صغيرة مقاومة للماء، ولم يخطر على بال صاحبتها أنها سوف تظل ترافقها طيلة رحلة بحثها المضنية التي بدأت حال وصولها إلى الشاطئ، ورؤيتها عشرات الأحواض الصغيرة التي تُعرض فيها حيتان بيضاء “تبتسم” للجمهور وتتقافز أمامهم.

تحولت رحلتهن من مراقصة الحيتان البيضاء إلى مهمة لإنقاذها

 

المقارنة بين وجودها في أعماق البحر ورؤيتها تسبح في حوض مطاطي؛ استدعى عند الغواصات الهاويات سؤالا عن ظروف معاملة تلك الدلافين وكيف يمكنها العيش بعيدا عن البحر وكيف وصلت إلى اليابسة أصلا؟

وما زاد من حدة السؤال وارتقائه إلى مستوى الفضول ظهور أخبار حال وصولهن إلى موسكو تفيد بإيقاف السلطات القضائية الأمريكية صفقة نقل 18 حوتا أبيض من أحد مراكز البحوث العلمية في روسيا إلى إحدى حدائق الحيوانات في ولاية جورجيا.

أخذ الخبر مكانه في وسائل الإعلام الروسية لدخول الممثلة “كيم باسنجر” على الخط وكتابتها رسالة إلى الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” مباشرة، تطلب فيها منه المساعدة لتخليص الدلافين من أَسرِها، وإرجاعها إلى البحر بعد فشل الصفقة.

الرسالة والمشهد على اليابسة وضع على عاتق الفتيات الروسيات مسؤوليات أخلاقية، وجعل منهن “محققات سريات”. وما كان على صانعة الوثائقي غايانا بيتروسيان حينها سوى مرافقتهن وصياغة مغامرتهن سينمائيا.

تجارة رابحة.. بغطاء حكومي

تقع محطة أبحاث العلوم البحرية في مدينة “أوترش” القريبة من البحر الأسود، وقد جاءت فكرة استخدام الحيتان البيضاء لأغراض تجارية ربحية من قبل عالِم الأحياء المائية “ليف ميغاميتوف”، وكان دافعها اقتصاديا بالدرجة الأولى.

وجاء المشروع بعد عجز الدولة إبان الثمانينيات عن تمويل البحوث الخاصة بالحيتان والثدييات البحرية، ولهذا وحفاظا على وظيفته اقترح العالِم سد تكاليفها من كدح “الحيتان البيضاء” نفسها. فعروضها الراقصة أمام الجمهور تدر أرباحا، وبعد استهلاكها يمكن بيعها إلى دول أخرى بأثمان غالية.

يزداد الطلب بشراهة على الحيتان البيضاء وبخاصة في الصين لأهداف تجارية وتسويقية

 

ومع الوقت حوّل عالِم البحريات المشروع الحكومي إلى شخصي، حين قام ببناء “أكواريوم” خاص به تدخل كل أرباحه في جيبه الخاص. وهكذا توسعت تجارته ولم تتدخل الدولة ولم تسأل مؤسساتها البحرية عن مصدر حيتانه وكيف تعيش داخل “مصانعه”.

عدوى هذه التجارة الناشئة أصابت كل سواحل البلاد ووصلت أقصى نقطة فيها، لنكتشف بعد مدة قصيرة أن رجال الدولة كانوا يتواطؤون مع أصحابها ويتسترون على عملية صيد الحيان والاتجار بها، وأن الرئيس الروسي بارك “دراستها” ليظهر أمام الرأي العام كحام للبيئة وراع للمشاريع العلمية.

فقد ظلت تجارة الحيتان وبقية الثدييات البحرية في روسيا مغطاة رسميا، وتخضع في الظاهر إلى رقابة ومحاسبة، وهو ما صعب من عملية كشف التلاعب فيها أو حتى الإعلان عن حجم الخسارات التي تتعرض البيئة البحرية بسببها.

كاميرا صغيرة.. الكشف عن مقابر سرية للحيتان

توصلت الشابات المغامرات إلى وجود مقبرة سرية تُدفن فيها الحيتان البيضاء النادرة، ويتم تعويضها بحيتان جديدة لا تدخل رسميا ضمن “حصص” روسيا الدولية.

أظهر التصوير السري لعمليات صيد الحيتان في البحر الأسود أن فصل صغار الحيتان عن أمهاتها لا يكلف أصحاب الأحواض سوى بضع كيلوغرامات من “الكافيار” الثمين يستلمه موظف الدولة ليسكت على كل ما يجري من مجازر أمام عينيه.

كل ذلك صُوّر بسرية وبكاميرا رقمية صغيرة ثُبتت عن بعد، وهو ما يكشف عن قدراتها التقنية الرائعة وإمكانية استخدام صناع الوثائقي لها على نطاق واسع إذا ما أحسن حاملها التعامل معها وكيَّفها لخدمة موضوعه، كما جرى بالفعل حين تم تصوير فيلم “ولِدت لتكون حرة” كله تقريبا بكاميرا من ذلك النوع وصور بها هواة.

كاميرا صغيرة فضحت العيش المقرف للحيتان في مقابل ما تقدمه من خدمات سياحية لأصحابها

 

وللتوقف عند حقيقة الأوضاع التي تعيش في ظلها الحيتان داخل أحواض العرض، ذهبت الفتيات إلى مدينة سانت بطرسبيرغ، وهناك سجلن تفاصيلها. فكل ما فيها لا يلائم عيش كائنات ولدت وسط مساحات واسعة يمكنها فيها فقط الشعور بوجودها الطبيعي.

وتؤدي الأوساخ وارتفاع حرارة المياه دوما إلى موت هذه الحيتان، وأحيانا تتقاتل فيما بينها خروجا عن سلوكها المعتاد، ومع ذلك لا تقارير معلنة عما يجري هناك. وعلى العكس ثمة صورة نمطية تتسارع وتيرة عرضها إعلاميا وإعلانيا تصور الحيتان على الدوام سعيدة وفرحة بخلاصها من بيئتها الأولى.

وتكشف مقابلات الغواصات لعدد من العلماء عن أكاذيب الدعاية، فكل ما يتعلق بوجود الثدييات البحرية يتنافى مع طبيعتها، وما الرقص والحركات البهلوانية المبتهجة سوى تعبير عن فرحتها بالأسماك المقدمة لها، وحتى هذه ميتة تُجبر على التعود عليها، وإلا فالموت جوعا سيكون مصيرها.

تفاصيل عيشها المقرف يقابله شرح وافر عنها، ربما من المرات القليلة التي يتوفر لوثائقي فرصة عرض كم كبير من معلومات دون أن تفارقه الصورة، وهو ما ساعد على إشباع رغبة المتلقي في معرفة الكثير عن الحيتان البيضاء وما تتعرض له من مجازر في روسيا وكان وجودها سببا أيضا في رفع مستوى الوثائقي كثيرا.

الحيتان الـ18.. تجارة سرية تطوف الأرض

في كل مرحلة من تطور مسار الفيلم، كان السؤال عن الحيتان الـ18 التي يتابعها واردا، وفي النهاية سيتم التركيز عليها لأنها ستنقل الفيلم إلى عوالم جديدة يتضح من خلالها حجم التجارة السرية فيها ودور دول بعينها في التشجيع عليها وفي مقدمتها الصين.

مقابلة ناشطين بيئيين هناك أماط اللثام عن طلب يزداد باضطراد على الحيتان البيضاء، فغِنى مدن صينية وازدهارها يتطلب موضوعيا إشباعا لسوقها الترفيهي والاقتصادي، وتجارة الحيتان تأخذ مساحة كبيرة منها. لهذا تحولت جزيرة “نتيكالوف” الروسية إلى واحة لصيد الحيتان وتصديرها إلى الخارج، وكان وصول الحيتان البيضاء إلى الطرف الآخر من الكرة الأرضية قريبا من التحقق لولا تدخل جهات رسمية وبيئية ناشطة طلبت منع الولايات المتحدة الأمريكية من الدخول إلى “سوق” الحيتان والثدييات.

الحيتان سوق رابحة للأكواريوم إذ تجلب السواح والزوار لرؤية كائنات بحرية نادرة

 

وكان لمتابعة مجريات المحاكم وكسب ولاية فرجينيا الدعوى ضد أصحاب الـ”أكواريوم” التجاري؛ الفضل في تبيان مقدار الدور الإيجابي الممكن تحقيقه، والقدرة على تعرية أكاذيب أصحاب الشركات وادعاءاتهم بتوفير المعرفة والمتعة للجمهور الأمريكي دون إلحاق ضرر بالبيئة البحرية.

وللتأكد من ذلك يأخذنا الوثائقي إلى عرض راقص للغواصات الروسيات مع الدلافين في عمق البحر. مناظر رائعة سُجلت بصحبة موسيقى رائعة وقدمت بصورة باهرة تُنسي المشاهد لحظات البؤس الذي تعانيه بقية الحيتان على اليابسة، وتؤكد أن من يولد حرا لا يمكنه العيش في أقفاص أو أحواض مطاطية تُسرِّع في موته وتُفقد كوكب الأرض جزءا مهما من توازنه البيئي.

وعلى المستوى السينمائي تتأكد مجددا إمكانية كشف الوثائقي عن الكثير من الأسرار والخفايا بأبسط الوسائل، وبها يمكنه أحيانا تحقيق نتائج غير منتظرة حتى لو جاءت عن طريق هواة أو أُناس عاديين يتمتعون بحس تصويري مرهف ورغبة صادقة في نقل الحقائق إلى العالم.